تعرضت مؤسسة الجيش في أواسط ثمانينيات القرن الماضي إلى هزة كبيرة هددت بإزاحة حافظ الأسد عن سدة الحكم، من خلال تمردٍ قاده شقيقه رفعت الأسد، وقد كان يتمتع بقوة عسكرية كبيرة تحيط بدمشق، وتسيطر عسكريا على مداخلها..
08 / آذار / مارس / 2021
*المصدر: تلفزيون سوريا | فاطمة ياسين
عندما تَظهر إشارات لاهتزاز السلطة في أنظمة الحكم العائلية، تُسلَّط الأضواء بقوة على أفراد هذه العائلة، وتجري محاولات لإعادة تحليل علاقاتها الداخلية وآلية إمساكها بالسلطة، ومدى تأثير مؤشرات الاهتزاز الراشحة، على موقع العائلة المسيطرة على البلاد..
في سوريا تحكم عائلة الأسد منذ أكثر من خمسة عقود، وتسيطر على مفاصل السلطة، والسلطة في هذا البلد ذات شقين رئيسيين هما أجهزة الأمن، ومؤسسة الجيش، وتتفرع عنهم آلية تسيير الاقتصاد، ففيما تأخذ دوائر الأمن والجيش شكل المؤسسات، بتقسيمات إدارية منضبطة، قياداتها موزعة بشكل مدروس وعميق لضمان الولاء، فإن الاقتصاد لا يشكل مؤسسة بقدر ما هو مجموعة من التدابير والإجراءات الظرفية، تمليها ظروف النظام المحلية والدولية، ولطالما كان الاقتصاد السوري عبارة عن مجموعة قرارات وإملاءات تفرض على الحكومة التي تذعن للأوامر، وتسيِّر الشؤون اليومية للناس فتبيعهم وتشتري منهم بطرقها البيروقراطية بغض النظر عن موازين الربح والخسارة.
مع انفراط العقد الشيوعي في تسعينيات القرن الماضي وتبخر أفكار اشتراكية الدولة، بدأ النظام السوري بفتح السوق بشكل جزئي، وسمح لمجموعة محددة من الشخصيات التابعة للنظام بممارسة الاقتصاد، وصولًا إلى مرحلة أكثر انفتاحاً قادها بشار الأسد مع قدومه إلى الحكم، وبواجهة ملأها ابن خاله الذي اتخذ دور فتى النظام ووجهه الاقتصادي الأول، مما أبعد عن الأذهان صورة حزب البعث الاشتراكي الذي تحكم عائلة الأسد باسمه طوال العقود الماضية، عانى الاقتصاد خلالها من حالات تموج وتلوٍّ على مقاسات السوق المتاحة ليستقر بين قدمي رامي مخلوف، ليحال أخيراً إلى سطوة أسماء الأسد مع الشخصيات القريبة منها، فيما بقيت مؤسستا الجيش والأمن بذات الهيكلية والقوة والتمكين، ليضاف عليهما بعد الثورة تشكيلات ميليشياوية متطوعة مدفوعة بأسباب منها طائفية ومنها معاشية، أدرجت تحت مسمى الدفاع الوطني، مع محاولات إجرائية مستمرة من قبل النظام لتوفير أكبر قدر من الدعم لها حتى تحقق القمع المطلوب على الجمهور.
تعرضت مؤسسة الجيش في أواسط ثمانينيات القرن الماضي إلى هزة كبيرة هددت بإزاحة حافظ الأسد عن سدة الحكم، من خلال تمردٍ قاده شقيقه رفعت الأسد، وقد كان يتمتع بقوة عسكرية كبيرة تحيط بدمشق، وتسيطر عسكريا على مداخلها، وكانت وسائطه النارية موجهة إلى أبنية القيادة والتحكم في العاصمة كالأركان وقصور الرئاسة ومقرات الأمن الرئيسية، لم يستنفر رئيس النظام قواته العسكرية المضادة لمواجهة هذا التحدي الذي ينذر بإزالة النظام كله، رغم أنه يمتلك ويسيطر على قوات قادرة على المجابهة، لكن ذلك كان سيقود إلى معركة تحتاج لوقت طويل قبل أن ينهيها أحد الطرفين لصالحه، على العكس تصرف رئيس النظام كما يليق برجل “عائلة” وليس برجل دولة، فلم يلجأ إلى مؤسسات الدولة، وفي الواقع لا يوجد فيها إلا الجيش والأمن اللذين كانا موضوع الخلاف الرئيسي بين الرجلين، بل لجأ إلى المؤسسة الحقيقية التي يستند إليها النظام في ممارسة حكمه، وهو العائلة، فاستدعى حافظ الأسد أمه وأشقاءه واصطحب ابنه، وجابه شقيقه، لحل النزاع.. لم يحضر ذلك الاجتماع رئيسَ الوزراء ولا أي عضو في المحكمة الدستورية، ولا حتى عضو في مجلس الشعب، حضرته العائلة، وحلت إشكاليته، وخرج أحد أعضائها بكوتا مالية تكفيه ليعيش أميراً في أوروبا بقية حياته، وعاد كل شيء إلى وضعيته الأصلية، عائلة تحكم بمؤسستي الجيش والأمن والباقي توابع تجري في مدارات محددة سلفاً ومنها الاقتصاد. حدث كل ذلك عندما كان بشار الأسد في التاسعة عشرة من عمره، يتابع خلاف العائلة وطريقة حله، ولا بد أنه حفظ الدرس ووعاه.
قد يكون من المصادفة أن حافظ بشار الأسد الآن بذات عمر والده تقريبا، بينما يشهد، كعضو عائلي، ما يحصل، بين أسرته وبين رامي مخلوف ابن خال والده، وإن كان “الحوار” هذه المرة، حوارًا اقتصاديًا، والاقتصاد لا يخلق مشكلة وجودية للنظام، لذلك لم نرَ تجمعًا مشهودًا لأفراد العائلة كما حدث سابقًا، بل تُرك للأجهزة الإجرائية أن تجهز على هذه العقبة البسيطة، بقرار موقَّع من أعضاء في الحكومة التابعة للنظام.. وفي هذا السلوك درس بليغ وضع فيه رأس النظام حدودًا فاصلة للعائلة، فالعائلة هي المحيط الضيق المرتبط جينيًا بحافظ الأسد وأنيسة مخلوف أيضًا، لكن بشار يقول اليوم ما معناه إن العائلة مقتصرة عليه شخصيًا وعلى أبنائه، بعد أن فقد اثنين من أشقائه سابقًا، باسل الذي توفي بحادث سير أودى بحياته قبل أكثر من خمسة وعشرين عامًا، ومجدْ الذي توفي هو الآخر منذ اثني عشر عامًا، أما فيما يخص العضو الآخر المتبقي من العائلة وهو ماهر الأسد، فهو موجود طالما بقي ملتزمًا بفرقته الرابعة لا يتخطاها، وقد ظهر خلال سني الثورة الطويلة أن ماهر الأسد كان الابن المطيع للنظام بمعناه العائلي ولا يوجد حتى الآن ما يشير إلى أنه سيخرق هذا النظام.
أما بشأن الاقتصاد فالعقوبات قد أرهقته رغم الثغرات الجديدة التي تحاول الزوجة فتحها، وصحيح أن حاجات المواطن المعيشية ليست من أولويات النظام لكن فقدان أبسط سبل العيش لن تستطيع هذه المنظومة التعامل معها إلى الأبد..