#########

الضحايا

زينة تروي قصتها… صوروا السجينات عاريات إلا من رقم وهددونا بــ”السطع”


ثلاثة أيامٍ قضيناها برفقة مُتّهماتٍ بـ"الدعارة والسرقة والتسوّل" ثُمّ اقتادونا إلى "جناح النساء في سجن عدرا المركزي"، هناك الأمر مُختلف تماماً، فبالرغم من غياب أبسط حقوق المعتقلين فيه، إلّا أنّه يُعدّ سجناً مدنيّاً كفندق خمس نجوم، مقارنة مع ما مررنا به في جحيم الفرع.

23 / أيلول / سبتمبر / 2018


زينة تروي قصتها… صوروا السجينات عاريات إلا من رقم وهددونا بــ”السطع”

 

تطلق “زمان الوصل” سلسلة جديدة باسم “سوريات في سجون الأسد”، تهتم بالسوريات المعتقلات والمفرج عنهن، والمفقودات… 
تبدأ السلسلة بقصة عائدة حاج يوسف، الملقبة بــ”زينة”… التي تقص عشرات القصص عن الموت والإغتصاب والتعذيب في سجون الأسد.
تبدأ بقصتها
زينة… الجزء الأول
وسط شعور استهتار الكون بإنسانيتنا قيّدوا يدي بيد أختي…
أيّ ذنبٍ اقترفته حتى تعرضت لما تعرضت له في سجون الأسد؟
أيّ قانونٍ يسمح بإقصاء كياني وتجريدي من إنسانيتي؟
أيّة شريعةٍ تسمح بحرماني أطفالي؟
وأيّ عرفٍ يُخوّلهم استبدال اسمي برقم؟
وأيّة اعتباراتٍ اجتماعيةٍ تجعلهم يتخلّون عنًي؟
ما زالت تلك الأسئلة مرفقةً بالرقم “826” تراودني كُلّ لحظةٍ منذ تاريخ اعتقالي ليلة 27 كانون الأول ديسمبر/2016 وزجي بسجن فرع الأمن العسكري بمحافظة حماه بذريعة التظاهر ضد ما يطلقون عليه في عالمهم الإجرامي “نظام الحكم” ومُعالجة الجرحى المدنيين الذين أُصيبوا جراء قصفهم الهمجي على المناطق الثائرة.
بعد فخٍ نصبوه لي بمساعدة أحد أقربائي وهو من الضباط النافذين لدى النظام والمنتفعين منه، ألقوا القبض عليَّ مُحققين انتصارهم، صادروا حقيبتي الشخصية وهاتفي الجوال، وأخلعوني كامل ثيابي لأجل التفتيش، وهي سنّةٌ لديهم كُلما أرادوا منح الإقامة الاستثنائية لأحدٍ في فنادقهم الهوليودية وأفلام الرعب خاصّتهم بصورةٍ واقعية”، كأنّني مُجرمةٌ خطيرة، مُجرّدةً من الإنسانية في حدودها الدنيا.
أنزلوني معصوبة العينين، طوابق عديدة تحت الأرض مررت بها، كلماتهم السيئة شتتت أفكاري، فقدّت تركيزي، وضعوا أشيائي في كيس نايلون شفاف مكتوبٌ عليه “برسم الأمانات”، ولصقوا على صدري اسماً جديداً “الرقم 826” والتقطوا لي العديد من الصور بكل الاتجاهات كأنّهم سيعرضونها في غلاف إحدى المجلات المشهورة!
بعد ساعاتٍ قضيتها في زنزانةٍ لا تتعدى مساحتها “مترين ونصف” شاركت خلالها ثلاثة وعشرين سيدة مُعتقلة التهم ذاتها، فتيات في مقتبل العمر، نساءٌ في سنٍ مُتقدّم، وأمٌ بصحبة أطفالها الثلاثة، إنّه كابوس، لا إنّه نهاية العالم، لا لا، لا بدّ أن يكون كابوساً ينتهي العالم بآثاره.
أبوعلي السجان
وسط ذهولي يقرع السجان باب الزنزانة بقوّة فيعمّ الرعب بين السيدات المُعتقلات، يفتح الباب “أبو علي” السجان واضعاً يديه على خصره يُنادي “ست زينة” “زينة، هو اسمي المعروفة به في محيطي الاجتماعي” تفضلي معنا، يُريدك رئيس الفرع، أبلغونا عدم إزعاجك، على ما يبدو أنّك مدعومة، قيّدوا يداي برباطٍ أبيضٍ وعصبوني بغطاءٍ أسود حجب النور عن عيناي، لم يخطر لي أن أسأل إلى أين، تم جرّي من رباط يديّ صعوداً مروراً بإحدى الأبواب التي نزعوا أمامها عصبة عيني السوداء، حالة جمود لا تُوصف، تجمّد كُلّ جسدي، غابت مشاعري، سردابٌ طويل، بُقعٌ من الدّماء تُغطّي بلاط الأرض وطلاء الجدران، جنازير مُعلّقة في الحائط وأخرى مُتدلية من السقف، شُبّان بثيابهم الداخلية المُمزّقة، عُلّقوا من أيديهم، تكاد أقدامهم لا تطأ الأرض، سبابة أحدهم التصقت بالجدار كمسمارٍ مغروس…
أُعيدت عصبتي مكانها وأكملوا طريقهم في اقتيادي لرئيس فرعهم “المقدم محمد المقداد” عرفت ذلك من اللوحة المكتبية الموجودة على طاولته، سبيةً أنا في تلك الواقعة، وصلنا المكتب.
قال أبو علي: سيدي هذه زينة، فصرخت بقوّة دون شعور أو تخطيط “شو عاملة أنا لتعاملوني هيك، يردّ رئيس الفرع لماذا منفعلة “حدا سطعك” (أي هل من أحد اغتصبك)، توقفت عن الكلام حين سمعت خطوات أحدهم تقترب مني “أبو علي انزع العصبة عنها، تفضّلي اجلسي، لماذا ترتجفين أنت خائفة؟ لست خائفة ومن ماذا أخاف؟ أشعر بالبرد ليس إلّا، ولماذا لونك أصفر؟ يصفرّ أحيانا حين ينخفض ضغطي، لماذا شاركتِ بالمظاهرات ضد سيادة الرئيس؟ لماذا ساهمت بعلاج المُسلّحين؟ تسلل البرد لجسدي أكثر، “كنت أسمع أنّ الأفرع الأمنية فيها ظلم وحقد، لكن ما صدقت أنّه لهالدرجة إلي شفتها هلأ بعيني”، لم أعرف كيف نطقت بهذه الجملة لأفارق الحياة بشكلٍ مؤقّتٍ مُستيقظةً وجسدي مُكبّل مع سريرٍ حديدي في قسم العينية بمُستشفى حماه الوطني.
هددوني باعتقال ابنتي
بعد 21 يوماً مُريحاً للغاية قضيتها في المستشفى لسبب اشتباه الأطباء بإصابتي بكتلة في الكبد أعادوني إلى فرع حماه لتوقيع أوراق الاعترافات التي لم يحاولوا انتزاعها مني، رفضت التوقيع، فأخبرني أحد ضباط التحقيق أنّ أختي موقوفة لديهم في مُنفردة منذ 15 يوماً وما من مانع لديهم من اعتقال ابنتي ذات الخمسة عشر عاماً، وأكّدت لي ذلك إحدى السيدات الموجودات في غرفةٍ مجاورة، فلبّيت رغبتهم ووقّعت على ما لم أرَه وما لا أعرف.
وسط شعور استهتار الكون بإنسانيتنا قيّدوا يدي بيد أختي ونقلونا في سيارةٍ مُعدّةٍ لنقل الجنود الإلزاميين إلى جهةٍ مجهولة في العاصمة دمشق، سائق السيارة ذو الأسنان الصفراء لم يُخفِ للحظةٍ رغبته بقتلنا جميعاً، طوال الطريق، ولا أسمع سوى الأغاني الحزينة حتى فقدّت أعصابي واغرورقت عيناي واشتدّت دموعي ليسيطر البكاء، فلم أعد قويّة كما يعرفني البعض وفقدّت رباط الجأش شاعرةً بالعار والانكسار اتجاه أختي المُقيّدة بمعصمي.
ساعاتٍ قليلةٍ في الطريق كانت كأيام طويلة وصلنا بعدها إلى مبنى الشرطة العسكرية في حي “القابون” وسط العاصمة دمشق، ومن هناك إلى مخفر حي “كفر سوسة”، وصلنا جائعتين مُنهمكتين مُرهقتين، دخل الزنزانة شرطي وأعطيته قرطاً من الذهب كان في أذني بسبب فقداني للمال طالبةً منه الطعام، فأحضر “سندويشة فلافل” واحدة تقاسمتها مع أختي، ومن لا تملك شيئا ذا قيمة لم تحصل على الطعام
ثلاثة أيامٍ قضيناها برفقة مُتّهماتٍ بـ”الدعارة والسرقة والتسوّل” ثُمّ اقتادونا إلى “جناح النساء في سجن عدرا المركزي”، هناك الأمر مُختلف تماماً، فبالرغم من غياب أبسط حقوق المعتقلين فيه، إلّا أنّه يُعدّ سجناً مدنيّاً كفندق خمس نجوم، مقارنة مع ما مررنا به في جحيم الفرع.
وصلنا خائفتين مرعوبتين من مجهولٍ يسكن ملامحنا وسط تعويم الظلم وغياب العدالة، استقبلنا سيدات مُعتقلات وسجينات لهن فترة طويلة في السجن، قمن بتأمين احتياجاتنا الرئيسية وثيابٍ نظيفةٍ وحمامٍ ساخنٍ أعقبه كوب من الشاي، ثُمّ أحاديث تُشعرنا قليلاً بالأمان والاسترخاء تارةً، وتارةً أحاديث ممزوجة بالقهر والألم نابعةً من رحم الألم تُعيدنا إلى واقعنا الذي نعيشه.
أخبرتني إحدى السجينات أنّهم يستطيعون إجراء اتصال هاتفي لمدّة ثلاثة دقائق مع العالم الخارجي البعيد عن ما تراه الفتيات المُعتقلات، سرحت في خيالي، هل بكى أطفالي بغيابي؟ هل تناولوا طعامهم؟ هل يتلقون احتياجاتهم المعنوية والمادّية؟
تناولت سماعة الهاتف بمشاعر مُضّطربة بين الخوف والاشتياق والسرور المؤقّت، تلعثمت بنطق الأرقام للشرطية التي تُلقّم الهاتف، رن جرس الطرف الأخر، وصل صوت المُتلقي بارداً “مين عالخط” ؟ أنا .. أنا … أنا زينة، أنا الآن في سجن عدرا، أريد محاميا بشكل سريع، أعطني أبنائي أكلّمهم، وأحتاج للمال والثياب “كُل ذلك مُتلهّفة” دون أن أنتبه بأن الخط أُغلق في وجهي.
.
.