لا يمكن إنكار حجم الاستثمار في الحرب السورية، بجعلها سبباً مباشراً للتغيير في المنطقة بعمومها، بعد اتخاذ الولايات المتحدة قرارها إبقاء الصراع قائماً بين الأطراف المحلية (النظام والمعارضة) على مبدأ لا غالب ولا مغلوب بينهما
01 / نيسان / أبريل / 2019
*المصدر: العربي الجديد _ سميرة مسالمة
تقف منطقتنا العربية، مرة أخرى، أمام مواجهةٍ علنيةٍ مع صناعة خريطة جديدة لها، جغرافياً وديمغرافياً وتبعيةً، في وقتٍ تحاول فيه الشعوب “المحلية” استعادة مكانتها التشريعية، سواء لجهة اختياراتها في تنظيم علاقاتها مع حكّامها، أو لجهة فرض رغباتها على المجتمع الدولي التي عبرت عنها في ثوراتها الشعبية ضد أنظمتها الحاكمة، فحيث واجه حكام دول “الربيع العربي” شعوبهم الثائرة بالسلاح والقتل والاعتقال والتهجير، لمنعهم من الوصول إلى غاياتهم في الحرية والمواطنة، عملت، في الوقت نفسه، الدول الكبرى “الداعمة للطرفين المتصارعين” على فرض إراداتها أيضاً على هذه الثورات ووسائل ردعها، من خلال اختيار طرق المواجهة والممثلين عن الشعوب في ثوراتهم، ما يعني أن الخريطة، بحدودها المستحدثة المفروضة، تمثل تفاهماتٍ ضمنيةً بين الدول “الأقوى” التي تقرّرها فيما بينها، بعيداً عن الأنظمة التي تلتزم بها، سواء بالصمت عنها، أو بسحب شرعية الكفاح الشعبي ضدها، من خلال ربطه بإرادة الحكام ومصالحهم النفعية، تصعيداً أو منعاً.
وكما أفسحت حالة الحرب في سورية، وكذلك واقع الدول العربية ذات ملامح التغيير، تصوير الواقع المهزوم للشعوب أمام أنظمتها الحاكمة، فهي فتحت أيضاً المجال أمام القوى الدولية، لتعيد تموضعاتها في المنطقة، وتعلن عن مصالحها الحقيقية فيها، وحجم اتفاقاتها السرية مع الأنظمة العربية، وخططها المستقبلية فيها، ما جعلها قادرةً على استخدام سورية ساحة حربٍ “مستأجرة” من كل الأطراف، وكورقة مساومة دولية، تنهي من خلالها الملفات العالقة بينها، وهو الأمر الذي أدى إلى إخراج ما خفي في الخزائن السياسية المغلقة إلى النور، من نقل السفارة إلى القدس إلى التصريح باتفاق أضنة إلى قرار الاعتراف بسيطرة إسرائيل على الجولان، ليكون ذلك كله حجر الأساس في رسم الحدود الجديدة لسورية والمنطقة، على المستويين: الجغرافي الذي لم يعد يحتمل المواربة في طرح حقيقة المساومات التي أنتجت ذلك “الهدوء المفخخ” بين إسرائيل ومحيطها العربي، وربطه بالأنظمة العربية القائمة وعلاقاتها المتبادلة، والتي كانت أحد أهم أسباب استقرار هيمنة الأنظمة العربية على شعوبها طوال العقود الماضية. والديمغرافي الذي يمكن، من خلاله، إضعاف شعور الشعوب أكثر، كوحدة وطنية متساوية في الحقوق والواجبات، ومتشاركة في الهوية والمصير، ووضعها في مواجهة بعضها، في حرب القوميات، والطوائف، والمذاهب، والأيديولوجيات الحزبية والدينية.
وإذا كان قرار الرئيس الأميركي، الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان (25 مارس/ آذار) حظي برفض “إعلامي” كلي داخل اجتماع مجلس الأمن (28 مارس/ آذار) من شركاء واشنطن الـ 14، فإن مناقشة قوة هذا الرفض تتشابه تماما مع مناقشة قوة القرارات الدولية التي تقر بسوريّة الجولان، وببطلان قرار إسرائيل الصادر عام 1981 الذي يفرض القوانين الإسرائيلية والولاية القضائية على الجولان، كما ورد في القرار 497 الذي يطالب إسرائيل بإلغاء القرار فورا، وكذلك القرارين: 242 الصادر عام 1967 و338 الصادر عام 1973، ومبدأ الأرض مقابل السلام الذي كان أساس مرجعية عملية السلام في مدريد 1991.
أي أن هذا الرفض الدولي اليوم يساوي، في قيمته الواقعية، الصفر في عمليات الجمع الحسابية، وهو مساوٍ لقوة الصفر الواردة في القرارات الدولية التي ترفض ممارسات إسرائيل، واحتلالها أراضي الغير بالقوة، بمعنى أنها، في مجملها، مجرد حبر على ورق، لا تحمل في مضامينها الفعلية سوى حقيقة واحدة، أن هذا العالم يُدار “بقوة البطش”، وليس بما تنظمه القوانين الدولية، وتضع له حدود القبول والرفض، وهي قراراتٌ للتداول الإعلامي، بمعنى أن ترامب يضع نهاية دراماتيكية للمنظومة القانونية للمجتمع الدولي التي يمثلها مجلس الأمن، ليحل مكانها مبدأ القوة، أساسا لرسم الحدود الجديدة للدول، وآليات التعامل بينها، في كل المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية.
أي أن هذا الرفض الدولي اليوم يساوي، في قيمته الواقعية، الصفر في عمليات الجمع الحسابية، وهو مساوٍ لقوة الصفر الواردة في القرارات الدولية التي ترفض ممارسات إسرائيل، واحتلالها أراضي الغير بالقوة، بمعنى أنها، في مجملها، مجرد حبر على ورق، لا تحمل في مضامينها الفعلية سوى حقيقة واحدة، أن هذا العالم يُدار “بقوة البطش”، وليس بما تنظمه القوانين الدولية، وتضع له حدود القبول والرفض، وهي قراراتٌ للتداول الإعلامي، بمعنى أن ترامب يضع نهاية دراماتيكية للمنظومة القانونية للمجتمع الدولي التي يمثلها مجلس الأمن، ليحل مكانها مبدأ القوة، أساسا لرسم الحدود الجديدة للدول، وآليات التعامل بينها، في كل المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية.
ولعل ما يميز عهد ترامب هو المواجهة مع الخبايا السياسية المعتمة، وهي ميزة وضع ما يتم الاتفاق عليه في الغرف المغلقة في قراراتٍ واضحةٍ ومعلنةٍ على الملأ، منهياً بذلك مرحلة “همروجات” الممانعة، والتلطي خلف القضية المركزية في مواجهة إسرائيل، دولة محتلة للأراضي العربية، التي تختبئ خلفها الأنظمة العربية في تبرير استبدادها لشعوبها. ويمكن اعتبار مجموع المتغيرات التي حدثت في المنطقة العربية خلال السنوات القليلة الماضية بمثابة إعلان عن تفاصيل ما سميت صفقة القرن، بدءاً من تغيير ملامح جغرافية المنطقة، وصولاً إلى تغيير شكل الأنظمة وقوانينها المحلية، تحت مسميات الانفتاح والتحديث “الوهمية” وأولوياتها، ومرورا بتغيير وجهة الصراع العربي – الإسرائيلي، لتصبح الصراع العربي – الفارسي، ومحورته في صراع ما قبل الدولة المدنية بين السنة والشيعة، وهي الخدمة التي سمحت فيها الإدارات الأميركية لإيران في القيام بها منذ الانسحاب الأميركي من العراق، وحلول إيران بديلاً فيها.
وحيث لا يمكن إنكار حجم الاستثمار في الحرب السورية، بجعلها سبباً مباشراً للتغيير في المنطقة بعمومها، بعد اتخاذ الولايات المتحدة قرارها إبقاء الصراع قائماً بين الأطراف المحلية (النظام والمعارضة) على مبدأ لا غالب ولا مغلوب بينهما، وفتح الباب على مصراعيه، لتوريط هذا العدد الكبير من الدول، في الدخول أطرافا في الصراع على سورية، بشكل مباشر أو غير مباشر، عبر فتح قنوات الدعم والتمويل للنظام. وفي المقابل، لفصائل مسلحة بأجندات غير سورية ومليشيات إرهابية متطرفة تابعة للدول، ومن ثم عقد الصفقات منفردةً مع كل من هذه الدول المتدخلة تحت ضغط القدرة على معاقبتها، عسكرياً أو اقتصادياً، واخضاعها لشروط التغيير الداخلي المفروض عليها، بما يتناسب وشروط إفساح المجال لإسرائيل لمزاولة دور الدولة “الحقيقة التاريخية” في المنطقة، حسب التصريحات الأميركية اليمينية، وبما يضمن إحداث التغييرات الشاملة في شكل المنطقة وأولوياتها.
مجاهرة ترامب بقراراته، سواء نقل السفارة الأميركية إلى القدس، أو تفريغه حق العودة للفلسطينيين من مضمونه القانوني، أو الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، على الرغم من عدم شرعية هذه القرارات في القانون الدولي، إلا أنها على أرض الواقع تمثل قوة الحقيقة المسلحة التي ينطلق منطق إسرائيل وترامب منها، وهي حتماً تعيدنا إلى أساس بناء فكرة إسرائيل التي انطلقت من وعدٍ، لتصبح اليوم الدولة التي تقرّر واقع المنطقة ومستقبلها، وتحدّد من خلال ذلك مصير حكام العرب ببقائهم، على الرغم من ثورات شعوبهم عليهم، أو تقويض حكمهم، عندما تنتهي مهامهم الموكلة لهم، وساعة رحيلهم، أو ترحيلهم. وعلى القياس، فإن أي تعويلٍ على قرارات دولية في حل قضية السوريين مع نظام الأسد يساوي تماما “قوة الصفر” التي تتمتع بها قوة القرارات الدولية ضد إسرائيل، ما لم تكن قوة الولايات المتحدة بدايةً ونهايةً عامل الترجيح فيها.
مجاهرة ترامب بقراراته، سواء نقل السفارة الأميركية إلى القدس، أو تفريغه حق العودة للفلسطينيين من مضمونه القانوني، أو الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، على الرغم من عدم شرعية هذه القرارات في القانون الدولي، إلا أنها على أرض الواقع تمثل قوة الحقيقة المسلحة التي ينطلق منطق إسرائيل وترامب منها، وهي حتماً تعيدنا إلى أساس بناء فكرة إسرائيل التي انطلقت من وعدٍ، لتصبح اليوم الدولة التي تقرّر واقع المنطقة ومستقبلها، وتحدّد من خلال ذلك مصير حكام العرب ببقائهم، على الرغم من ثورات شعوبهم عليهم، أو تقويض حكمهم، عندما تنتهي مهامهم الموكلة لهم، وساعة رحيلهم، أو ترحيلهم. وعلى القياس، فإن أي تعويلٍ على قرارات دولية في حل قضية السوريين مع نظام الأسد يساوي تماما “قوة الصفر” التي تتمتع بها قوة القرارات الدولية ضد إسرائيل، ما لم تكن قوة الولايات المتحدة بدايةً ونهايةً عامل الترجيح فيها.