#########

العدالة والمساءلة

المحامي البارز “أنور البني” للغارديان: هدفي هو العدالة لجميع السوريين..


كرس أنور البني حياته لحقوق الإنسان في سورية. الآن هو في المنفى بألمانيا، وهو جزء من أول محاكمة تاريخية على جرائم الحرب ضد نظام بشار الأسد

13 / كانون أول / ديسمبر / 2020


المحامي البارز “أنور البني” للغارديان: هدفي هو العدالة لجميع السوريين..

ترجمة: خاص مع العدالة – المصدر: The Guardian | Emma Graham-Harrison


كان أنور البني في ألمانيا عندما دخل متجراً ووجد نفسه وجهاً لوجه مع الرجل الذي يعتقد أنه استجوبه وسجنه قبل عقد من الزمان. تواجد الرجلان وهما يشتريان من متجر تركي بالقرب من بوابات “مارينفيلد- Marienfelde“، مخيم اللاجئين في برلين.

كان ذلك في عام 2014، أي قبل عام من قرار “أنجيلا ميركل” فتح حدود ألمانيا أمام اللاجئين، مما أدى إلى فرار أكثر من مليون شخص بسبب الحرب والصراع في البلاد. ومع ذلك، وجد آلاف السوريين طريقهم بالفعل إلى برلين. كان البني، وهو محامٍ حقوقي يتمتع بخبرة تزيد عن ثلاثة عقود بمعارضة النظام السوري في المحاكم، قد قضى عدة سنوات داخل سجونه بسبب إثارة القلق للنظام وكشف انتهاكاته، مع مجموعة كبيرة تضم زملاء له وأصدقاء معارضين سابقين.

يتذكر البني قائلاً: “كنت مع زوجتي، وقلت لها: “أعرف هذا الرجل” لكنني لم أستطع تذكر من كان. “ثم، بعد بضعة أيام، قال أحد أصدقائي: هل تعلم أن أنور رسلان في مارينفيلد معك؟” عندها أدركت ذلك“.

درس الاثنان، اللذان ولدا بفارق أربع سنوات، القانون، لكنهما اختارا استخدامه على طرفي نقيض من النظام السياسي الاستبدادي في سورية. أصبح رسلان ضابط شرطة، قبل أن ينتقل إلى أجهزة الاستخبارات، حيث قام لاحقاً في احتجاز البني.

في ذلك الوقت، لم يفكر البني في المواجهة أكثر، فاستقر على ملفاته القانونية، وواصل عن بعد نفس النضال ضد نظام الأسد  وانتهاكاته. يقول البني عن رسلان: “أنا لا أكرهه كشخص”. “أعلم أن المشكلة تكمن في النظام. لذلك لم أشعر بأي شيء في الواقع“.



ومع ذلك، في غضون أربع سنوات، تقاطع طريق الرجلين مرة أخرى، وعكس موقعهما السابق، حيث أعدّت ألمانيا قضية تاريخية في المحكمة. هذه المرة كان البني يعمل مع السلطات، ويساعد المدعين العامين الألمان، بينما يواجه رسلان عقوبة السجن.

بعد ما يقرب من عشر سنوات حرب في سورية، أصبح رسلان أول شخص يواجه المحاكمة – في أي مكان حول العالم – بسبب التعذيب والقتل الذي يمارسه النظام السوري ضد المدنيين خلال الصراع. وقد ساعد البني، الذي كان شوكة في خاصرة مسؤولي دمشق، في العثور على شهود هم مستعدون للإدلاء بشهاداتهم.


“أنور رسلان يصل إلى المحكمة ليواجه المحاكمة في ألمانيا. الصورة: وكالة الصحافة الفرنسية” 

وقد اتُهم رسلان، وهو عقيد سابق في أجهزة الاستخبارات السورية، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، في السنوات الأولى من النزاع، قبل أن ينشق في عام 2012. وفي ذلك الوقت، كان يعمل لصالح الاستخبارات العسكرية، ويُزعم أنه ترأس قسم تحقيق في الفرع 251 سيئ السمعة، الذي كان له سجن خاص به. هناك، كما يزعم المدعون العامون، أن رسلان أشرف على عهد من الرعب، حيث تعرض السجناء للتعذيب بما في ذلك الصدمات الكهربائية والضرب والاعتداء الجنسي على مدى 16 شهراً. وتضم لائحة اتهامه أن أكثر من 4000 شخص تعرضوا للتعذيب هناك خلال تلك الفترة، و 58 معتقلاً ماتوا.

بدأت محاكمة رسلان في 23 نيسان/ أبريل في “كوبلنز“، وهي مدينة تاريخية على ضفاف نهر الراين بين فرانكفورت وكولونيا، أمام هيئة من ثلاثة قضاة.. ومن المتوقع أن تستمر أكثر من عام. إلى جانبه كان إياد الغريب، الذي يقال عنه إنه خدم برتبة أقل تحت قيادة رسلان في دمشق.

لقد كانت لحظة تاريخية لعدد لا يحصى من السوريين الذين نجوا من غرف التعذيب عند النظام السوري، أو فقدوا أحباء لهم. وفي حالة إدانته، يواجه رسلان عقوبة السجن المؤبد.

لقد اندلعت الحرب السورية منذ ما يقرب من عشر سنوات، وخلال صراعه من أجل البقاء في السلطة، خرق نظام بشار الأسد القانون الدولي مراراً وتكراراً، مستخدماً التعذيب وهجمات بالأسلحة الكيميائية، ومستهدفاً المستشفيات وغيرها من البنى التحتية المدنية. وعلى الرغم من كل الفظائع التي ارتكبها تنظيم “داعش” وأطراف أخرى في النزاع، لا تزال القوات الموالية لنظام الأسد مسؤولة عن غالبية الخسائر في صفوف المدنيين وحالات الاختفاء داخل سورية.

هناك أمل ضئيل في تحقيق العدالة سواء في الداخل أو في المحاكم الدولية. ومع هزيمة وانحسار المعارضة إلى حد كبير في الداخل السوري، من غير المرجح أن يحاكم الأسد ومساعديه أمام المحاكم المحلية. ولأن سورية ليست طرفاً في المحكمة الجنائية الدولية، فإن نظامها لا يمكن أن تلاحقه النيابة العامة للمحكمة الجنائية الدولية. إنما، يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يطلب إجراء تحقيق، لكن روسيا والصين منعتا مراراً محاولات القيام بذلك. كما تعثرت الدعوات إلى إنشاء محكمة خاصة، مثل تلك التي حاكمت جرائم الحرب في “يوغوسلافيا” السابقة.


“أول محاكمة لأعضاء أجهزة الأمن السورية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية تجري في ألمانيا. تصوير: رويترز”

وهذا يجعل المحاكم الوطنية هي السبيل الوحيد الممكن أمام الناجين لمحاولة محاسبة شخصيات النظام. حيث تُدرج دول مثل ألمانيا مبدأ الولاية القضائية العالمية في قوانينها، مما يسمح للمحاكم بمحاكمة شخص ما على جريمة ارتكبت في أي مكان حول العالم، إذا كانت خطيرة بدرجة كافية.

هذه المحاكمة ليست المحاولة الأولى لمقاضاة الطبقة المسؤولة في سورية: فقد صدرت عدة أوامر اعتقال بحق شخصيات بارزة من قبل الحكومات الغربية. لكن النخبة والضباط في النظام مختبئون بأمان داخل سورية، ولا يسافرون إلا إلى الدول الحليفة التي لن تتخلى عنهم أبداً. لذا، فإن هذه المحاكمة هي المرة الأولى التي يواجه فيها شخص متهم بدور رئيسي ومسؤول في سجون النظام السوري.

  • أسئلة – حول كيفية عمل غرف التعذيب، وكيف ساعدت في دعم نظام بشار الأسد.

أنور البني أمضى معظم حياته في صراع خطير وغير مثمر إلى حد كبير من أجل حقوق الإنسان، في بلد أصبح مثالاً على الانتهاكات. بطريقة ما، هذا لم يقلل من طاقته أو يضعف روح الدعابة لديه.

في سن الـ 61، لمّا تزل نظرته مرتبطة بقناعة وطاقة الشباب. حيث يقول: “لم أفقد إيماني أبداً“. وعندما سألناه عما إذا كان يأس يوماً من كفاحه من أجل سورية أفضل. قال: “أنا متأكد من أننا سنفوز.”

يدرك البني تماماً أنه ليس سعيداً، فذلك مستبعدٌ، على خلفية المأساة العميقة التي اجتاحت سورية. حيث قال ذات مرة: “أتمنى ألا يعتقد أحد أنني دون كيشوت“.

يقدر عدد القتلى السوريين بأكثر من نصف مليون شخص وعشرات الآلاف في عداد المفقودين. فرّ أكثر من نصف سكان البلاد من ديارهم، وأصبح 6.6 مليون لاجئين في الخارج، مع نزوح عدد مماثل تقريباً ضمن الأراضي السورية.

كما أن انتهاكات حقوق الإنسان سبقت الحرب بوقت طويل. إذ فشل كفاح البني الطويل من أجل سورية أكثر ديمقراطية في كبح سلوك النظام السوري، حيث تم اعتقاله عدة مرات، بما في ذلك حكم بالسجن لمدة خمس سنوات. إنه يعرف قيمة فقدان الأحبة في السجون. وقد أمضت شقيقته، وأشقاؤه الثلاثة، وزوج أخته كسجناء سياسيين في السجون السورية.

وعلى الرغم من أن عمل البني في سورية قبل الحرب كان ذائع الصيت، إلا أن عائلته عانت من ضائقة مالية في أغلب الأحيان لأنه تولى قضايا دون مقابل مادي. واضطهدت سلطات الأسد زوجته التي فقدت وظيفتها كمساعدة هندسية في عام 2007 ومُنعت من السفر.

-يقول بابتسامة حزينة: “هي ترى أن أصدقائي يمتلكون منازل جيدة، وسيارات ثمينة، حيث كانت تعلم أنني من أفضل المحامين”. “لقد عانت كثيراً بسببي.”

عندما سألته عما إذا كانت قد طلبت زوجته منه تغيير مهنته، ضحك وقال: “الأمر معقد”، قبل أن يعترف بأنها حاولت منع طفليهما من السير على خطاه، وطلبت منه ذات مرة إنهاء إضرابه عن الطعام في السجن لأن أولادهما كانوا قلقين للغاية لدرجة أنهم لا يستطيعون الدراسة.

حينما فرّ البني أخيراً من وطنه في عام 2014، كانت حكومة النظام على أمل في أن الأمر ليس له أهمية. ولم يكن هناك طريق واضح لمواصلة عمله في أوروبا التي سئمت الحرب في سورية وركزت على محاربة داعش. وبدلاً من ذلك، نما نفوذه.

قد تبدو قصة حياة البني أسطورة أكثر من كونها حقيقة، فهي مليئة بالتقلبات غير المتوقعة والمصادفات غير المحتملة، قبل وقت طويل من لقائه في برلين مع رسلان.

توفي والده، وهو صائغ ذهب تضمنت اختصاصاته صناعة التحف، و عندما كان في الثانية عشرة من عمره، عمل البني في مهنته لدعم عائلته بينما أنهى إخوته دراستهم.

قرّر البني أن يصبح محامياً بعد مشاهدة أشقائه وهم يغيبون في السجون بسبب توجهاتهم السياسية. ولكن مع استمرار نفاد المال لدى الأسرة، عمل في البناء في أوائل الثمانينيات قبل أن يبدأ التدريب القانوني، وفي تلك السنوات ساعد في بناء أسوأ سجن في سورية –صيدنايا، بالقرب من دمشق.


“أنور البني، على اليسار، في عام 1982، في صيدنايا، السجن الذي ساعد في بنائه أثناء عمله في البناء قبل أن يبدأ التدريب القانوني. تصوير: بإذن من أنور البني”

يقول البني الآن عن المشروع، (سجن صيدنايا)، والذي كان يعرف أنه من المرجح أن يضم أحد إخوته المسجونين: كان مصمماً أصلاً ليكون سجناً أكثر إنسانية.. و “كنت سعيداً عندما رأيت المخطط. “لم يكن هناك شيء تحت الأرض – في كل الغرف كانت الشمس والهواء، وكان هناك مكان لممارسة الرياضة وكرة القدم وكرة السلة“. ولكن بحلول الاستعصاء، أو الإضراب الذي قام به المعتقلون في عام 2008، تحوّل سجن صيدنايا بالفعل إلى مكانٍ للانتهاكات والتعذيب.

لم يكن البني يوماً مؤمناً بحزب أو دين، فقط بالروح الإنسانية وحقوق الفرد. يقول: “لم أصدق أبداً أن الله يريد مساعدتي، ربما لأنني لم يكن لدي سوى الاعتماد على نفسي منذ أن كنت في الثانية عشرة من عمري”.

ويضيف أن الأنشطة التي ساعدته في السجن في عام 2006 – بما في ذلك صياغة دستور ديمقراطي جديد لسورية مقترح مع نشطاء آخرين – كانت بمثابة تحدٍ ليس للأسد فحسب، بل لخصومه. “الجميع يعد بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن في الغالب لا يكون لديهم خطة عملية لتطبيق ذلك.

عندما بدأ البني تدريبه المهني القانوني في منتصف الثمانينيات، أدار “حافظ الأسد” البلاد وكان يُهيئ ابنه الأكبر، باسل، لخلافته. كان بشار مجرد طالب طب له تطلعات سياسية ضحلة. لكن وفاة شقيقه في حادث سيارة في عام 1994 جعل طبيب العيون الذي تلقى تعليمه في بريطانيا وريثاً بين عشية وضحاها. وبعد ست سنوات فقط، توفي الأسد الأب أيضاً، وترك الرجل البالغ من العمر 34 عاماً مسؤولاً عن البلاد (من الناحية الفنية، فاز باستفتاء لتولي السلطة بنسبة 97٪ من الأصوات).

كانت هناك لحظة قصيرة من الأمل، في أن الرئيس الشاب، الذي عاش في الخارج، سيحكم كمصلح، لكن، سرعان ما انقضى ذلك. حيث أثبتت الحرب بعد اندلاع الثورة السورية في وقت لاحق أن الابن يمكن أن يتجاوز والده بكثير عندما يتعلق الأمر بسفك الدماء والوحشية.

ويقول البني عن الحقبة المعروفة باسم ربيع دمشق: “كان هناك الكثير من الكذب عندما تولى بشار السلطة. “كل شيء  سطحي للغاية – عاداته الغربية، ووعوده أنه سيفتح الباب أمام الديمقراطية والمجتمع المدني. لم نصدق ذلك، لكننا أردنا أن نحاول. ثم بدأوا في اعتقال الناس.

قرر البني مع المحامين الشباب البدء في محاسبة الحكومة. إذ يقول: “شكلنا لجنة للدفاع عن المعتقلين السياسيين”. أدى هذا العمل بشكل غير مباشر إلى انطلاق “المركز السوري للدراسات والبحوث القانونية“، وهو منظمة طموحة لحقوق الإنسان تشكلت في دمشق عام 2004.

يقول البني إن اسم المركز “اللطيف” (غير المعادي للسلطة) كان يهدف إلى تهدئة المخاوف الرسمية، على الرغم من أن عمله ساهم في عقوبته بالسجن. في عام 2006، حُكم عليه بالسجن خمس سنوات بتهمة “نشر أخبار كاذبة” وتأسيس جماعة سياسية غير مرخصة والتعامل مع دول أجنبية.


“صورة من الحراك الشعبي السلمي في الثورة السورية” -إنترنت.

عندما تم إطلاق سراح “البني” في عام 2011، اتضح أن البلاد ذاهبة إلى المزيد من التغيير. في أعقاب الربيع العربي، بدا الأمر كما لو أن الأسد قد ينضم إلى دكتاتوريين أطيح بهم وأن يتم نفيه مثل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، أو سجنه مثل حسني مبارك في مصر ، أو حتى يتم إعدامه مثل معمر القذافي. لكن الثورة السورية تصاعدت إلى حرب شاملة، حيث تنافس على السلطة عدد من الجماعات المسلحة، من بينها المتطرفون الإسلاميون.

أصبحت سورية مكاناً أكثر خطورة. قُتل أو اختفى العديد من المناضلين القدامى لأجل حقوق الإنسان، ومن بينهم اثنان من أقرب أصدقاء البني؛ خليل معتوق ورزان زيتونة، اللذان أسّسا معه مركز الدراسات القانونية. اختفى معتوق في منطقة يسيطر عليها النظام السوري عام 2012. ويُعتقد أن زيتونة قد اختطفتها جماعة “جيش الإسلام ” بعد عام في ضواحي دمشق.

حتى مع تزايد التهديدات، أراد البني البقاء في سورية.. فلقد قدّم أصدقاؤه حيواتهم، وكان يعلم أن المنفى غالباً ما يتسبب في الذهاب إلى واقع لاعقلاني. لكن في أوائل عام 2014، حذرته جهات من صدور مذكرة توقيف جديدة لإلقاء القبض عليه، بعدها أطبقت قوات الأمن على شقيقه “أكرم” في حفل زفاف، كل ظنها أنه أنور. عقب ذلك، أرسل البني زوجته وأطفاله إلى الخارج أولاً، ونشر الأخبار بأنه قد فرّ أيضاً، وقام بالتواري والاختباء ليخطط لهروبه فيما بعد.

  • صبغ شعره باللون الأشقر – بما في ذلك شاربه المميز: إزالته كانت ستترك علامة منبهة – وارتدى عدسات لاصقة زرقاء. أعاره أحد الأصدقاء بطاقته الشخصية (هويته)؛ وآخر قاده إلى الحدود مع لبنان وقال له أن ينتظر مكالمة هاتفية. انطلقوا عند المغيب. يقول: “كنا بحاجة إلى أن تكون “الرحلة” ليلاً، حيث تواجه الأعين صعوبة في الرؤية، وهذا هو الوقت المثالي للعبور”.

مرّوا بستة أو سبع نقاط تفتيش، وكان صديقه يمازح الحراس للفت الانتباه عن الراكب الصامت بأوراقه المزورة. بالكاد بعد ساعة، وصلوا إلى طريق جبلي غير خاضع للحراسة، حيث سار البني عبر الحدود إلى لبنان وبدأ حياة جديدة.

عائلة البني، لم تشارك الكثير من السوريين رحلتهم الطويلة براً وبحراً هرباً إلى ألمانيا.. فقد سمحت لهم التأشيرات الصادرة في بيروت بالسفر مباشرة إلى برلين، حيث طلبوا اللجوء، واستأنف بني كفاحه من أجل حقوق الإنسان.

في آذار / مارس 2015، عقب يومين من انتقاله عن مخيم اللاجئين إلى أول منزل له في ألمانيا، سافر البني جواً إلى نيويورك لإلقاء كلمة أمام الأمم المتحدة. وبدعوة من منظمة العفو الدولية، تحدث في حلقة نقاش حول الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري في سورية. وخلال هذا الاجتماع القصير، قال للأمم المتحدة، كان يمكن أن يموت معتقلان آخران في أحد السجون السورية؛ كما نقل عن تقديرات بأن 150 ألف سوري كانوا في عداد المفقودين.

 في ألمانيا، لم يكن لدى البني مكتب ولا رخصة للتدريب، وعلى الرغم من دعوة الأمم المتحدة، أظهر القادة الأوروبيون القليل من الاهتمام بالقضية السورية. يقول البني: “لم أتخيل أنهم سيرون كل هذه الأشياء تحدث ويبقون صامتين“. “لم أكن أريد التصديق بأن أوروبا ستقضي كل هذا الوقت في الوقوف والمراقبة. لقد صدمني هذا حقاً “.

ربما أنور رسلان كان غير مكترث بماضيه، أو ظنّاً منه أن قراره بالانشقاق في عام 2012، سيحميه. كان الأخير قد غادر سورية بعد أشهر قليلة من مجزرة الحولة، متوجهاً أولاً  إلى الأردن ثم إلى تركيا. هناك، انضم إلى صفوف المعارضة (السياسية) ولاحقاً طلب اللجوء في ألمانيا.


“الشاهدة ضد أنور رسلان في محكمة كوبلنز “رويدة كنعان” 2020” -إنترنت

كان واضحاً ويعترف بعمله في أجهزة استخبارات النظام، على افتراض أن ماضيه كان خلفه. حتى أنه طلب المساعدة من الشرطة الألمانية في عام 2015، عندما أصبح مقتنعاً بأن عملاء النظام السوري كانوا يتتبعونه.. فلم تجد الشرطة أي دليل على ذلك، لكن في عام 2017 تم استدعاء رسلان كشاهد في تحقيق بجرائم الحرب السورية، حيث دفعت تلك المقابلة المحققين إلى بدء البحث في أنشطة رسلان الخاصة، وفي عام 2019 تم اعتقاله واتهامه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

وفقاً لمحاضر المحاكمة التي نشرها المركز السوري للعدالة والمساءلة على موقعه الخاص، أنه وفي المحكمة خلال مايو/ أيار من هذا العام، رفض رسلان جميع التهم الموجهة إليه. وفي بيان تلاه محاميه، قال إنه عالج المعتقلين و”حتى أنه عرض عليهم القهوة عندما جاءوا لأول مرة للاستجواب”. وأضاف أن البعض التقى به منذ ذلك الحين فى المنفى. وقال إن المعدل الزمني السريع الذي أطلق به سراح السجناء أدى إلى تقليص سلطته وصلاحياته.

وفي يونيو/حزيران، دخل البني إلى منصة الشهود ليروي الفظائع في سجون الأسد وغرف التعذيب، التي يعرفها بشكل وثيق من خلال تجربته الخاصة. فيقول عن قضية المحكمة: “إنها ليست مسألة شخصية. هدفي هو تحقيق العدالة لجميع السوريين“.

عندما وصل إلى أوروبا، خاب أمل البني بسبب تجاهل الغرب انتهاكات النظام السوري. ولكن في المنفى، التقى بمحامين ونشطاء عرفهم منذ سنوات نضاله، واكتشف أن العديد منهم كانوا يحاولون استخدام الأنظمة القانونية في أوروبا لشن معركة على مستوى القاعدة الشعبية.


“البني، مع صور لضحايا النظام السوري، خارج المحاكمة في يونيو/حزيران. الصورة : وكالة الصحافة الفرنسية”

بينما لا يستطيع البني أن يمارس مهنته كمحام، إلا أن لديه شيئاً أكثر فائدة: الثقة بين المجتمع السوري التي تسمح له بالمساعدة في العثور على شهود للإدلاء بشهاداتهم حول الانتهاكات في وطنهم. وإن التعرف إلى الناجين والقدرة على التحدث عن أي مخاوف قد تكون لديهم بشأن الشهادة، هو مفتاح أي محاولة لملاحقة جرائم الحرب المرتكبة في أماكن بعيدة، عندما يكون من غير المحتمل أن يكون هناك دليل مادي.

هو الآن مع مجموعة من الناجين السوريين والنشطاء القانونيين الأوروبيين العازمين على المساعدة في إحالة القضايا إلى العدالة، الذين قدموا ملفات إلى السلطات في السويد والنرويج والنمسا، وكذلك ألمانيا.

وليس لديهم أي أوهام بأن القضية المرفوعة ضد رسلان ستكون لها آثار فورية على النظام السوري. حتى لو ثبتت إدانته، فهو لم يصمم أو يدير النظام ، وغادر في وقت مبكر من الحرب؛ في غضون ذلك، آلة التعذيب مستمرة. لكن قضية جنائية كهذه، سوف تحدث شرخاً في جدار الإفلات من العقاب الذي سمح الدعم الروسي واللامبالاة الغربية تجاه الأسد بإقامته حول دائرته المقربة.

يقول “باتريك كروكر-Patrick Kroker“، المحامي الذي يركز على الجرائم الدولية والمساءلة في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، والذي لعب دوراً رئيسياً في الجهود المبذولة على مستوى القارة لاستخدام الولاية القضائية العالمية لتحقيق العدالة للسوريين: “إذا كان هذا يعني أن شخصاً ينام بهدوء ليلاً في دمشق، فهذه خطوة في الاتجاه الصحيح. تاريخياً، كانت محاكم جرائم الحرب ــ وأبرزها محاكمات “نورمبرغ” لكبار النازيين ــ تُعقد بعد توقف القتال، وعادة ما يعقدها المنتصرون. وعلى غير العادة، تفتح هذه القضية مع استمرار اندلاع الحرب؛ ويمكن أن يشكل هذا الوضع سوابق جديدة، ليس فقط بالنسبة لسورية، بل أيضاً بالنسبة لبلدان أخرى.

ويقول البني “ستؤثر هذه المحاكمة على الأفراد الذين ما زالوا يرتكبون الجرائم في سورية“. حيث “يحدث ذلك بينما الأحداث مستمرة، وليس بعد انتهاء الصراع وذهاب التوتر. ويضيف أيضاً: “دعونا نحظى ببعض العدالة“.

كما يشير إلى سلامة النظام القانوني الألماني باعتباره نظاماً يمكن أن يوفر سجلاً لا جدال فيه للجرائم في سورية. “من المهم أن نوضح للعالم أجمع ما حدث فعلاً في سورية. ولا يمكن لأحد أن يقول إن هذه محكمة مزيفة”.

بعد ست سنوات من حياته في برلين، فإن البني مقتنع جداً بأنه سيعود يوماً ما إلى سورية، لدرجة أنه لم يحاول حتى تعلم الكثير من اللغة الألمانية. فهو ممتن للملاذ الآمن، لكنه يفتقد لمنزله، وروتينه اليومي. وكان من بين الأماكن المفضلة لديه مقهى المحامين في قصر العدل؛ وهو مبنى من الحقبة الاستعمارية في وسط دمشق، يقدم القهوة والشاي والسجائر، بالإضافة إلى أجوائه والأحاديث القانونية، حيث يجتمع المستشارون من قبل أو بعد قضاياهم، أو خلال مقابلة موكليهم.

لا يهدأ هاتف البني نتيجة رسائل من سوريين في جميع أنحاء أوروبا الذين يرغبون في طلب المساعدة أو تقديمها، ومن نشطاء أيضاً. في اليوم الذي نلتقي به، يعرض لنا “واتس آب-Whats App” الخاص به أكثر من 4800 رسالة غير مقروءة. وهو قلق بشأن طالبي اللجوء السوريين المحتجزين في قبرص، والمئات المعرضين لخطر الترحيل من السعودية.

البني أكثر أماناً مما كان عليه في دمشق، لكن هناك وابلاً مستمراً من التهديدات على وسائل التواصل الاجتماعي – معظمها مجهول، وهذا تذكير بأن الكثيرين في سورية سيكونون سعداء لرؤية اسمه يُضاف إلى القوائم الطويلة للقتلى والمختفين. والآن هو خائف على مصائر زملائه الذين ما زالوا في سورية.

بينما تستمر قضية رسلان، يلاحق البني خيوطاً أخرى. وفي الوقت الذي نتكلم فيه، يصل أحد الناجين من التعذيب لمناقشة قضية ما، حيث كان يحمل ندوباً جسدية دائمة. فالأسماء الجديدة للمشتبه بهم المحتملين تتتدفق دائماً.. هكذا يقول البني. ويضيف” سمعنا عنه منذ ثلاثة أيام- يقصد عن سوري موجود الآن في أوروبا، ويشتبه بارتكابه جرائم حرب.


إنه مقتنع بأن رجال أو مساعدي الأسد لا يمكنهم البقاء في السلطة إلى الأبد. ففي الوقت الحالي، يأمل أن تؤدي حملات العلاقات العامة والعقوبات والتهديد بالاعتقال والمحاكمة إلى تقييد دورهم في أي مفاوضات دولية حول مستقبل البلاد بعد الحرب، أو جهود إعادة الإعمار المربحة.

ويضيف قائلاً: “هدفي الرئيسي هو استبعادهم، وقطع جميع الطرق لإعادة بناء سمعتهم”. ويكمل: “إذا كانوا جزءاً من مستقبلنا، فستكون هناك كارثة.”


كما يأمل أيضاً أن يكون للقضايا التي يساعد بجمعها في مختلف أنحاء أوروبا صدىً أبعد من سورية ــ وهو تحذير مفاده أنه حتى مع وجود حلفاء دوليين أقوياء، لا يوجد شيء اسمه الإفلات من العقاب أو العدالة.

ويقول في الختام: “ربما يمكننا إنقاذ الناس في أماكن أخرى، حيث يوجد ديكتاتوريون مثل الأسد يعتقدون أنهم يستطيعون فعل ذلك -الجرائم والانتهاكات، والبقاء على قيد الحياة آمنين”؛ المجرمون الآن، خائفون..