ما أحرزته الثورة تجاه النظام هو أمر لا بد من تقديره والبناء عليه، وهو نزع الشرعية الشعبية عنه، والتعامل الدولي معه كتابع حتى من قبل داعميه، وربما يشهد الاستقبال الروسي في أكثر من مرة على مدى احتقار الروس لرأس النظام.
30 / آذار / مارس / 2024
*مع العدالة: المصدر “تلفزيون سوريا“
أحمد عيشة
ليس من الإنصاف الحكم على الثورة السورية بعد ثلاثة عشر عاماً بأنها فشلت أو انهزمت، فما يزال الحكم هذا يحتاج إلى مزيد من الزمن والتمعّن. ومع أن ما نشهده كواقع صعب، هو أنها لم تتمكن من أن تُسقط بشار الأسد من سلطته، ولم تستطع أن تقيم نظاماً بديلاً عنه، أياً كان سمته، وأن البلاد تعيش حالة من تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ تابعة لدول إقليمية ودولية أدخلت البلد في حالة من الجمود بسبب اختلاف المصالح والرؤى، وهو حال لا تتحمل الثورة وحدها المسؤولية عنه إلا جزئياً فيما يخص “مناطقها”، لكن الأمر المهمّ الذي يجب أن يلاحظ، وهو واقع أيضاً، هو ما ألحقته الثورة بنظام الأسد من كسر لهيبته، وهو أمر يمكن البناء عليه من جديد.
ينطلق الحكم السريع على الثورة، وهو صحيح جزئياً، حسب المنطق السياسي الذي يربط الأمور بنتائجها، ما يمكّن أصحابه وجمهوراً كبيراً من القول بأن الثورة قد فشلت، كونها لم تستطع إسقاط النظام، الشعار الذي صدحت به حناجر السوريين، بل على العكس، فقد تمكّن النظام من قلب النتائج، بفضل داعميه -روسيا وإيران- وأعمال القتل والتدمير التي ارتكباها بحق السوريين وديارهم. والأمر الآخر الذي تجلى مؤخراً بمحاولات دول كثيرة تعويم النظام وإعادته إلى بيت الدكتاتوريين العرب، تحت ذرائع مختلفة، من خلال التعامل معه كممثل لسوريا، ولحسن الحظ أن نظام الأسد لم يترك لهم الوقت للاستمتاع بمجهودهم وآمالهم التي كان أهمها الخلاص من تهريبه للمخدرات، وخاصة الكبتاغون، وللصدفة العجيبة أنه أثناء حضوره القمة، رافقته إلى مكان آخر شحنة كبيرة من الكبتاغون.
الملمح الثاني للانكسار هو الحال التي تعيشها سوريا، حيث إنها أصبحت تخضع لنمط حكم جديد، السلطة المستبدة هي الميليشيات، ومنها ميليشيا الأسد التي قدّمت نموذجاً مغرياً لتلك الميليشيات. فهناك مناطق أربعة بينها حدود ومعابر وتتعامل بعملات مختلفة، وتسجل “تاريخها” الخاص وتمجّد أبطالها، وتسعّر الكراهية بين السوريين، متجاهلة أن المشكلة تكمن فيهم كحكام مستبدين أخذوا المناطق التي سيطروا عليها رهينة، وجعلوا منها مرتعاً لإشباع جوعهم للسلطة، التي لا همّ لها كسلطة مفروضة سوى تأمين الخضوع وقمع الأصوات الحرة أو الالتفاف عليها. وأيضاً، هناك الحال المعيشي الذي لا يختلف إلا بالدرجة بين عموم مناطق النفوذ تلك، حيث الفقر والعوز، ناهيك عن حال التعليم المتدني، وتسرب نسبة كبيرة من الشباب وبحثهم عن فرص عمل لتأمين مستلزمات حياتهم وحياة أسرهم.
لا تتحمل الثورة كحالة، ولا حتى قوى الأمر الواقع التي تسيطر على المناطق الخارجة عن سيطرة النظام المسؤولية كلها، لكن هذا لا يعفيها من جزء من المسؤولية على المستوى الوطني، ومسؤوليتها الأكبر عن المناطق التي تسيطر عليها. فعلى المستوى الوطني، أخفقت تلك القوى في تقديم نموذج أخلاقي أولاً، وسياسي وإداري ثانياً يمكنه أن يشكل حافزاً للناس من جهة وبديلاً عن نموذج السلطة الأسدية، حيث نشهد -رغم الفروق لصالحها- أن هذه القوى كثيراً ما تعتمد النموذج الأسدي، فمثلهم الأعلى ضابط الأمن الذي يرتدي النظارات الشمسية ويركب سيارات الدفع الرباعي وترافقه الحراس ويتكلم بطريقة متعالية مع الناس، ناهيك عن حالات الفوضى والزعرنة الناتجة عن حالة المحسوبيات والقرابات التي تتكرر بين فترة وأخرى، والتي تحسبها بطريقة بشعة في كل مرة أنها حالات فردية!
لكن من جهة أخرى، ما أحرزته الثورة تجاه النظام هو أمر لا بد من تقديره والبناء عليه، وهو نزع الشرعية الشعبية عنه، والتعامل الدولي معه كتابع حتى من قبل داعميه، وربما يشهد الاستقبال الروسي في أكثر من مرة على مدى احتقار الروس لرأس النظام. وبالطبع لا ننسى تسميته بالحيوان، على لسان الرئيس الأميركي السابق، ترامب، وهي سابقة كبرى في العلاقات الدولية. والأمر الآخر خلق حالة التحدي العلني لسلطاته والخلاص من الخوف بنسب كبيرة والنزول للشوارع والهتاف بأن عهد القهر قد ولى، وهو ما أفقده حتى “هيبته” بين نسبة من أتباعه، فلم تعد أجهزته والعنف الذي تمارسه يمنعان الناس من التعبير عن رأيهم، وهو ما نشهده في التظاهرات التي تجري اليوم في السويداء، وفي الكتابات على وسائل التواصل الاجتماعي، وما يعنيه هذا أن العودة للوراء غدت شبه مستحيلة، رغم أن إحراز التقدم ليس أقل صعوبة، لكنها ممكنة.
الجهة الثانية التي شاركت في إيصال الحال في سوريا إلى ما هو عليه هي الدول المتدخلة، وهي كثيرة، حيث حولت سوريا إلى حلبة صراع من أجل مصالحها وحساباتها التي لا تهم السوريين، وليس من المبالغة القول إن بعض الدول تدخلت على عكس ما كانت تعلنه من دعم للمعارضة، وإنما لمنعها من السعي لإسقاط النظام، بما يشكله هذا النظام من عامل استقرار لجارته الجنوبية، التي أعلنت مبكراً عن ضرورة بقاء الأسد في السلطة، الأمر الذي عززه أوباما وخطوطه الحمر. وفي الطرف الداعم للنظام، فقد ارتكبت روسيا وإيران مجازر لا يمكن الاستهانة بها، في ظل تهاون الغرب تجاه أعمال القتل تلك، واكتفائه بالإدانة وتقديم المساعدات بعيداً عن الضغط الجدي لتحقيق حل سياسي كما نصت عليه قرارات الأمم المتحدة.
رغم الحال الذي آلت إليه الثورة، وهو الشرك الذي نصبته القوى الدولية والإقليمية، ودخلت به طواعية أو من دون قصد جهات سورية سياسية وعسكرية، فإنه ليس وضعاً أبدياً، فهو نتاج حالة من التصارع الدولي من جهة، وارتهان محلي مع تلك الأطراف، بمعنى أن هذا الحال ناشئ وجديد، وبالتالي هناك إمكانية للخلاص منه، وهذا لا يعني أن المعرفة بتلك الإمكانية يعني تحققها، فهذا تفكير رغبوي طفولي، لكنه يفتح باب الأمل لاستكمال الحلم، الذي لا تنتصر ثورة أو أي مشروع في ظل غيابه، الحلم الذي يتجلى بالوعد بعالم أفضل، سواء على المستوى الأخلاقي أو السياسي، أو كليهما، وهو أمرٌ افتقدناه عملياً رغم الضجيج الكبير المثار حوله، من دون تجسيد معانيه.
من مصلحة النظام وداعميه أولاً الإبقاء على حالة الجمود الذي يعيشها السوريون، ففي النهاية تدفع الناس للرضوخ والقبول بما يفرَض، وكذلك الدول الأخرى التي تنظر كل منها حسب مصالحها ورؤيتها الاستراتيجية لما يجري، يساعد على حالة الجمود والبقاء في الفخ حالة التشرذم والانقسام في صفوف المعارضين من جهة، ومن جهة أخرى، غياب المشروع الوطني، الذي يتلخص بهدف واحد، هدف يجمع عليه أغلبية السوريين، ويشكل مقدمة لأي تغيير، وهو الخلاص من نظام الأسد كنظام قمع وقتل، والانتقال لنظام يشارك الناس في اختياره، نظام يقر بحقوق الجميع، ويمنع اضطهاد الآخرين والتعدي على حقوقهم، وهذا يتطلب رغم المرارة واليأس اللذين يطحنان السوريين التخلي عن مشاريع المناطق والإمارات والكانتونات، والسعي نحو المشروع الوطني، مشروع يعيد للثورة ألقها ويجسدها كقضية تحرر بعيداً عن الارتهان لمصالح الدول، ومحاولة تفهمها من زاوية مصلحة سوريا أولاً وأخيراً.