#########

العدالة والمساءلة

في الحديث عن “هزيمة” الثورة السورية


من يتأمل مكونات الوعي السوري (مجتمعاً ونخبة) قبل عام 2011 واليوم، يجد أننا أمام وعي جديد، وعي يقطع مع العالم القديم وينتمي إلى روح العصر الحديث، على الرغم من أن كثيراً من مكونات الوعي القديم (خصوصاً في الشق الاجتماعي والثقافي والديني) لم تزل قائمة، وتعاند عملية إسقاطها وهزيمتها.

25 / آذار / مارس / 2021


في الحديث عن “هزيمة” الثورة السورية

*المصدر: العربي الجديد | محمد ديبو 


بعد عشر سنوات على صيحات السوريين المنادية بالحرية والعدالة والكرامة، تنطلق اليوم أصوات كثيرة تتحدّث عن هزيمة الثورة السورية. وضمن المعترفين بهذه الهزيمة، نلحظ صوتين/ خطابين مختلفين بالرؤى، على الرغم من انطلاقهما من جذر واحد (الاعتراف بهزيمة الثورة). ينطلق الأول من إعلان الهزيمة بالمعنى السلبي للمفردة، ونتيجة مرّة لواقع أكبر من قدرته وتصوراته، وينطلق الثاني من منطق تبريري، يبحث في مسوّغات هذه الهزيمة، بما يضفي قيمة “إيجابية” على تلك الهزيمة، باعتبارها “نتيجة علمية”، يقول بها تاريخ الثورات و”علميتها”.

يصدر الخطاب الأول، في أغلبه، عن جمهور الثورة وأبنائها، أو من كانوا جمهورها وفاعليها، سواء عبر الانخراط المباشر في أنشطتها وفاعلياتها، أو عبر التأييد المطلق لها (هناك جمهور آخر يعلن هزيمتها منذ زمن بعيد، وهذا خارج حسابات هذه المقالة التي تركز على المكتشفين الجدد لـ”هزيمة” الثورة وفشلها).
اليوم، بعد عشر سنوات من الأمل الذي تضاءل يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة، وصل هؤلاء إلى ما يشبه فقدان الأمل بكل شيء، هم الذين انطلقوا من شعار “الثورات تصنع المستحيل” وجدوا أنفسهم أمام واقع مرّ يتجرّعون به سهام اليأس و”الهزيمة”. كل ما حولهم اليوم يقول ذلك: مخيمات اللجوء، المنافي، الفقر، تمزّق الجغرافيا السورية، القتلى تحت التعذيب، صمت العالم… هذه النتيجة التي وصل إليها هؤلاء لم تأت من فراغ، ولم تولد بين ليلةٍ وضحاها، بل جاءت نتاج تراكم الخسائر والخبرات والوعي والمراقبة والملاحظة خلال تجربتهم اليومية والطويلة في مقارعة الدكتاتورية. وقد انطلق هؤلاء، في بداية الثورة، من إيمان فطري بامتلاكهم الحق في مواجهة الباطل. ومن إيمانهم بإمكانية تحقيق العدالة ضد طغاةٍ قتلة، وأن الحرية تتطلّب التضحيات التي لم يبخلوا بها خلال مسارهم الطويل نحو الحرية، هذا المسار الذي اكتشفوا خلاله دنس السياسة وحقيقة العالم الذي يعيشون فيه، العالم الذي توهموا أن يتحرّك لنجدتهم فسكت (وأحياناً شارك) عن/ في قتلهم. والحق أن هذا المسار طبيعي ومنطقي، ورابح بالنسبة لهم، على الرغم من عدم إدراكهم هذا بعد، وعدم إدراكهم أن الثورة التي آمنوا بها، والتي ينعونها اليوم، لم تُهزم قط. ولكن كيف ذلك؟

 

محاولة تأمل مسار الحوامل الاجتماعية للثورة ووعيها منذ مرحلة ما قبل الاستبداد يوضح أنّ هذه الحوامل انتقلت من وعي ضحل تجاه السياسة والشأن العام والإحساس بالحرية والمطالبة بالديمقراطية إلى وعي فاعل ومطالبة يومية، فحتى يناير/ كانون الثاني 2011 لم يكن ابن الريف الحموي أو الدمشقي أو الحلبي ذا اهتمامات بالشأن العام الذي كان من اختصاص نخبة وفئة معينة من السوريين، إذ كان جل اهتمام القطاع الواسع من الشعب السوري منصبّاً على تأمين لقمة العيش مع محاذرة الاقتراب من العمل السياسي، من دون أن يعني أيضاً أنه لم يكن لهؤلاء رأي فيما يحصل، بل كان لهم رأي ما، يمكن وصفه بأنه فطري من جهة، ومغيّب، غير مصرّح ومعترف به من جهة أخرى.

مع اندلاع الربيع العربي وتفجر الثورة السورية، انطلق هؤلاء، وخلال وقت قصير، من ضفة الابتعاد شبه المطلق عن الشأن العام إلى الانغماس المطلق به، ولأن وعيهم قبل الثورة هو دون سياسي وفطري، جاء إيمانهم بالثورة من واقع وعيهم الفطري هذا، فكما كانت، سابقاً، سياسة “العين ما بتقاوم المخرز” هي السائدة، أصبحت فجأة ثقافة “الشعب يريد والثورة لا تهزم” هي الطاغية، وهذا مفهومٌ ومبرّرٌ تماماً في حال وعي هذه الشرائح التي لم يسمح لها شرطها بامتلاك وعي أبعد مما تقرأه وتراه في الظواهر المحيطة بها، وبالتالي يكون وعيها وتفاعلها معها حسيّاً وعاطفياً أكثر منه عقلياً، فقبل الثورة كان كل ما حولها يقول لها إن الصمت والابتعاد عن السياسة هو الحل الوحيد، ثم أصبح كل ما حولها في المحيط العربي والسوري يقول لها إن الثورة لا تهزم. وفي الحالين، تلقفت هذا الوعي وسارت به، مع فارق أن الثورة بالنسبة لها كانت نقطة عودتها إلى السياسة، فهي، حتى من موقع إيمانها الغيبي والفطري بانتصار الثورة في البداية، كانت تعود، في الواقع، إلى ما حُرمت منه طويلاً، أي الاهتمام بالسياسة والشأن العام. وهنا، يوماً بعد يوم، وجرّاء تراكم الخبرات وتوالي الهزائم والخسائر وخذلان العالم، بدأ وعيهم يحتكّ بحقيقة سياسات العالم وصعوبة التغيير وعوائقه. وهنا بدأ هذا الوعي يغادر مرحلته الفطرية، ويتطوّر بفعل الجدل بين المثال والواقع إلى مرحلة فهم الواقع والسياسة وألاعيبها، ما أوصلهم، في نهاية المطاف، إلى اللحظة الحالية، وهي لحظة مشرقة (على الرغم من مأساويتها والأثمان المدفوعة في سبيلها) لأنها تشي بالعودة إلى السياسة بحسّها الواقعي، السياسة بمعنى امتلاك الوعي السياسي، ولكن من دون امتلاك الحقل السياسي المكوّن من أحزاب سياسية وقوى تغيير منظمة (وهذه مهمة النخب التي فشلت في إنجازها)، قوى تعرف كيف تستثمر في هذا الوعي السياسي وتؤطّره، لأخذه نحو مساراته الصحيحة. والحديث عن النخب هنا يوصلنا إلى أصحاب الخطاب الثاني المتحدّث عن الهزيمة اليوم.

يصدر الخطاب الثاني عن نخب سياسية وفكرية، تدعو اليوم إلى الاعتراف بهزيمة الثورة مدخلاً ضرورياً للبدء وفق ممكنات الواقع، وتذهب إلى أبعد من ذلك في إيجاد “مداخل ثقافية وفكرية” لتبرير تلك الهزيمة، عبر البحث في تاريخ الثورات التي لم ينتصر أي منها!

كان من المفترض، وفق تصور الكاتب، أن توضح النخب لأصحاب الخطاب الأول عن الهزيمة أن اليأس الذي يرقد فيه اليوم ليس قدرياً أو أبدياً، لكنها تفعل العكس، إذ تأتي، مرة أخرى، لتتبع الشارع مجدّداً، وتسير خلفه في إعلان الهزيمة كما سارت خلفه في بداية الثورة، متخلّية عن حسّها النقدي تجاه الثورة، ومن موقعها كجزء ومدافع عن الثورة في الوقت نفسه.
وهنا في تأمل مسار هذه النخب، نجد أنها انتقلت من إيمانها المطلق بـ”حتمية” انتصار الثورات في عام 2011 إلى “واقعية” و”تاريخية” هزيمتها عام 2021، وأن مقارنة وعي النخب بوعي الحوامل الاجتماعية للثورة في محطاتها الثلاث ستوضح أن النخب نفسها انتقلت من اليأس المطلق بإمكانية إحداث أي تغيير قبل عام 2011، إلى خطاب حتمية التغيير خلال سنوات الثورة، إلى الاعتراف بهزيمتها وإيجاد مسوّغات لهذه الهزيمة، كما أوجدوا مسوّغات لحتمية انتصار الثورات، حين كانوا يؤمنون بانتصارها! ما أسباب ذلك؟ في حقيقة الأمر، إن النخب، وأيضاً بسبب من شروط وعيها وآليات تشكّله في ظل دكتاتورية شديدة القسوة، فاجأها الربيع العربي كما فاجأ الجميع، وبدل أن يكون الربيع محفّزاً لها لامتلاك وعيها وحسّها النقدي الذي لطالما اعتبر واحداً من أهم ما يميز النخبة/ المثقف عن عموم الناس الذين لا تسمح لهم شروطهم برؤية ما يقف خلف الظواهر المرئية، وجدت (النخب) نفسها تلهث وراء الشارع، وتتحدث عن حتمية الانتصار، ثم لتعود وتتحدّث عن الهزيمة، بعد أن وصل الشارع قبلها إلى النتيجة نفسها، بل ربما وصل الشارع إليها قبل سنوات كثيرة من قدرة نخبٍ كثيرة على الاعتراف بهزيمتها، هذا إن كان ثمّة هزيمة أصلاً. وهنا نكون أمام نخبٍ تخون مهمتها للمرة الثانية على التوالي، لأن عليها أن تقرأ وتبحث عن اختراع الأمل على المدى البعيد، من دون أن تتخلّى عن دورها، في الوقت نفسه، إلى الإشارة إلى مدى عقم الواقع الحالي، بما يعني أن عليها أن تستلّ من هزيمة الحاضر ممكناتٍ ما للمضي في طريق طويلٍ وصعب، أي قراءة راهن الواقع الصعب الذي ترقد فيه الثورة السورية اليوم على وقع المدة الطويلة للتاريخ، والتي تحبل بإمكانات شتى، ليس منها هزيمة الثورة إن أمكن الإشارة والإضاءة إلى الممكنات الكامنة والموجودة. ولكن أية إمكانيات هذه التي نتحدّث عنها؟


تشييع عنصر من حزب الله في بيروت قتل في سورية (24/10/2016/ فرانس برس)

في خطاب الهزيمة

والآن بعد الحديث عن مصدر خطاب الهزيمة، نتحدّث عن خطاب الهزيمة ذاته، عبر سؤال: هل هزمت الثورة السورية وانتهت إلى الفشل حقاً؟ وإذا كانت لم تهزم حقاً، فما الذي هزم إذن؟ وما هذا الذي يُجمع الجميع على هزيمته اليوم؟ تبيّن قراءة الثورة ضمن المدة الطويلة للتاريخ (وفق لغة محمد أركون) أن الثورة السورية أدّت تماماً المهمة المطلوبة منها في فتح آفاق التاريخ والممكن، فهي كسرت حلقاتٍ كثيرةً كانت تبدو لنا شبه أبدية ومغلقة، وأنهت أساطير وسرديات كثيرة كانت مهيمنة، وهدمت كل معالم العالم القديم الذي كنا نرقد بين طياته، وما نراه اليوم هو (وهو الذي يظهر لنا هزيمة، وهو ليس كذلك) هو رماد وأنقاض العالم القديم الذي لم يزل يُهدم بفعل أثمانٍ كبيرة وفادحة، تقدّمها القوى الجديدة المطالبة بعالم جديد لم يولد بعد، وتتوقف ولادته على إمكانات الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، وهي إمكانات لم تزل قائمة، ولم يغلق قوسها على الرغم من أنها لم تنتظم في إطار واضح ومحدّد المعالم بعد.

من يتأمل مكونات الوعي السوري (مجتمعاً ونخبة) قبل عام 2011 واليوم، يجد أننا أمام وعي جديد، وعي يقطع مع العالم القديم وينتمي إلى روح العصر الحديث، على الرغم من أن كثيراً من مكونات الوعي القديم (خصوصاً في الشق الاجتماعي والثقافي والديني) لم تزل قائمة، وتعاند عملية إسقاطها وهزيمتها. وعي كهذا، نجده حتى عند مؤيدّي الدكتاتورية الذين لم يعودوا ينظرون إلى سورية والعالم بالمنظار نفسه الذي كان يُنظر إليه في السابق، ثمّة تغيير عميق وكبير في الوعي، والنظر إلى الآخر والعالم والسياسة والبلد، وهذا أمر ما كان ليكون من دون الثورة السورية. بل من يعرف كم تستغرق من زمن عمليات الانتقال، من نظام وعي سابق إلى نظام وعي جديد ومتقدّم، يدرك أن الثورة عملت، في عشر سنوات، على كسر “نظام الوعي” الذي أنجزته الدكتاتورية في خمسين عاماً، فمفرداتٌ مثل حقوق الإنسان والانتخابات والديمقراطية والعلمانية والعدالة والمواطنة والإسلام السياسي أصبحت أموراً بديهية وطبيعية في حياة السوريين ووعيهم اليومي، وحتى ممارساتهم (على الرغم من اختلافهم الشديد بشأن كل واحدةٍ من هذه المفردات، وهذا طبيعي وصحي وديمقراطي، ويشير إلى عودة حيوية السياسة إلى المجتمع السوري، على خلاف ما يظن كثيرون)، ما يعني أن السوريين (أو على الأقل كتلة كبيرة منهم) أصبحوا اليوم يمتلكون وعياً مغايراً لما كانوا عليه في السابق، فهم اليوم جزءٌ من روح العصر الحديث، بعد أن كانوا جزءاً من عالم قديم، ما كان لهم أن يغادروه لولا الثورة السورية.

والحق، وهذا مما حقّقته الثورة السورية أيضاً، أن هذا الوعي الحديث ما كان ليتشكّل من دون هدم (وتعرية) أفكار وقوى وإيديولوجيات كثيرة زائفة حكمت الوعي القديم وشكلت عالمه، منها في عجالة: علمانية النظام السوري ووطنيته وممانعته، إمكانية إصلاح النظام من الداخل، محور المقاومة وقداسة سلاحها، كيفية النظر إلى الجمهورية الإيرانية وروسيا والصين وتركيا…، الإسلام السياسي، اليسار… هذه النظم والإيديولوجيات كانت في المخيال السوري العام تمتلك قدراً كبيراً من الإيجاب، لعوامل كثيرة، لا تتعلق بمجال الوعي الذي فرضه النظام السوري وحده، بل أيضاً بسبب تركة مرحلة التحرّر العربي والحرب الباردة على المنطقة والعالم (وسورية جزء منه)، وبسبب من سيادة الشرعية الثورية عقوداً طويلة (لم تزل مستمرة في بعض البلدان) على حساب الشرعية الدستورية التي يجرى العودة إليها اليوم، من خلال العودة إلى روح العصر.
هنا، يمكن القول إن الثورة السورية نجحت نجاحاً كبيراً في تعرية كل الوعي الزائف الذي كان يحكم هذه الإيديولوجيات، وهذا أمرٌ ليس قليلاً أبداً لمن يعرف كيف تشكلت هذه الرؤى والإيديولوجيات، وكم جرى العمل على تعميمها وترويجها وإقناع الناس بها. فإذا أخذنا مثالاً واحداً، هو حزب الله اللبناني، الذي كان يُنظر إليه باعتباره رافعة للمقاومة في المنطقة، وكم دفعت إيران، منذ ثمانينيات القرن الماضي، لبناء هذا “الوهم” وتحويله إلى “مقدّس” في عقول الجماهير ووعيها بحجة المقاومة، حينها نعرف حجم الإنجاز الذي حققته الثورة السورية، حين عرّت كل هذا النفاق، بكل ما يصاحبه من تفكيك إيديولوجية المقاومة الكاذبة والطائفية الكامنة فيه. لقد أجبر هذا الإنجاز حزب الله على الانتقال من موقع الهجوم وموزّع شهادات الوطنية والمقاومة (وهي صفات حازها سابقاً عن طريق القوة الناعمة التي بنتها إيران) إلى موقع الدفاع، بعد أن أصبح، في نظر الجميع، مجرّد مليشيا طائفية وتابعة، وستضطر هذه المليشيا لاستخدام السلاح حتى في الداخل اللبناني بعد اليوم، للحفاظ على مكاسبها، وذلك بعد أن كانت تلقى قبولاً من قطاع كبير، وهذا ما لم يعد ممكناً اليوم، ما يعني أن حزب الله، كما النظام السوري وداعميه، قد دخلوا نفق النهاية، فهم لم يعد لديهم سوى القوة العارية للبقاء. ومعروفٌ أن القوة وحدها لا تبني أية شرعية مهما بلغ حجمها وقوتها وعسفها، بل تعمل على هتك هذه الشرعية. ولكن هنا، ثمّة نقطة مهمة، أن هذه القوى ستبقى قائمة في الواقع كقوى هدم ومعاندة، إلى أن تتمكّن القوى الجديدة من تشكيل أحزابها أو قواها والإمساك بشارعها. وهنا يكون ميدان الفعل الذي ما زال مفتوحاً، وبقوة الثورات وإنجازاتها أيضاً، ومنها الثورة السورية. ما نعنيه، في نهاية المطاف، أن إنجازات الثورة السورية ونجاحاتها كثيرة ومتعدّدة ومفتوحة على احتمالات كثيرة، طالما أن لا اعتراف عالمياً أو دولياً بعد بشرعية نظام الدكتاتور، وحتى لو جرت إعادة تركيب شرعيةٍ ما وفق توازنات دولية ما، فإنه سيبقى نظاماً معزولاً ومداناً دولياً، مثل نظامي صدّام حسين وعمر البشير في أواخر حياتيهما، بما يعني أن مسألة سقوط النظام ورحيل الأسد مسألة وقت لا أكثر، إذا نظرنا إلى التاريخ والثورات من منظار المدة الطويلة. ولكن هنا، يكون ثمّة سؤال: إذا كانت الثورة السورية قد حققت كل هذه الإنجازات، فلماذا يبدو خطاب الهزيمة هو السائد اليوم؟

خطاب الهزيمة السائد اليوم هو هزيمة خطاب واحد من خطابات الثورة، وهو الخطاب الذي كان له الصوت العالي خلال السنوات العشر الماضية، الخطاب الذي ربط نجاح الثورة بأمرين: رحيل الدكتاتور وتحديد مدّة محدّدة لرحيله، فإن لم يرحل خلالها فهل يعني هذا الهزيمة؟ نعم، إن كان ثمّة هزيمة ما، فهي هزيمة هذا الخطاب وليس الثورة (وهو خطابٌ شرعيٌّ وأصيل من الثورة، لكنه ليس كل الثورة)، وهذا الخطاب تكوّن بفعل ثلاثة مسبّبات: أولها التوحّش الإجرامي الذي قابل به نظام الدكتاتور الثورة وكوادرها، بحيث جاء خطابها هذا ردّاً على عنفه الوحشي وانتقاماً منه. والثاني، ارتدادات الربيع في سورية من خلال رحيل زين العابدين بن علي وحسني مبارك والقذافي وعلي عبد الله صالح. والثالث من خلال المال السياسي والضخّ الإعلامي والمناخ الذي أنتجه الفاعلون الإقليميون والدوليون في سورية، كل منهم لمصلحته الخاصة التي ما كانت لها لتتحقق لولا سيادة هذا الخطاب الذي عمل على إشاعة أوهام كثيرة تحت نياته النبيلة.

والحق أن هذه الخطاب ما كان قابلاً للنجاح، ولا بأي شكل، لأن موازين القوى الدولية والإقليمية وطبيعة المجتمع السوري وتركيبة النظام أيضاً كلها عوامل كانت تقول بعدم إمكانية تحقّقه، ما يعني أنه لم تكن هناك أية حوامل سياسية واجتماعية أو دولية أو إقليمية له، وهذا الذي فشل، بل أكثر من ذلك، إن هذا الخيار فشل عملياً منذ الانتخابات الرئاسية السابقة عام 2014، حين وقف المجتمع الدولي متفرّجاً أمام إعادة انتخاب الدكتاتور لولاية جديدة، في حين واصل أصحاب هذا الخطاب ترداد النخبة نفسها، والسير على الطريق نفسه، حتى وصلوا إلى نهايته المسدودة اليوم. في حين أن الثورة، على الرغم من هزائمها الكثيرة والأثمان الباهظة التي دفعت، حققت الكثير الذي ما كان ليكون من دون هذه الأثمان، وهي ثورة مفاعيلها مستمرة، أي إن ما هزم هو الخطاب السائد عن الثورة الذي أفسح المجال اليوم لخطابٍ آخر عن الثورة كان محتجباً تحت صخب الخطاب الأول، الخطاب الذي يراهن على الفعل اليومي، ويعمل على إسقاط النظام والدكتاتورية على مدى طويل الأمد، طويل الأمد جدا. وهذا الطريق هو الذي سيبقى يسير عليه القابضون على نار التغيير وحتميته، وهو مرهونٌ بالإيمان بإمكانية الفعل والبدء من جديد، بعد تبدّد كل الأوهام. ولكن كيف نبدأ ونعمل ونستغل المساحات الممكنة لترحيل الدكتاتورية، هذا سؤال آخر، ويحتاج قراءة أخرى ليست في متناول هذه السطور. ولكن من المهم أن نعرف أن التاريخ لم يُغلق ولن يُغلق، سواء عبر المدة القصيرة للتاريخ أو عبر المدة الطويلة له، فالدكتاتورية فقدت كل مسوّغات وجودها، وأصبحت عاريةً. ويتوقف أمر ترحيل هذه الجيفة على جهودنا نحن، لا على جهود المجتمع الدولي. والأمر الأهم أن هذه الجيفة ستبقى برائحتها العفنة تلوّث أيامنا حتى نشكل القوة القادرة على فعل ما يجب أن نفعله نحن، لا أحد غيرنا.

سبق للثورة السورية الكبرى ضد المحتل الفرنسي أن هزمت، إلا أنها فتحت أفقاً للمسار السياسي الذي عبّده نضال الكتلة الوطنية، وصولاً إلى الاستقلال الذي جاء بعد عشرين عاماً (تقريباً) من الهزيمة العسكرية للثورة تلك. ولكن هذا الإنجاز (الاستقلال) ما كان ليكون لولا الثورة أولاً، ولولا قدرة السوريين آنذاك (الكتلة الوطنية) على متابعة النضال سياسيا (ومن الداخل لا المنافي) لترحيل الانتداب الفرنسي، بما يشير إلى الإمكانات التي تبقى قائمةً، مهما كان حجم الخسائر. في الأمس، أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن، أنّ الرئيس الروسي، بوتين، قاتل، وأنه سيدفع الثمن، وكون أن بوتين هو الداعم الأساسي لنظام الأسد، ومعه إيران المحاصرة أميركياً أيضاً، فهذا يعني أن تصريح بايدن ستكون له ارتدادات ما في سورية، قد تكون هذه الارتدادات صغيرة أو كبيرة، ولكن قبل هذه الارتدادات، يبقى السؤال: ماذا بنينا طوال السنوات العشر لنجعل هذه الارتدادات تصبّ في صالحنا، وتساهم في فتح مسار ما، نعمل عليه خطوة خطوة، لنصل إلى تحقيق أهدافنا، في ترحيل الدكتاتور ونظامه؟