#########

العدالة والمساءلة

كيف اختفت أربعة أطنان من المواد الكيميائية السويسرية في سوريا؟


هل يمكن ان تستخدم مواد كيمائية لصناعة أدوية مثل الفولتارين أن تنتهي مواد متفجرة في براميل الموت التي يستخدمها النظام السوري؟ هذا التحقيق الاستقصائي يشرح كيف.

28 / تموز / يوليو / 2021


كيف اختفت أربعة أطنان من المواد الكيميائية السويسرية في سوريا؟

*المصدر: موقع درج 

هذا الموضوع تمّ إعداده بالتعاون مع مركز “بوليتزر للإبلاغ عن الأزمات”

أنطوان هراري وكورت بيلدا


بعد تحقيق استمر عاماً، أصبح بإمكان وحدة التحقيق التابعة لمجموعة “تاميديا” الإعلامية السويسرية، تأكيد أن معظم المواد الكيميائية التي تدخل في صناعة دواء “فولتارين” لم تصل قط إلى وجهتها. ويخشى عميد سوري سابق من أنها استخدمت لتصنيع أسلحة كيميائية.

بعد رحلة على متن قارب استغرقت أسابيع، وامتدت من مدينة بازل على نهر الراين إلى مدينة اللاذقية الواقعة على ساحل البحر المتوسط، وصلت أخيراً خمسة أطنان من الإيزوبروبانول و280 كيلوغراماً من مادة ثنائي إيثيل أمين إلى مخازن “شركة المتوسط للصناعات الدوائية” في 14 كانون الثاني/ يناير 2015.



عن شركة “رائدة”

تُعد شركة المتوسط للصناعات الدوائية- التي تبعد قرابة 20 كيلومتراً من العاصمة دمشق، والتي كان يعمل لديها حوالى 150 موظفاً في ذلك الوقت- واحدة من الشركات الرائدة في القطاع الدوائي السوري. لدى الشركة تراخيص تسمح لها بتصنيع أدوية كثيرة، لا سيما عقار فولتارين المضاد للالتهاب، المملوك لِعملاقة الأدوية السويسرية “نوفارتس”. وبينما يدخل الإيزوبروبانول في صناعة العقاقير الطبية كافة، فمن المعروف أيضاً أنه مادة كيميائية مزدوجة الاستخدام، أيّ أن لها استخدامات سلمية مشروعة لكنها قد تستخدم أيضاً في صناعة الأسلحة الكيميائية.

يُعد الإيزوبروبانول بالفعل عنصراً أساسياً في تصنيع السارين: غاز الأعصاب سيئ السمعة. وقد حظر الاتحاد الأوروبي بيع الإيزوبروبانول إلى سوريا- من دون الحصول على تصريح خاص- منذ اندلاع الحرب في 2011.

لكن ذلك لا ينطبق على سويسرا. فدائماً ما تقصدها الدول التي تحاول التزود بالأسلحة الكيميائية، مثل إيران والعراق، بسبب موقفها الملتبس بشأن العقوبات الدولية، مع ذلك رفضت البلاد 12 عملية تصدير إلى سوريا في الفترة ما بين عامي 1992 و2011.

إلا أن عبد الرحمن العطار، الرئيس السابق لشركة المتوسط للصناعات الدوائية، كان يعرف كيف يُحسّن صورته جيداً. فعلى رغم قربه من النظام، حظي العطار بصدقية دولية بحكم شغله منصب رئيس “منظمة الهلال الأحمر العربي السوري”. وبفضل هذا المنصب لم يرد اسمه في أيٍّ من قوائم العقوبات الدولية. كان هذا أحد العوامل التي ساهمت في طمأنة  أمانة الدولة السويسرية للشؤون الاقتصادية.

أخبرنا مسؤولون في الأمانة أنه ليس لديهم وقت للتدقيق في كل طلبٍ على حدة، بسبب انشغالهم الشديد، إذ يستقبلون عشرات الآلاف من الطلبات سنوياً، يتولى أربعة موظفين حكوميين فقط مسؤولية مراجعتها. وعليه فقد وافقت الأمانة في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2014 على تصدير خمسة أطنان من الإيزوبروبانول و280 كيلوغراماً من مادة ثنائي إيثيل أمين إلى سوريا،  بناءً على طلبٍ من شركة “برينتاغ شفايتزرهال”، الكائنة في مدينة بازل السويسرية.

ما لم يعرفونه حينها هو أن 80 في المئة من الإيزوبروبانول لن تصل أبداً إلى وجهتها. فقد انكشفت الفضيحة بعد أربع سنوات كاملة، عندما نشرت  محطة “آر تي إس” التلفزيونية السويسرية تقريراً في حزيران/ يونيو 2018.



بفضل طلبات عدة ترتكز على قانون الشفافية السويسري، تمكنت وحدة التحقيق التابعة لمجموعة “تاميديا”من إعادة صوغ جزء من هذه القصة وتتبع سياقها الزمني المعقد.

تمكنا بعد بحثٍ من الحصول على بيان لعملية تدقيق أُجريت بأمرٍ من شركة مستحضرات صيدلانية منافسة لشركة “نوفارتس” في أيلول/ سبتمبر 2018. يشير التقرير أيضاً -المكون من 26 صفحة تدقق في سجلات الشركة- إلى تفاصيل الصفقة التجارية سالفة الذكر.

يشرح التقرير كيف أنه دقق بعناية في الوثائق المتعلقة باستخدام شركة المتوسط الدوائية الإيزوبروبانول في تصنيع الفولتارين. ويوضح كيفية وصول 1.12 طن من الإيزوبروبانول إلى سوريا في 14 كانون الثاني 2015، من دون استخدامها في تصنيع المرهم المضاد للالتهابات (يشكل الإيزوبروبانول 20 في المئة من مكونات أنبوبة واحدة من مرهم فولتارين)، مثلما أشارت  أمانة الدولة السويسرية للشؤون الاقتصادية، وإنما في تصنيع المادة التي تغلف أقراصاً دوائية صفراً وسوداً ووردية.

علماً أن القرص الواحد لا يحتاج سوى غرامات قليلة فقط من الإيزوبروبانول. تخبرنا الوثيقة ذاتها أن تصنيع هذا الدواء بدأ في آذار/ مارس 2015 وانتهى في أيلول من العام ذاته.

تؤكد تلك المعلومات البيانات الواردة في المستندات التي قدمتها شركة المتوسط لأمانة الدولة السويسرية لتبرير استخدام تلك المركبات الكيميائية، وتتناقض معها أيضاً في الوقت ذاته. فتحت عنوان “سجلات الدفعات”، تتحدث الوثائق عن فترتين متعاقبتين استخدمت فيهما المواد.

تتزامن فترة الاستخدام الأولى مع الفترة المُشار إليها في البيانات المذكورة في تقرير الشركة المنافسة، التي تشير إلى استخدام 1.12 طن من الإيزوبروبانول في الفترة بين شهري آذار وأيلول من عام 2015. أما الثانية، التي يفترض أن توضح مصير الأربعة أطنان المتبقية، فتشير إلى استخدام المواد الكيميائية على مدار أكثر من عامين، ما بين أيلول 2015 وكانون الأول/ ديسمبر 2017.

لكن ذلك يتجاوز فترة ضمان المنتج التي تبلغ سنة واحدة، مثلما أكدت لنا شركة “ساسول” المنتجة له. يخضع إنتاج العقاقير المُرخصة لرقابة مشددة ويمنع منعاً باتاً استخدام المواد عندما تتجاوز فترة الضمان الخاصة بها، نظراً إلى المخاطر الصحية المحتملة على المستهلكين.

واصلنا البحث مدفوعين بحماستنا إلى أن اكتشفنا أنه لم تصل سوى 1.12 فقط من الإيزوبروبانول إلى وجهتها النهائية، وأنه لا توجد سجلات من أيّ شكل لأيّ شحنات أخرى. بل واكتشفنا أن أرقام التعريف الخاصة بالدفعة الثانية كانت خاطئة.

 

إذاً أين ذهبت الكمية المتبقية؟

مثلما تؤكد تقارير أعدتها وكالات استخباراتية أوروبية، فإن المتهم الأول بسوء الاستخدام المحتمل لتلك المركبات الكيميائية ربما يكون “مركز البحوث والدراسات العلمية”، الذي عكف على تطوير أسلحة كيميائية لنظام الأسد منذ الثمانينات.

وقد أرسل المركز بالفعل أربع طلبات لأمانة الدولة السويسرية لاستيراد مواد أخرى، رُفضت كلها بصورة منهجية. ويُعد المركز، الذي يعمل في سرية تامة، واحداً من أكثر الأماكن المضمونة في سوريا ومن الصعب الحصول على أيّ معلومات تتعلق بعمله.

بيد أنه، في إطار تحقيقنا، تمكنا من تعقب مسؤول سابق في الجيش السوري، وأجرينا معه مقابلة: وهو العميد الركن زاهر الساكت، الذي بات الآن لاجئاً في أوروبا، بعدما عمل لمدة 20 عاماً ضمن برنامج الأسلحة الكيميائية السوري، قبل أن ينشق عن النظام ويفر من سوريا عام 2013 – قبل عام واحد من تسليم الأطنان الخمسة من الإيزوبروبانول. وقد بدت الطريقة التي تمت من خلالها هذه الصفقة معروفة تماماً إليه.

فقد قال خلال محادثة عبر الفيديو، “إن استخدام شركات الأدوية كغطاء يُعد أحد أكثر الوسائل المفضلة لدى النظام، لاستيراد مواد كيميائية عالية الجودة”.

وأضاف، “من المؤكد أن هذه الأطنان الأربعة وصلت إلى أيدي النظام. إذ إن جميع مديري شركات الأدوية السورية تربطهم علاقات بالحكومة”. وعلى حد قوله، كان عبد الرحمن العطار هو “الرجل المثالي” ليتولى زمام الأمور في هذه الصفقة.

فقد كان الرئيس السابق لشركة المتوسط للصناعات الدوائية السورية، والذي توفي في 15 شباط/ فبراير 2018، من الشخصيات الرئيسية لدى النظام. أولاً وقبل كل شيء، بوصفه “أحد رجال الأعمال الذين مكنوا النظام من تجاوز العقوبات”، وفقاً لما قاله أحد رجال الأعمال السوريين، الذي كان أحد المقربين من العطار في غرفة تجارة دمشق.

ومن الغريب أن البحث الذي أجراه موقع “درج” الذي شارك في إعداد هذا التحقيق، أظهر أن أياً من شركاته لم تكن مسجلة على الإطلاق في السجل التجاري السوري، ومع ذلك تربع رجل الأعمال الدمشقي فوق القانون.

ثانياً، فقد مكنه مركزه الاستراتيجي عندما شغل منصب رئيس منظمة “الهلال الأحمر السوري”، من مراقبة المنظمات غير الحكومية الغربية العاملة في الأراضي السورية. فقد قالت أسماء*، التي لا تزال تعمل في سوريا: “لم يكن من الممكن اختيار العطار لشغل هذا المنصب ما لم يكن حليفاً وثيقاً ومقرباً من النظام”.

لعل تلك الصلات بين منظمة “الهلال الأحمر السوري” وأجهزة الاستخبارات في البلاد، هي التي تثير قلق أسماء التي كانت في السابق ضمن صفوف العاملين في مجال الإغاثة، والتي تقيم الآن خارج البلاد. فقد قالت أسماء التي تعرضت للتعذيب على أيدي جنود داخل سيارة تابعة لإحدى المنظمات الخيرية، إن الكثير من المسؤولين التنفيذيين في الهلال الأحمر يعملون مباشرة مع جهاز المخابرات السوري.

تؤكد هذه الاتهامات صحة الادعاءات التي تقدم بها عالم البيانات السوري فيصل العظم، أمام البرلمان الكندي بسبب الجنسية الكندية التي يحملها العطار.



ومن عجيب المفارقات، أن أمانة الدولة السويسرية للشؤون الاقتصادية صرحت بأنها شعرت بالاطمئنان إزاء شغل رجل الأعمال السوري منصب رئيس منظمة “الهلال الأحمر السوري”، في حين كان يفترض أن يثير هذا الأمر شكوكهم بالفعل لاحتمال وجود أمر مريب.

وفي جميع الأحوال، دفعت تلك المجموعة من العوامل على النحو المبين أعلاه، المسؤول القانوني البارز في مبادرة العدالة في المجتمع المفتوح، ستيف كوستاس، إلى الخوف من حدوث أسوأ الاحتمالات.

أعرب كوستاس عن خوفه قائلاً، “منذ عام 2013، وبعد بدأ تدمير ترسانة الأسلحة الكيميائية في البلاد تحت إشراف منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، نفذت سوريا ما يقرب من 200 هجوماً جديداً”. مضيفاً، “وخلال هذه الفترة، واصلت الشركات الأوروبية شحن الإيزوبروبانول إلى سوريا على رغم القوانين الرامية إلى منع مثل هذه الصادرات، خوفاً من احتمالية استخدام هذه المواد الكيميائية  في صنع المزيد من الأسلحة الكيميائية”.

وكما تبين من محاولة إحدى الشركات السورية في أوائل عام 2014 استيراد الإيزوبروبانول من ألمانيا لتصنيع المسكنات، وهي محاولة باءت بالفشل، فقد جاء هذا الطلب قبيل الطلب الذي أرسلته شركة المتوسط للصناعات الدوائية السورية إلى شركة “برينتاغ شفايتزرهال”.

في 20 أيار/ مايو 2014، أرسل المدير التجاري لشركة المتوسط للصناعات الدوائية شخصياً رسالة عاجلة عبر البريد الإلكتروني إلى شركة “برينتاغ” في مدينة بازل السويسرية، طالباً من بين أمور أخرى خمسة أطنان من الإيزوبروبانول و280 كيلوغراماً من مادة ثنائي إيثيل أمين. وبعد مرور ثمانية أيام، قدمت شركة “برينتاغ” ملف التصدير إلى أمانة الدولة السويسرية للشؤون الاقتصادية.

تُعد شركة “برينتاغ” التي يعمل بها 17 ألف موظفاً، واحدةً من الشركات الألمانية العملاقة التي تبيع المواد الكيميائية في جميع أنحاء العالم. فضلاً عن أن لديها مستودعات في الكثير من المدن (الموانئ) المهمة في أوروبا، بما في ذلك مدينة مارسيليا الفرنسية، ومدينة هامبورغ الألمانية. ومن الناحية الجغرافية، كان من الأسهل بكثير شحن الإيزوبروبانول إلى سوريا من إحدى هذه المدن. بيد أن تصدير مثل هذه المنتجات، يحتاج إلى تصريح خاص من الاتحاد الأوروبي.

 

رحلة الإيزوبروبانول

كانت شركة “برينتاغ” في بازل على أهبة الاستعداد لتنفيذ أمر التصدير. ففي خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2014، صدرت الشركة أكثر من 400 طن من الإيزوبروبانول بسعر 1.35 فرنك سويسري (1.46 دولار أميركي) للكيلو الواحد. ونقلت الشاحنات الألمانية والبولندية المواد الكيميائية من مصنع بالقرب من مدينة دويسبورغ الألمانية. وتوجهت معظم الشاحنات جنوباً عبر منطقة الألزاس وعبرت الحدود إلى مدينة بازل من بلدة سانت لويس الفرنسية. ومن هناك، لا تبعد مباني شركة “برينتاغ شفايتزرهال” سوى بضع مئات من الأمتار.

كان السوريون على استعداد لدفع 3.39 فرنك سويسري (3.66 دولار أميركي) مقابل الكيلو الواحد من الإيزوبروبانول الألماني المُخزن هناك، وهو ما حقق أرباحاً إجمالية بلغت 150 في المئة. أما شركة “برينتاغ” فقد حصلت في النهاية على 17346 فرنكاً سويسرياً (18733 دولاراً أميركياً) من سوريا.

بحسب ما ذكرته سلطات الجمارك، فقد نُقلت البضائع عبر نهر الراين على متن سفينة في 19 تشرين الثاني 2014، وهو مسار غريب إلى حد ما. أولاً، نُقلت المواد الكيميائية لمسافة نحو 560 كيلومتراً جنوباً، عن طريق البر من مدينة دويسبورغ، ثم توجهت على متن سفينة إلى الشمال مرة أخرى في نفس الطريق تقريباً. وحُمِّلت البضائع على متن سفينة عابرة للمحيطات قبل نقلها إلى اللاذقية في سوريا، التي وصلت إليها في كانون الثاني 2015.

هل كانت شركة “برينتاغ” تتحايل عن قصد على شرط الحصول على تصريح خاص من الاتحاد الأوروبي من خلال اختيار هذا المسار المعقد؟ أكدت الشركة أنها تمتثل امتثالاً صارماً للمتطلبات القانونية السويسرية ولوائح التصدير. واعترفت علاوة على ذلك بأن العلاقة بين شركة المتوسط للصناعات الدوائية السورية والشركة السويسرية “نوفارتس”، كانت السبب الرئيس لقبول تلك الصفقة. ودافعت عن نفسها بالإشارة إلى رفض المدعي العام الألماني في مدينة دويسبورغ التحقيق في ملابسات التسليم.

حاولت مجموعة “تاميديا” التواصل مع شركة المتوسط للصناعات الدوائية السورية، بيد أن الشركة التي كانت في السابق قوة هائلة في قطاع الأدوية السوري، قد اختفت فعلياً منذ نشر مقالاتنا. وبعدما فقدت معظم اتفاقيات الترخيص مع الشركات الأجنبية، لم تعد الشركة نشطة على “فايسبوك”، الذي كان المنصة الرئيسة التي يستخدمها المواطنون العاديون لطلب أدويتهم.

في حين أنه من الصعب تتبع أي نشاط تقوم به شركة المتوسط للصناعات الدوائية على شبكة الإنترنت، يبدو أن التزام الصمت لا يزال سائداً في الشركة. ولا يزال الكثير من الموظفين السابقين، الذين أصبحوا الآن لاجئين في أوروبا، يعيشون في خوف من النظام ورفضوا التحدث إلينا.

ثمة أمر واحد مؤكد وهو: أن الأطنان الأربعة المفقودة من الإيزوبروبانول يُمكن استخدامها لإنتاج ما يقرب من 8 أطنان من السارين. وهو ما يكفي لشن نحو 40 هجوماً كيميائياً، ما قد يُسفر عن مئات، إن لم يكن آلاف، من الضحايا. وهي فكرة مروعة تقشعر لها الأبدان.