مشهد التظاهرات السلميّة المدنية في المدن والبلدات السورية المختلفة، التظاهرات العامرة بصفوف بشرية منظَّمة يحييها قرع الطبول والأغاني والتصفيق والرقص والدَّبكات الشعبية، كان النموذج الأهم ربما، الذي دلّل على ولادة جسد جديد في وضعيّة غير معتادة، يمكن المرء أن يقرأ من خلالها ولادة مفاهيم وقيم وسلوكيَّات جديدة.
11 / أيار / مايو / 2021
*مع العدالة | علا شيب الدين
نشرت فصول هذا الكتاب بموافقة الكاتبة
(6)
الثورة والجسد
يصل بنا الأمر إلى أننا لا نعرف ما يستطيعه الجسد؛ إننا نتكلم عن الوعي، عن الروح، نثرثر حول ذلك كله، غير أننا لا نعرف علامَ يقدر الجسد، أي قوى هي قواه وماذا تهيئ؟
(سبينوزا)
كان إقدام محمد البوعزيزي على إضرام النار في جسده احتجاجاً على واقع ظالم ومشوَّه؛ مفارَقة شكَّلت منعطفاً تاريخيّاً أسّه احتراق جسد، فاحتراق الجسد كان الممر الذي تسلَّلت عبره روح البوعزيزي لتحلّ في أجساد أخرى؛ بعدما تواترت هذه الروح التي أطلقت عنان التمرّد لنفسها من شخصٍ فرد إلى أمّة؛ ومن بلد عربي (تونس) إلى بلدان عربية أخرى، مُعلِنة رفض واقع الاستبداد والاستعباد، مكلّلة بحُلمٍ طالما طال انتظار تحقّقه. إنه الحُلم بـ”مدينة الديموقراطيّة”. ولا غرو، مادام الجسد المشتعل كان أسّ “الربيع العربي”؛ أن يكون تعنيف الجسد والتعذيب حتى الموت، شرارة أجَّجت الثورة في مصر بتاريخ 25 يناير2011، فوفاة الشاب(خالد سعيد([1]) تحت التعذيب على أيدي رجال الأمن، أثارت سخطاً عارماً دفع الشباب للخروج إلى الشوارع محتجّين غاضبين. ولاغرو، أن يكون الجسد الطريّ الذي ذاق مرارة الآلام والعذابات، شرارة فجَّرت الثورة السورية أيضاً، والمقصود هنا مجموعة من الأطفال في درعا بجنوب سوريا. وإذ نتفكَّر مليّاً في الثورة السورية، نجدنا مرغَمين على مشاركة سبينوزا في سؤاله حول مقدرات الجسد، وقواه، وما يُتوقع منه، وما قد ينجم عنه، بالاستهجان نفسه! مادام الجسد قد حضر في الثورة السورية حضوراً صاخباً قلّ نظيره في التاريخ. إذ الثورة مخضَّبة بالدماء والأشلاء. وقد انتُهك فيها الجسد الإنساني على نحو يرهق الضمير الإنساني الحي ويعذِّبه.
****
لكن على الرغم من رعب المأساة وهولها، فقد عمّدت حضور الجسد في الثورة السورية، صورة أخرى للجسد، بدت كأنها تتحدَّى صورته السابقة، وقد حضرت في الثورة بقوة موازية لصورة الجسد المعذّب، المعنّف، المقتحَم، المقتول، والممثَّل به. تجلّت الصورة الأخرى للجسد في الرقص والديناميّة، دفعت المرء إلى الشعور بأنه أمام تراجيديا، جزء منها مأسويّ، يفنى في نهايته الجسد الثائر، لكنه يعود إلى الحياة من جديد في جزء آخر يمثِّل نوعاً من تحدٍّ صارخ لفنائه. ما يعني أن الثورة هي ثورة جسد على جسد، مثلما هي ثورة عقل على عقل. فلمّا كان صحيحاً أن العقل الثوري الجديد أسّه الحرية، ويتمرّد على عقل قديم، أمنيّ/سلطويّ؛ فالصحيح أيضاً أن الجسد الجديد الثائر جسد حر راقص، وتلقائيّته غير مألوفة في التعبير، ويتمرّد على جسد نقيض يأتمر بالغرائز العدوانية المحضة، وهذا الأخير موسوم بالعقم، ويمثله “شبيحة” السلطة الأسدية، وأجهزة الأمن وقوات الجيش الموالية للسلطة التي احتكمت في قمعها الثورة إلى الغرائز المنفلتة من كل عقال.
****
كانت لغة الجسد الثائر، الحر، الراقص هي الأجدر، على ما يبدو، في مقارعة اللغة التقليديّة، أي، لغة العقل المحمَّل منطق “الواحد”، منطق الاختزال الذي يختصر الحياة، والكثرة، والتنوّع. إنه منطق تثبيت العقل واعتقال النهوض الفكري الذي مارس سلطته على الجسد باعتباره خصوبة ونبضاً وتعدّداً؛ فلغة الجسد في الثورة، حرّرت الفرد من المفهوم المحنَّط، ومن العقل السلطوي الذي لا ينتج إلا نفسه، حتى أنه بلي من فرط الاستعمال والتكرار. فالديكتاتوريات كلّها تُشتَقّ من واحد أوليّ يتجلّى هو نفسه في واحد ثانٍ وثالث ورابع؛ وفي نهاية المطاف يكون الواحد الأوليّ هو السائد فحسب. لكن الجسد الثائر يبدو كأنه انقلب على هذه القاعدة، فتجسّد بعدما كان مغيَّباً، وعتق نفسه من المفهوم المطلق، ومن الواحد، واتصل مباشرة بالواقع، أي بمكانه الطبيعيّ، الماديّ، الحسيّ، الحركيّ، النابض بالتفاصيل وبالأحداث والمتغيِّراث.
****
مشهد التظاهرات السلميّة المدنية في المدن والبلدات السورية المختلفة، التظاهرات العامرة بصفوف بشرية منظَّمة يحييها قرع الطبول والأغاني والتصفيق والرقص والدَّبكات الشعبية، كان النموذج الأهم ربما، الذي دلّل على ولادة جسد جديد في وضعيّة غير معتادة، يمكن المرء أن يقرأ من خلالها ولادة مفاهيم وقيم وسلوكيَّات جديدة. فالتكاتف والترافق والتشابك بالأيدي وغيرها من الوضعيات التي اتخذ منها ثوار الحرية والكرامة في سوريا وضعيّة لأجسادهم المتعاضدة، بدت كأنها تمرّد على وضعيّة قديمة قُسِر عليها الجسد خلال عقود من سواد الاستبداد بثقافته العسكرية المجنِّدة للمجتمع. وبوضعيته الثورية الرشيقة والأنيقة أفصح الجسد عن معاني التعاون والتآزر؛ كما أفصح عن عمق الشعور بوحدة المصير الإنسانيّ.
إن هذه الوضعيّة الجديدة للجسد تعاكِس وضعيّة الجسد الذي تَعسْكَر طوال عقود، وتُناقِضها. فقد كان الجسد مقموعاً، تختفي حيويّته خلف وقارٍ متحجِّر اتّسم به عصر الاستبداد الذي حكم سوريا نحو نصف قرن من الزمن. وإن عقد مقارنة بسيطة بين وضعية الجسد الحر في مشهد الثوار المتكاتفين والمترافقين والمتشابكين بالأيدي، وقد تفتّحت أجسادهم للرقص منطلقةً متقافزة، في الشوارع والأحياء والساحات؛ وبين المشهد التقليديّ القديم لأجساد تلامذة المدارس المجنَّدة كأنها كتل صلبة تتحرّك وفق إيعازات لها طابع عسكريّ صارم وحاد. إن عقد مقارنة من هذا الطراز، يبيِّن الفرق بين الجسد الحر والجسد المستعبَد، بين التشكيلات الحرة المنفتحة على الحوار، وبين الاستجابات الآلية للإيعازات والشعارات. إذ يقف التلامذة المعسكَرون أرتالاً بعضهم خلف بعض في وضعيّة الترادف التي تحول دون تلاقي الوجوه والعيون، في إشارة رمزيّة تدلّ على انقطاع علاقات التواصل. فالتواصل بين الوجوه، والتقاء الأعين بالأعين، هو من سمات الحوار والتخاطب السليم بين البشر، إن أرادوا العيش في مجتمع يحكمه السلم واعتراف الجميع بالجميع على قاعدة المواطنة؛ غير أن قيم المواطنة هذه لم تكن لتروق للقائمين على نظام أسدي استبدادي مبنيّ على كره الآخر، وعلى الجهد الحثيث لقطع العلاقة بين الناس وسط تعاظم مدّ الرذائل في المجتمع السوريّ المحكوم بآحاد مشتقِّة من الواحد الأوليّ؛ بعدما استحال كل “واحد” طفيليّاً ينتضي عصا السلطة ويعظ الناس بنصِّها “المقدس”.
****
حكمَ الجسدَ في سوريا تصوُّر إيديولوجيّ مثقل بمسلّمات الرأي الواحد، والموقف الواحد، والسلوك الواحد، والحزب الواحد. فقُتِلت الحياة السياسية، وأثّر التصوّر الإيديولوجيّ في التعامل المسلكيّ مع الجسد. بيد أن الثورة السورية نفضت “تعاليم” البعث الطوباويّة حول الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، وفكّكت مزاعم الصمود والتصدي، والمقاومة والممانعة، لتنفث الحياة والنبض في الجسد. ما دفع بالجسد لأن يحضر بكثافته الوجودية والسياسية والجمالية والثورية؛ وحلّ الجسد الحر محلّ الجسد الصنم. رافق تلقائيّة الجسد الحر، تفتّح الفردية المنسجمة والمتصالحة مع الجماعة، والمتّفقة مع غاياتها. إذ الجسد هنا ما عاد مادة صمّاء، إنما بات صانعاً المفاهيم من خلال جبروت مقدرته في توليد أحداث تاريخية كبرى. هكذا، ما عادت المفاهيم والشعارات والقيم تسقط على الناس من الغيب. وما كان لأركان سلطة متجذِّرة، وراسخة بكل صنوف القهر والعنف أن تُضَعْضَع، لو لم يكن الجسد المحتجّ حاضراً بالترافق مع الكلمة الثائرة في الشارع. وكيف لثورة أن تقوم، إن لم تكن في أصلها قدَماً تطأ الأرض بخطى واثقة مزلزِلة؟! إذ التجربة التي يخوضها الجسد هي الثورة الحقيقيّة التي من شأنها إسقاط ما لا يسقط بالتنظير. ومن الفعل والاختبار والتجربة، تنبع نظرية ثورية تحرّر العقل مما حمله من وباء وهباء. هكذا كشفت الثورة السورية عن عسف الفصل الذي حرص النظام الأسدي على تكريسه بين الجزء والكل، بين الجسد والروح، بين الفكر والسلوك. أي بين العالم الحسي الفيزيقي والعالم الروحيّ العقليّ
مع الجسد الذي أصبح حراً، يغدو للمقولة التي تتحدّث عن العقل السليم في الجسم السليم معنى، إذ الجسم السليم يعني هنا، الجسم الحر؛ كون حرية الجسد تلعب دوراً في تطهير ما في الذهن من لوثات مثل “المؤامرة” وغيرها.
****
الثورة والعجرفة
1
في الحادي والعشرين من نيسان 2013، وقعت في “جديدة الفضل” بريف دمشق، مجزرة راح ضحيتها المئات، بينهم أطفال ونساء، قُتِلوا حرقاً أو ذبحاً بالسكاكين، على مدى أربعة أيام، بعدما اقتحمت جديدة الفضل قوات من الحرس الجمهوري، بالاشتراك مع “شبّيحة”. ما يزيد على هول المجزرة هولاً، احتفاء بعض الموالين حينذاك بالمجزرة، وإقامة “مهرجانات” تحيّي القوات “الباسلة” على “انتصارها” على “الإرهابيين([2])”.
كانت صور فتيات وهنّ يدبكن ويرقصن على وقع المجزرة، مثيرة ربما لأسئلة كثيرة، وعرة ومحيِّرة، منها: كيف ولماذا تمّحي الشفقة من قلوب البعض إلى هذا الحدّ المرعب؟!
اللافت في ما يخص الفتيات اللواتي رقصن ودبكن، واتّشحن باللون الأصفر الخاص بـ”حزب الله”، أنهن كن من الطراز ذاته، الذي دائماً ما كان يتم اختياره بشكل مدروس ومحسوب في كل المسيرات التي كانت “تُسَيَّر” لتأييد الأسد، وفي كل “مناسبات الحرب” التي طالما شُنَّت على الثائرين السوريين. كلهن سافرات الرأس (بقصد الإيهام بأنهن أقليات خائفات، مستهدَفات من أكثرية سنّية أصولية وتكفيرية)، وكلهن لابسات السبور، واضِعات الوشوم أحياناً، مرتديات “تشيرتات” مرسوماً عليها صور بشار الأسد أو كلمة “منحبّك”، متزيّنات بحلى تحمل صور الأسد أيضاً، والعلَم ذا الخط الأحمر، مبالِغات في تعظيمهن القائد والجيش والأمن والشرطة، مستعمِلات أسلوب “النكاية” و”الشماتة” والسخرية المؤذية، ومنتبهات جيداً إلى ضرورة بقاء الابتسامة الماكرة على وجوههن، بغية إثارة مشاعر الغيظ والحسد في نفوس الخصوم. التفاصيل تلك وغيرها الكثير، من الواضح أنها تدلل ليس على طائفية النظام وحسب، بل أيضاً على جوهره المتعجرف، ووجوده المتسلط القائم على الازدراء الممنهج والتعالي الممنهج والعنصرية الممنهجة.
****
وحيث إنه بالمقارنة تُعرَف الأشياء بوضوح أكثر، فما على المرء إلا مقارنة التظاهرات المناوئة للنظام، بالمسيرات المؤيدة له، وحينها قد يتعرَّف إلى عالم العجرفة في أوضح صوره . في التظاهرات، هناك بشر ثائرون، غاضبون، عفويون، غير معنيين بالصورة التي يجب إظهارها إلى الآخرين، كونهم منهمكين في سخطهم الصادق، وقلقهم وترقّبهم مباغتة الرصاص الحي لصدروهم في كل لحظة. هم في غالبيتهم الساحقة، من البسطاء والفقراء والمهمّشين، خرجوا من الأرياف محتجّين بلباس متواضع، أو تقليدي محلّي، وبأشكال غير مهندسة. فحوى شعاراتهم، العدالة الاجتماعية، المساواة، الحرية والكرامة.
على النقيض من ذلك، تمهر المسيرات المؤيدة شعارات تفوح منها رائحة العنصرية، في وسط مناخ إقصائيّ وإلغائيّ يُعتبَر الموالي لآل الأسد فيه، وطنياً مخلصاً، والمعارض عميلاً وخائناً، قتله فرْض وواجب، كما يُعتبَر المؤيدون “راقين وعلمانيين”، بينما يُنظَر إلى الثائرين المتظاهرين كـ”حثالة ورعاع، وتكفيريين، وإرهابيين”. قد لا يخفى على المراقب الجيد للمسيرات المؤيدة، ذاك الجهد المبذول في الاعتناء بمظهر المؤيدين، من مثل ارتداء لباس موحَّد من “تشيرتات” بيضاء مطبوع عليها صورة الأسد مع كلمة “منحبّك”، ناهيك بحمْل أعداد هائلة من الأعلام ذات الخط الأحمر، تتوسطها صورة بشار الأسد، كرمز لـ”سورية الأسد”، وكإشارة رمزية مفادها: أن علَم السوريين هو هذا العلَم، وأن الشرعية لعلَم “الدولة” هذا، لا للعلم ذي الخط الأخضر الذي يحمله خارجون على “الدولة” و”القانون”! يحدث ذلك، بالترافق مع إحساس مدروس يحاولون إيصاله للمعارضين والموالين والحياديين والصامتين، لمَن في الداخل ولمَن في الخارج، للسوريين ولغير السوريين، على حد سواء، بأنهم الشرعيون، في قبالة لا شرعية التظاهرات المحتجة، وبأنهم أهل البلد، ومحميون من جيش السلطة وأمنها وشبّيحتها، وبأنهم الأقوى والأبقى. يُستشَفّ ذلك من خلال لغة الجسد الخاصة بهم مثلاً، أو من ملامح الوجوه، ونماذج المؤيدين من ذوي التركيز على الهندام “المودرن”” الذي من شأنه إبرازهم كـ”مدينيين” و”حداثويين” في مواجهة “متخلفين” و”همَج”، حتى أن دلالة النظارات الشمسية تختلف بين التأييد والمعارَضة، ففي المسيرات المؤيدة قد تكون مؤشراً إلى العجرفة والاستكبار، تماهياً مع صور أفراد العائلة المالكة الحاكمة التي طالما اقتحمت كل شيء، وترسَّخت بفظاظة في وعي الناس ولا وعيهم، خصوصاً تلك التي قُصِد فيها اتخاذ وضعية معينة، يضع فيها حافظ الأسد وابنه الوارث وأخوه نظّارات شمسية سوداء، مدروسة سيكولوجياً بحيث تخيف المتلقي من شدة غموض شخصياتها، وتكرِّس في داخله شعور الوضاعة والاحتقار لنفسه، كما تذكّر بالمناخ الأمني المسيطر على البلد في آن واحد، بينما يكون للنظارة الشمسية في التظاهرات المحتجة دلالة أخرى، فهي مثلاً وسيلة لستر الوجه، تترجم الخوف من الانكشاف على رجال الأمن.
****
في السياق ذاته تندرج الصور التي طالما راجت بعدما ورث الأسد الابن “الجمهورية”، أي تلك التي يظهر فيها مع زوجته وأطفاله بشكل يقصد الإيحاء بأنهم “عائلة سبور، سعيدة، عصرية ومتفهِّمة للشعب (العبيد)، ومتجاوزة نظام الأب “القديم”، وبأن أطفال العائلة “ملائكة” ينبغي لأطفال سوريا الاقتداء بهم والتعلم منهم، والسير على طريق “خدمتهم”، إضافة إلى التركيز على إظهار السيدة “الأولى” كسيدة “أنيقة”، “منفتحة على أي “جديد” ويجب على نساء سوريا النظر إلى أنفسهن من خلالها وإعدام وجودهن الأنثوي في حضرتها وحضورها “الأبدي الفاتن”! وغير ذلك الكثير مما يصعب حصره في هذه السطور.
****
ينسحب ما ذُكِر آنفاً على “الجيش الحر” و”الجيش النظامي” أيضاً، فالنظرة إلى “الجيش الحر” نبعت من ذهنية العجرفة ذاتها، إذ عدم توافر اللباس الجيد والخاص لدى مقاتلي “الجيش السوري الحر” من مثل الخوذة، أو السترة الواقية من الرصاص، وإهمال بعض المقاتلين لمظهرهم الخارجي، كأن يُترَك الشَّعر والذقن بلا حلاقة، نتيجة العيش في ظروف غير عادية، وفي أماكن ليست ملائمة للاعتناء بالشكل، وعدم توافر الأدوات اللازمة لذلك. إضافة إلى عدم وجود التقنيات والمعدات المهمة بين أيديهم، ونقص الأسلحة العادية، وانعدام الأسلحة النوعية و”المتطورة” لديهم كالطائرات وغيرها. ذلك كله، كان من شأنه تعميق النظرة الدونية لهذا الجيش، واعتباره مجرد جيش من “الإرهابيين والمشردين والمتسولين”. مع أن حقيقة الأمر غير ذلك البتة، إذ نحن أمام عالمَين متنابذَين: نظام جائر، وشعب ثائر. الأول، مرتزق بمعنى الكلمة، لا شرعي، لا وطني بكل المقاييس، وما انخراط حلفائه الغزاة الطائفيين القادمين من إيران والعراق “مليشيات أبو الفضل العباس وغيرها” ولبنان”حزب الله”، في القتال إلى جانبه، إلا دليل دامغ على ذلك . أما الثاني، فهو شجاع، صاحب قضية شعبية وطنية عادلة، وحيد لا يُسانَد في ثورته ولا يُدعَم، ويقاتل بروح مفعمة بالإيمان بأشياء كثيرة، منها الحرية.
وقد كان مخزياً، أن من ادّعوا “صداقة” الشعب السوري، تعاطوا مع “الجيش السوري الحر” بذهنية أعداء الثورة الواضحين ذاتها، فهم لم يعترفوا بهذا الجيش المهمَّش، في المعنى الحقيقي للاعتراف، ولم يهتموا بأمر تسليحه، بينما مدّ الروس مثلاً، حليفهم النظام الأسدي بكل أنواع الأسلحة، متذرعين بعقود قديمة مبرمة. وكان كلما لوَّح “أصدقاء” الشعب السوري بتسليح “الجيش السوري الحر”، سارع الروس إلى الرد بأن ذلك مخالف للقوانين والاتفاقات الدولية التي تقضي ببيع السلاح للأنظمة فقط. بمعنى، أنه لا يجوز إيلاء “الهامشيين” أي اهتمام أو اعتراف – حتى لو كانوا ممن يقع عليهم الظلم والجور- ، كون “الأنظمة” فقط – حتى لو كانت قاتلة لشعوبها- ذات شأن واعتبار.
****
بيد أن الازدراء المؤسف، كان من جهة بعض “المتثاقفين”، أولئك المحسوبين على الثورة، الذين طالما مارسوا دوراً بشعاً وخطيراً حيال الثائرين المدينيين والعسكريين المنشقّين عن جيش النظام. فهم، كالنظام ومؤيديه، تعاطوا مع الثوار عبر النظر إليهم كـ”متخلفين” و”قاصرين” يلزمهم توجيه ورعاية ووصاية، والنظر إلى أنفسهم كـ”عقلاء” و”حكماء” و”متحضِّرين”. الخطير، في الدور الذي لعبه أولئك، أنهم ساهموا في تعميق تهميش المهمشين، وتأصيل ازدرائهم، وهذا ما لن يمر مرور الكرام ربما، إذ المهمَّش ما كان ليثور لو لم يكن احتقاره دافعاً مهمّاً إلى ذلك، وهو حتماً سوف يواصل ثورته على كل مَن يحاول تهميشه مجدَّداً، وقد يتخذ ذلك منحى انتقامياً، خصوصاً لدى البعض من حاملي السلاح! لذا وجبَ الحذر.
2
ما ذُكِر عن بعض مظاهر العجرفة، إنْ هو إلا تفصيل صغير من تاريخ طويل، عاشه السوريون طوال عقود حكم آل الأسد الذي تمثل العجرفة أحد مرتكزاته، وقد لا نجانب الصواب إن قلنا إن “العجرفة” واحد من أهم الأسباب وأشدها عمقاً ربما، أفضى إلى اندلاع الثورة، لأنه قد لا يكون هناك سوري ذو إحساس عال بذاته، لم تترك تفاصيل العجرفة، والافتقار التام إلى الطيبة والمحبة والتسامح الذي دمَّر حياة السوريين وقضى على أحلامهم، أثرها البالغ في نفسه وروحه ووجدانه.
إن العجرفة كانت على ما يبدو، تؤسِّس للحظة انعطافية في تاريخ السوريين. لحظة القطيعة مع زمن القطيع. لحظة الثورة. فذاكرة الثائرين مكتظة ومترعة، ليس بتفاصيل الخوف والقمع والبؤس والإنهاك اليومي واللهاث تلو اللهاث في اتجاه الخواء والهباء فحسب، بل بالعجرفة أيضاً، وقد لا يكون في مقدور أحد من أولئك الثائرين أن ينسى ذاك اللؤم المدروس، من أجل تحقير الإنسان وتقزيمه، بل إعدامه. لؤم لم يقتصر على تحقير يُمارَس على “الفرد” من خارجه، أي من السلطة وممثليها في كل زاوية من زوايا سوريا (المزرعة)، بل تعدَّاه إلى تدريب كل “فرد” على تحقير ذاته بذاته من الداخل، في صميم وجوده.
****
لذاكرة العجرفة تلك وظيفتان: إحداهما مختصة بـ”التذكير” بماضٍ لطالما كانت السلطة فيه تقتات من تبخيس الناس، والأخرى “تحريضية” من شأنها منْع كل محاولة للتفكير في التراجع عن الثورة، لأن ذلك سيفضي في نظر الثائرين، إلى واقع انتقاميّ، استعباديّ أقسى مما كان قبل اندلاع الثورة. واقع يصير الموت معه أرحم بلا أدنى شك، وعلى ضوء هذا الكلام، يصبح شعار “الموت ولا المذلة”، أكثر وضوحاً ودلالة.
هكذا، قد يجد مَن لديه فضول لمعرفة سبب استمرار الثورة السورية، في ما يُطرح ها هنا، إجابة معينة ربما تساعده في فكّ الشيفرة الخاصة بلغز استمرار الثورة، على الرغم من كل ما حصل ويحصل من كوارث تفوق كل تصور، ومع أنها ثورة على هذا القدر العظيم من الوحدة واليتم. ففي “مملكة التبخيس”، حيث تمّ “تأميم” العجرفة، أي احتكارها على يد “دولة الأسد”، ومنْحها السمة “الرسمية”، كانت تتم إدارة صراعية للفضاء الخاص بالناس، وكان “التحديث والتطوير” و”الرفاهية” الموعودة، محض عنجهية تعلو ولا يُعلَى عليها، ولّدت الملايين من المهمّشين والمنبوذين والخائبين والعاطلين. لذا، كانت الثورة ملجأ للمسحوقين وملاذاً للمستضعَفين، ومرجعية يستعصم بها المظلومون. فالثورة بالنسبة إلى مَن قرّر رفْع “صخرة سيزيف”، وشَعرَ بأنه هو الذي يستحق الحياة لا “نُخبه” القيادية، هي الصح الوحيد في حياته. ومِثل ريحٍ عظيمة تهبّ باستمرار من أجل أن يذوي جذر الخراب في البلاد (العائلة المالكة الحاكمة.( الثورة السورية، بالنسبة إلى الثائر الحقيقي، بمثابة ومضة مدمِّرة لا قضية محاباة. فيها فهِم ذاته وكشفَ المستور، وخرَق النظام والعادة والمحدود، وبات كأنه يحيا غبطة روحية حقيقية. إذ حتى في عمق المأساة الحاصلة، هو مغتبط، فمع أنه لم يحقق جل ما يصبو إليه بعد، إلا أنه لوى ذراع العجرفة على الأقل، وحطّم أنفها.
هوامش:
[1]– خالد سعيد (1982–2010): شاب مصري توفي تحت التعذيب. فبعدما رفض أسلوب التفتيش الذي اتّبعه رجال الأمن والاستخبارات وترهيبهم الناس، حين اقتحموا محل إنترنت عام كان موجوداً فيه، قاموا بضربه حتى الموت، هذا ما روته أخت الشاب (زهرة سعيد). لُقِّب الشاب بعد موته بـ” شهيد الطوارىء، وضحية التعذيب، وشهيد الاسكندرية”. كان موته شرارة، حشدت الشباب في مصر ودفعتهم للخروج إلى الشوارع احتجاجاً على ظلم الأجهزة الأمنية والتعسُّف وانتهاك حقوق الإنسان. أُنشئت له صفحة على موقع التواصل الاجتماعي “فايس بوك” سُميت “كلنا خالد سعيد”.
[2] – أعلن النظام الأسدي ورئيسه حرباً إعلامية من جهة، وميدانية قتالية من جهة أخرى، منذ أن تفجَّر احتجاج السوريين، الشعبي، السلمي، المُطالِب بالديموقراطية، في أواسط آذار 2011. اختصت الحرب الإعلامية بوصف الثائرين بأوصاف مهولة. “الإرهابيون” أحد تلك الأوصاف، ومن غاياته تشريع ما ليس بمشروع. فقتْل شعب أعزل، يجهر بمطالب مشروعة، غير مشروع، لذا كان لا بد من الالتفاف على اللامشروعية تلك عبر لعبة اللغة، ما دامت مشروعية قتْل الإرهابي مستمَدة من لا مشروعية الإرهاب نفسه. كما أن عدم الاعتراف بهوية مَن تُشَن الحرب ضده، وبالفعل الثوري الخاص به، من شأنه أيضاً الالتفاف على كل ملاحقة أو مساءلة قانونية ممكنة، مسايرة للقاعدة المعروفة “الاعتراف سيد الأدلة”.
جاء التضليل في قبالة وضوح تام من جهة السوريين الثائرين، الذين طالما أعلنوا على الملأ، هوية الخصم، أي النظام ورئيسه. في الوضوح نفسه، هناك دلالة ربما على مشروعية الثورة على سلطة غاصبة، لا شرعية، لم ينتخبوها. لذا، لم يكن الثائرون في حاجة إلى التفاف لغوي كالذي عمدت إليه السلطة الأسدية التي لم تكن لتجرؤ على الاعتراف بأن حربها ضد شعبها، بل كانت مضطرة إلى تسويغ لغوي إعلامي يساهم في تشويه الثورة وصرْف الأنظار عنها، وفي تضليل الرأي العام. هكذا، خلقت السلطة “عدوّاً شرعياً”، اسمه “الإرهاب”، تضمن بقاءها من خلال قتاله.
أجزاء سابقة من الكتاب:
الجزء الأول (1) – الجزء الثاني (2) – الجزء الثالث (3) الجزء الرابع (4) الجزء الخامس (5)