بقيت وثيقة لا حكم عليه، وهي في المحصلة شكل من أشكال الموافقة الأمنية، شرطاً أساسياً في معظم المعاملات الرسمية كالزواج (أضيف لها مؤخراً الطلاق) والتوظيف في القطاعين العام والخاص، وقد أُضيف لها دراسة أمنية لمن يرغب بالاستقالة أو ترك العمل.
15 / آذار / مارس / 2022
مع العدالة | المصدر: “الجمهورية نت-محي الدين عمّورة”
يعرف السوريون عبارة الموافقة الأمنية جيداً، فهي أشبه بمتلازمةٍ ترافقهم في كل تفاصيل حياتهم. ولعل بدايات الحديث عن موافقات أمنية تمس الحياة اليومية للسوريين قد بدأت في ثمانينيات القرن الماضي، في أعقاب ما عُرف حينها بـ«أحداث الإخوان المسلمين». في حين ذكر أمامي بعض المُسنين أن شيوع الموافقات الأمنية، وإن كان على نطاق ضيق، يعود إلى ستينات القرن الماضي، بعد استيلاء حزب البعث على الحكم في سورية. ما هو مؤكد أن كل سوري-ة على قيد الحياة على دراية بما تعنيه هذه العبارة وما تتطلبه، وربما قد خبر-ت تجربة الحصول عليها في يومٍ من الأيام.
الموافقات الأمنية قبل 2011
قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011 كانت الموافقة الأمنية تأخد شكلين أساسيين؛ إما ورقة رسمية يتم إصدارها من السجل العدلي في فرع الأمن الجنائي اسمها لا حكم عليه (وثيقة غير محكوم)، أو ما يسمى الدراسة الأمنية في بعض الحالات الخاصة. ولكن بعد عام 2011 أصبحت الموافقة الأمنية تذكر علانيةً بهذا الاسم في العديد من المعاملات والأنشطة التي تمر عبر مؤسسات النظام السوري. ومن بين الأمور التي تحتاج إلى وثيقة لا حكم عليه معاملة الزواج، والتوظيف في القطاعين العام والخاص، واستصدار جواز السفر، ورخصة قيادة السيارات، والانتساب للنقابات والاتحادات، وغير ذلك الكثير.
وعندما يذهب أي سوري لاستخراج ورقة لا حكم عليه، وبعد انتظار لساعات طوال، إما أن يأخذ الورقة مكتوب عليها «لا حكم عليه» أو «حُكم عليه» في حال كان قد حُكم سابقاً أو أن بسبب واحد من الأخطاء التي تتكرر بكثرة بسبب تشابه الأسماء. وقد لا يحصل المُراجع على الورقة أبداً، ويخبره الشرطي بضرورة مراجعة فرع أمني معين دون ذكر السبب، وتكون الإجابة غالباً «والله ما عندي فكرة، بس تروح بخبروك». في حالات أخرى يخرج شرطيان ويضعان الكلبشات حول معصمي المُراجِع ويقتادونه إلى الحجز لأسباب سيعرفها فيما بعد، أو قد لا يعرفها حتى بعد احتجازه.
عشت هذه التجربة على صعيدٍ شخصي مراتٍ عديدة، لكن ما يعلق بذاكرتي حادثتان: الأولى قبل سنوات طويلة حين ذهبت لاستخرج ورقة لا حكم عليه من أجل رخصة قيادة. أذكر جيداً كيف كنت أنظر في وجوه الناس فأرى حالةً من التوتر لم أكن أجد لها تفسيراً في وقتها. انتظرت لساعات طويلة ثم أخذت الورقة وغادرت. المرة الثانية التي أذكرها جيداً كانت في العام 2010، عندما كنت برفقة أحد أقربائي المُحتاج أيضاً لوثيقة لا حكم عليه من أجل تجديد رخصة القيادة. رافقته إلى فرع الأمن الجنائي في منطقة باب مصلى بدمشق، فقدم أوراقه ووقفنا خارجاً ننتظر الرد، وبعد طول انتظار نادى باسمه شرطيٌّ، وقال له: «تعال معي لجوا». ظننت في البداية أن هناك اشتباه ما أو خطأ في الاسم وسيخرج قريبي بعد قليل، ثم طالت المدة، فسألت عنه أحد عناصر الشرطة، فطلب مني الانتظار في الخارج. بقيت منتظراً إلى أن لم يبقَ أحدٌ غيري، ثم عدت للسؤال عنه فرد عليّ شرطيٌّ آخر: «مارح يطلع. عليه مشاكل. انقلع من هون، ولا بقى تستناه». لم يخطر ببالي في تلك اللحظة إلا سؤال واحد لا أعرف كيف سأجيب عنه، وهو ما إذا سألني أهله عنه وعن سبب احتجازه.
في السياق ذاته، يروي العم أبو عمار للجمهورية.نت أنه في تسعينيات القرن الماضي، وبينما كان يسعى لاستصدار جواز سفر من أجل اللحاق بأخيه للعمل في دولة الإمارات، ذهب لاستخراج ورقة لا حكم عليه، فأخبروه بضرورة مراجعة فرع الأمن السياسي لكي يحصل عليها. يتابع أبو عمار: «ذهبت في الصباح إلى فرع الأمن السياسي وأنا على يقين بأني لم أفعل شيئاً يستوجب زيارتهم. استقبلني أحدهم وطلب مني الجلوس في ما يشبه الزنزانة، إلا أن بابها مفتوح. بقيت جالساً حتى الساعة الثانية ظهراً دون أن يسألني أحدٌ أي سؤال. كنت في تلك الزنزانة مع عدة أشخاص آخرين، دون أن يجرؤ أحدنا على الحديث إلى الآخر. نادى علينا أحدهم أنْ اذهبوا الآن وعودوا غداً في الثامنة صباحاً. وعدت في اليوم التالي وتكرر نفس الأمر دون أن يكلمني أحد أو أن أعرف لماذا أنا موجود عندهم أصلاً. مرة أخرى قالوا لنا اذهبوا اليوم وعودوا في اليوم التالي. وبقيت على هذه الحالة قرابة الشهر، إلى أن أعطوني مجموعة من الأوراق وطلبوا مني أن أكتب عليها أسماء كل أقربائي: أبي وأمي وأخوتي وأخواتي وزوجاتهم وأزواجهم وأولادهم وماذا يعمل كل منهم، خالتي وأخوالي وعماتي وأعمامي وزوجاتهم وأولادهم، وماذا يعمل كل منهم. كان ذلك أشبه بالمعجزة فأنا لا أعرفهم جميعاً وخاصة الأولاد وماذا يعملون، فمنهم من لم أره منذ عدة سنوات، وبعضهم لا أعرفهم أبداً. بعد محاولات مضنية والكثير من السؤال استطعت أن أملأ تلك الأوراق».
سألنا أبو عمار عن الحال الذي انتهت إليه هذه المراجعة، فأجاب: «أخبروني أن هناك تشابه بالأسماء بيني وبين شخص من ريف حلب مطلوب بتهم تتعلق بتجارة المخدرات والسلاح، وأنهم كانوا خلال كل هذا الوقت يعملون على التأكد من أني لست الشخص المطلوب». لم يعد أبو عمار مجدداً لاستخراج ورقة لا حكم عليه أو جواز سفر إلى يومنا هذا.
عدا وثيقة غير المحكوم، كان هنالك «الدراسة الأمنية»، وهذه تحتاج إلى الكثير من الوقت في البحث والتحري والسؤال في السر والعلن من قبل الفرع الأمني المُكلف بها، وتأتي في معظم الأحيان دون علم المدروس أمنياً. وتقوم الأفرع الأمنية بمثل هذه الدراسات لكل من يريد السفر في بعثة دراسية، أو الانتساب للكليات الحربية والأجهزة الأمنية والشريك الزوجي فيما بعد، وفي حال الترقية واستلام مناصب مهمة في مؤسسات الدولة، وغير ذلك من الأمور ذات الطبيعة الحساسة في دولة أمنية مثل سوريا.
وجرت العادة بأن يقوم رجل أمن من أي من الفروع الأمنية بزيارة إلى الحي الذي يسكن فيه الشخص المعني بالدراسة الأمنية، وذلك لسؤال جيرانه عن سلوكه في الحي وعاداته اليومية: متى يخرج ويدخل إلى منزله، ومَنْ يزوره عادةً، وكيف هي علاقته مع جيرانه، وهل يثير المشاكل في الحي، وهل سلوكه أو تصرفاته غير عادية أو مثيرة للشك…إلخ. وتتكرر الزيارة إلى مكان عمله للسؤال عنه بين زملائه بأسئلة مشابهة. بطبيعة الحال، سيخبر الجيران وزملاء العمل الشخص المعني بأن واحداً «من الشباب» قد جاء ليسأل عنه. وبما أن الدراسة الأمنية يمكن أن تُطلب من أكثر من فرع أمني، فإن مثل هذه الزيارات قد تتكرر من خلال أكثر من عنصر أمن وبسياق مشابه لما تم ذكره.
تنوّع الموافقات الأمنية بعد الثورة
بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، صار الوضع أسوأ بكثير مما كان عليه. بقيت وثيقة لا حكم عليه سارية المفعول بكل المعوقات التي تتسبب بها، وكذلك الدراسة الأمنية التي أضيفت إلى جوانب جديدة في حياة السوريين لم تكن موجودة سابقاً. إلا إن مصطلح «الموافقة الأمنية» ظهر للسوريين في حياتهم، وأصبح جزءاً أساسياً في الكثير من المعاملات والشؤون اليومية التي باتت ترتبط بهذه الورقة الصادرة عن أحد الأفرع الأمنية المنتشرة في دمشق وباقي المحافظات.
وبما أن الوضع متشابه تقريباً بين معظم المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في سوريا، مع فوارق تتعلق بالأفرع الأمنية الأكثر نفوذاً وكيفية تقسيم مناطق النفوذ بينها، فسنأخذ دمشق كمثال يعبر عن الحالة السورية عموماً. تتقاسم الأفرع الأمنية اليوم السيطرة والنفوذ على مناطق العاصمة دمشق، حيث بات لكل فرع منطقته الخاصة المسؤول عنها، والتي يُمنع على أي فرع آخر التدخل في شؤونها. ويتولى فرع الأمن العسكري السيطرة على أحياء المزة وكفرسوسة ودمر والهامة وقدسيا، في حين يتولى فرع الأربعين (مكافحة الإرهاب) وفرع الخطيب السيطرة على مناطق الجسر الأبيض والشعلان والصالحية والعابد والشهبندر، أما المخابرات الجوية التي تسيطر أساساً على مناطق القابون وبرزة وجوبر، فتسيطر أيضاً على منطقة عين الكرش وما حولها وسط العاصمة دمشق. فيما كان فرع فلسطين يسيطر على مناطق جنوب العاصمة ابتداءً من الميدان مروراً بأحياء القدم والعسالي ومخيم اليرموك والزاهرة والتضامن وبقية مناطق الجنوب، قبل أن تنتقل السيطرة على بعض هذه المناطق إلى فرع المنطقة. هذا التوزع في السيطرة بين الأفرع الأمنية معروفٌ بشكل جيد لدى سكان العاصمة دمشق والريف القريب، بحكم أنهم يحصلون على الموافقات الأمنية من الفرع الذي يتبعون له.
وصارت الموافقة الأمنية تشمل الزواج، والتوظيف، والسفر، واستئجار منزل أو محل، وبيع عقارات أو أراضي أو سيارات، وفتح مشروع تجاري، واستخراج وكالات عامة أو خاصة من شخص مقيم داخل سوريا أو خارجها، والحصول على الشهادة الجامعية، وإقامة الحفلات والأعراس، حتى أن دفن الموتى في دمشق يحتاج إلى موافقة أمنية. ويبقى الهم الأكبر عند أولئك الذين هُجروا من بيوتهم ويريدون العودة إليها، فهم يحتاجون إلى أكثر من موافقة أمنية. وتتطلب الموافقات الأمنية مدة زمنية طويلة، قد يصل بعضها إلى ثلاثة أشهر وربما أكثر، وبعد الانتظار تأتي الكثير من الموافقات بالرفض. وأسباب الرفض كثيرة، أبرزها أن يكون الشخص قادماً من إحدى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، أو أن يكون هو أو أحد أقربائه، حتى لو كانت القربى بينهما بعيدة، معارضاً للنظام أو مطلوباً إلى جهة أمنية لأي سبب كان، أو متخلفاً عن الخدمة الإلزامية أو الاحتياطية، أو كان قد ارتكب سابقًا جرماً أو جنحةً أو صدر بحقه حكم بالسجن. في بعض الأحيان تأتي الموافقة بالرفض فقط من أجل إجبار المعني بالحصول عليها على دفع رشوة أكبر.
بقيت وثيقة لا حكم عليه، وهي في المحصلة شكل من أشكال الموافقة الأمنية، شرطاً أساسياً في معظم المعاملات الرسمية كالزواج (أضيف لها مؤخراً الطلاق) والتوظيف في القطاعين العام والخاص، وقد أُضيف لها دراسة أمنية لمن يرغب بالاستقالة أو ترك العمل. وهذه الدراسة تحديداً تأخذ الكثير من الوقت، وغالباً تأتي مع الرفض بغض النظر عن السبب إذا كان مقنعاً أو لا. وهناك موافقة أمنية لاستصدار جواز السفر، وأضيفت موافقة أمنية لمن يرغب بمغادرة البلاد، وخاصة أولئك الذين لديهم أحد من ذويهم في الخارج. يوسف عبد الله (اسم مستعار) موظف في إحدى الدوائر الحكومية بصفة سائق، وزوجته ممرضة في أحد مشافي دمشق. أرهقت الحياة في دمشق وارتفاع تكاليف المعيشة الزوجين، فقررا السفر إلى تركيا بحثاً عن حياة أكثر استقراراً. عمل يوسف وزوجته ما بوسعهما لتقديم استقالتهما من الوظيفة دون جدوى، حتى أن يوسف تغيب عن عمله لعدة شهور متواصلة أملاً بفصله من العمل، ولكن ذلك لم يحدث. كما اضطرت العائلة لدفع الرشاوى للحصول على جوازات سفر، فنجحت الزوجة والأطفال في الحصول عليها وأخفق هو. بعد حصولها على إجازة قصيرة متذرعةً بالسفر إلى لبنان، سافرت زوجته وأولاده عبر لبنان إلى تركيا. وبقي هو يحاول الاستقالة من وظيفته والحصول على جواز سفر، ولما طال الأمر، غادر سورية إلى لبنان بطريقة غير شرعية في رحلة محفوفة بالمخاطر، ليحصل على جواز سفر عن طريق السفارة السورية في بيروت، بعد دفعه لمبلغ 800 دولار، مستفيداً من قرار حكومة النظام بإسقاط شرط الموافقة الأمنية عن السوريين في الخارج ممن يرغبون بإصدار جوازات سفر أو تجديدها مقابل رفعها لتكاليف الحصول عليه إلى مبالغ كبيرة تدفع بالعملات الأجنبية.
هناك أيضاً فئة من السوريين الممنوعين من السفر بسبب نشاط سياسي سابق أو حالي، كأن يكونوا جزءاً من أحزاب مُعارضة أو قضوا سنوات في السجن أعقبها صدور قرار بمنعهم من السفر. ويواجه هؤلاء صعوبات في استخراج جوازات السفر لا يمكن حلها إلا من خلال دفع رشاوي كبيرة لضباط في فروع أمنية أو في فرع الهجرة والجوازات، ومن ثم السفر تهريباً إلى لبنان أو كردستان العراق للبقاء فيهما أو الانتقال إلى وجهة أخرى. وقد يتكفل بعض الضباط في مرافقة الراغبين-ات بالخروج من سوريارغم صدور قرار بمنعهم من السفر إلى المنافذ الحدودية مع لبنان وإخراجهم مقابل مبالغ طائلة.
وامتدت الموافقة الأمنية إلى طلاب الجامعات، حيث ترفض جامعة دمشق منح وثائق التخرج للطلاب المتخرجين من كلياتها إلا بعد حصولهم على الموافقة الأمنية، ما يؤدي إلى حرمان الكثير منهم من ثبوتيات تخرجهم ومن فرص عمل يحتاجون إليها. واعتاد معظم الشباب منذ عام 2011 على التخرج من الجامعة والبحث عن فرص السفر مباشرةً، منعاً لسوقهم إلى الخدمة الإلزامية في صفوف جيش النظام، حتى أن جيلاً كاملاً من الشباب لم يعد له وجود في سورية بسبب السفر خارج البلاد. أخبرت إحدى السيدات الجمهورية.نت أنها بينما كانت تودع ابن أخيها الشاب في مطار دمشق الدولي مؤخراً، والذي كان مسافراً إلى مصر هرباً من الخدمة الإلزامية، رأت آلاف الشباب المغادرين مع ذويهم المودعين.
ولكي يضع النظام حداً لسفر أولئك الشباب بعد التخرج، عمد إلى طلب الموافقة الأمنية حتى يحصل الخريجون على وثائق وشهادات تخرجهم. وبعد أن ينجح الطالب في جميع المواد الدراسية، يحتاج عادة إلى عدة أشهر حتى يتمكن من الحصول على مصدقة التخرج بعد موافقة مجلس شؤون الطلاب ومجلس الجامعة. خلال هذه المدة يصبح مطلوباً للخدمة الإلزامية، حيث أجبرت الجهات الأمنية الجامعات الحكومية والخاصة بإبلاغ شعب التجنيد حال تخرج الطالب لديهم، لمنعه من التهرب من الخدمة الإلزامية. وفي حال اضطر الطالب إلى توكيل شخص آخر بعد النجاح في مواده لاستخراج وثائقه الجامعية، فإن شرط حصول الموكِل والموكَل على الموافقة الأمنية يحول دون ذلك. ولو قدر للطالب الحصول على شهادته الجامعية، فإن حصوله على وظيفة حكومية يحتاج إلى موافقة أمنية أخرى، ولا يجد النظام من التصريح بذلك علانيةً.
موافقات أمنية في سوق العقارات
وتبقى الموافقة الأمنية المفروضة على العقارات والسيارات هي الأكثر تأثيراً وضرراً على حياة الناس، فمع بدء النظام باستخدام العنف المكثف ضد المدنيين والتحول فيما بعد إلى العمل العسكري من قصف وتهجير، أُجبِرَ الكثير من السوريين على النزوح من مناطق إلى أخرى، بحثاً عن أماكن أكثر أمناً على حياتهم، ما اضطرهم إلى شراء أو استئجار بيوت في مناطق سيطرة النظام. ولكي يزيد النظام الأمور تعقيداً وصعوبةً عليهم، وليحدّ من حريتهم في التصرف بأملاكهم، أجبرهم على الحصول على موافقة أمنية عند كل عملية بيع وشراء أو استئجار وفراغ للمنازل والمحلات والأراضي، ولكل أطراف العلاقة؛ من البائع والمشتري والمستأجر. وبرر النظام هذا الإجراء بحجة منع شراء العقارات أو استئجارها من قبل «الإرهابيين» واتخاذها كمقرات لهم، ولحماية الملكيات العقارية من الضياع أو التزوير. ورغم أن النظام باشر بهذا الإجراء منذ الأيام الأولى للثورة السورية، خاصةً في ما يتعلق بعمليات استئجار للبيوت والمحلات، إلا أنه انتظر حتى عام 2015 ليصدر القرار بشكل رسمي، عندما عممت حكومة النظام قرارها رقم (4554) بتاريخ 4 آب (أغسطس) 2015 على وزارة الإدارة المحلية، بإضافة البيوع العقارية وعمليات إيجار وفراغ المنازل والمحلات إلى القضايا التي تستوجب الحصول على موافقة أمنية مسبقة من الجهات المختصة.
وقد جاء هذه القرار مخالفاً للدستور السوري في المادة 14، والتي تنص على «حماية حقوق الملكية للفرد وحرية التصرف بأملاكه وعدم جواز مصادرتها». كما يعد هذا الإجراء من أكثر الإجراءات ظلماً وقهراً بحق المواطن السوري لأنه يمس حياته اليومية بشكل مباشر ويعمل على تعطيلها بطريقة أو بأخرى، فالكثير من العائلات التي نزحت إلى دمشق من مناطق مختلفة، وخاصة التي شهدت حراكاً شعبياً ومسلحاً، لم تستطع أن تستأجر بيتاً بسبب الموافقة الأمنية، ما اضطرها للتوجه نحو مناطق أخرى بعيدة إلى حدٍ ما عن أعين النظام وأفرعه الأمنية. وحتى في عمليات البيع والشراء، فإن استطالة الفترة الزمنية اللازمة للحصول على الموافقة الأمنية لعدة شهور، غالباً ما يُفضي إلى تغير في شروط البيع والأسعار، ما يجعلها عرضةً للفشل التعاقدي، وذلك قبل أن تصدر الموافقة الأمنية بالقبول أو الرفض.
وتتولى أفرع الأمن السياسي في المحافظات إصدار الموافقات الأمنية بما يتعلق بعمليات البيع والشراء، في حين أن بعض المناطق التي تنتشر فيها قطع عسكرية، يُشترط بالإضافة لموافقة الأمن السياسي، موافقة القطعة التي يقع العقار المطلوب نقل ملكيته ضمن نطاقها. وعلى سبيل المثال، وبحسب شهادات حصلت عليها الجمهورية.نت من ضاحية قدسيا بريف دمشق، يحتاج أصحاب العقارات للحصول على موافقة الفرقة الرابعة التي تحتاج أربعة أشهر، إضافةً إلى موافقة الأمن السياسي. وفي مناطق أخرى يحتاج إتمام عملية نقل الملكية إلى موافقة من الحرس الجمهوري. وتنتشر في ريف دمشق خاصةً العديد من الفرق والقطع العسكرية، وتحتاج جميع عمليات البيع والشراء في المنطقة التي يمتد نفوذها عليها إلى موافقة أمنية.
وكان النظام السوري قد ألغى شرط الموافقة الأمنية من عقود الإيجار أواخر عام 2018، حيث أصدرت وزارة الداخلية القرار رقم 2744، الذي تم بموجبه إجراء تعديلات على عقود الإيجارات عموماً. وجاء فيه: «يقوم كل من يُؤجر عقاراً للسكن أو مزاولة أي مهنة تجارية كانت أم صناعية، بتسجيل عقد الإيجار من قبل طرفي العقد في الوحدة الإدارية المختصة، أو مركز خدمة المواطن المخول بعقود الإيجار، والتي بدورها تقوم بإبلاغ مركز الشرطة المعني في مكان عقد الإيجار، والذي بدوره يحوله إلى فرع الأمن السياسي بهدف إجراء الدراسة الأمنية. ويقوم فرع الأمن السياسي في المحافظة بتدقيق الوضع الأمني للمستأجر، دون أن يتوقف سريان عقد الإيجار، وفي حال تبين أن المستأجر عليه ملاحقة قانونية يتم اعتقاله، أو وضعه تحت المراقبة بعد أن أصبح مكانه معلوماً». ورغم صدور هذا القرار، فإن عناصر من الأجهزة الأمنية ما زالت تقوم بين الفترة والأخرى بعمليات دهم للبيوت في بعض المناطق، تحت ذرائع عديدة، منها «المسح الإحصائي»، وذلك للتأكد من المستأجرين خشية وجود غرباء عن المنطقة لم يتم إعلام الجهات الأمنية بوجودهم في بيت من البيوت المستأجرة. لكن الموافقة الأمنية لعمليات البيع والشراء مازالت مطلوبة، ما أجبر البعض في كثير من الأحيان على اللجوء إلى العقود الكتابية فيما بينهم، بوجود شهود كوثيقة تعامل من دون تثبيت هذه العقود بشكل رسمي، وهو ما يهدد تثبيت حق الملكية ويفتح الباب أمام المنازعات القضائية وعمليات الغش والبيع بسوء نية. جديرُ بالذكر أن كثيرًا من السوريين، مع بداية الثورة، اتجهوا نحو شراء العقارات لحماية أموالهم النقدية من التآكل نظراً لانهيار قيمة الليرة السورية، وعندما رغبوا ببيع بعض هذه العقارات للاستفادة من ثمنها بمشاريع استثمارية، جاءت الموافقات الأمنية لتشكل عائقاً أمامهم، ما أدى لزيادة الجمود العقاري.
حتى أولئك الذين تدمرت بيوتهم في العمليات الحربية ويرغبون بتفقدها أو العودة إليها، فلا يمكنهم ذلك إلا بعد الحصول على موافقة أمنية. والحديث هنا عن مناطق متعددة في دمشق وريفها المحيط، منها ما سمح النظام بالعودة إليه ومنها ليس بعد، ولكن كلها تحتاج إلى موافقات أمنية متعددة. استفسرنا من أبو أحمد، وهو من أهالي مخيم اليرموك، عن كيفية الدخول إلى المخيم لمن يريد تفقد بيته أو إعادة ترميمه للعودة إليه، وما هي الإجراءات التي اتبعها للعودة إلى بيته، فقال: «الخطوة الأولى كانت في الحصول على موافقة أمنية لزيارة البيت والاطلاع على وضعه، وقد انتظرت لنحو شهرين حتى جاءت الموافقة. توجهتُ إلى مدخل المخيم مع أوراق تثبت ملكية البيت، وبعد طول انتظار سمحوا لي بالدخول لرؤية منزلي. الخطوة الثانية كانت مرحلة ترميم البيت بنية العودة للسكن فيه، وهذه تحتاج بدورها لموافقة أمنية ثانية لكل من سيدخل ويعمل في إزالة الانقاض، وقد كنت أنا واثنان من أبنائي الشباب في حالتنا. الخطوة الثالثة هي زيارة مع مهندس من البلدية لمعاينة المنزل والتأكد من إمكانية ترميمه. أخيراً نصل إلى المرحلة الأخيرة، والتي لم أصل إليها بعد، وهي السماح بإدخال مواد البناء اللازمة للترميم، فهذه أيضاً تحتاج إلى موافقة أمنية ثالثة. هذا الحال ينطبق عل كل المناطق المدمرة التي يرغب أصحابها بالعودة إليها.
ويمكن النظر إلى الموافقة الأمنية على أنها طريقة ابتدعها النظام لمنع السوريين من التصرف بأملاكهم، ووضعها تحت خطر المصادرة، وليس كما يبرر بأنها حماية لأملاك المهجرين، خاصة بعد صدور القانون رقم 10 لعام 2018 الخاص بالأملاك العقارية، والذي دفع كثيرين من السوريين المقيمين في الخارج إلى المسارعة لاستصدار وكالات عبر القنصليات السورية تتيح لأقاربهم إمكانية التصرف بأملاكهم، إلا أن وجوب الحصول على موافقة أمنية منعت الموكَّلين من البيع أو الشراء بحجة الملاحقة الأمنية لأصحاب تلك العقارات.
موافقات أمنية للاجئين
طاردت الموافقة الأمنية السوريين اللاجئين خارج البلاد، حيث لم يسلموا منها في حياتهم ومعاملاتهم. ملايين السوريين الذين غادروا البلاد منذ اندلاع الثورة، بالإضافة للمغتربين قبل ذلك، يحتاجون إلى أوراق رسمية تتعلق بالزواج والطلاق وتسجيل المواليد الجدد، وفي سحب أوراقهم الجامعية أو بيع ممتلكاتهم أو حتى الحصول على جواز سفر أو أي أوراق رسمية أخرى. كل ذلك لا يمكن إصداره بدون وكالة خارجية لذويهم في الداخل، وهذه الوكالة تحتاج إلى موافقة أمنية، فمنذ اندلاع الثورة فرض النظام الموافقات الأمنية على جميع أنواع الوكالات الخارجية والداخلية، كما ألغى الوكالات العامة، وفرض الوكالات الخاصة لكل موضوع على حدة، ما زاد الأمور تعقيداً، لأن كل وكالة تحتاج لموافقة أمنية خاصة بها.
وبعد عدة سنوات أسقطت سلطات النظام الموافقة الأمنية عن أصحاب طلبات التوكيل والمقيمين خارج سوريا، بحسب ما تذكره صحيفة الوطن الموالية. وقالت الصحيفة إن مصدراً في وزارة الخارجية ذكر لها أنه «تمّ تحويل الوكالات التي تأتي من الخارج إلى الأحوال المدنية مباشرةً، من دون إرسالها إلى الجهات الأمنية». وأصدر وزير العدل في حكومة النظام هشام الشعار تعميماً تضمن إعفاء الوكالات الخاصة بالزواج والطلاق وحصر الإرث وتثبيت الولادات من الموافقة الأمنية، مشيراً إلى أنه تُعفى أيضا الوكالات الإدارية الخاصة بمراجعة شعب التجنيد ومراجعة الدوائر الرسمية لتسوية أوضاع المكلفين أو لإصدار وتجديد جواز السفر أو الحصول على الأوراق الرسمية ودفع البدل النقدي. وبقيت الوكالات الخاصة بالبيوع بحاجة إلى موافقات أمنية بحسب مصدر قضائي في عدلية دمشق لصحيفة الوطن، وفيما يتعلق بموضوع الوكالات الداخلية، تضيف الصحيفة أن الوكالة المتعلقة ببيع العقار أو تأسيس شركة تحتاج حصراً إلى موافقات أمنية، في حين أن باقي أنواع الوكالات لا تحتاج إلى ذلك، كاشفةً أنه تم إلغاء الموافقات الخاصة بالوكالة العامة بعدما كانت سابقاً تحتاج إلى ذلك. وبقي هذا الحال حتى الشهر 3 من عام ،2021 عندما أسقط النظام الوكالة عن المغتربين وسمح لذويهم من فروع وأصول وزوج وزوجة وإخوة وأخوات، أن يسجلوا واقعات الزواج والطلاق والولادات والوفيات الخاصة بالمغتربين من دون وكالة، كما يحق لهم أيضاً استخراج وثائق المغتربين الخاصة. لكنه عاد في الشهر 9 من العام 2021 ذاته ليصدر قراراً اشترطت فيه وزارة العدل الحصول على الموافقة الأمنية قبل تنظيم الوكالات القانونية عن الغائب أو المفقود، بحجة أن هناك وكالات كثيرة تصدر ويتبين بعد ذلك أن الشخص المدعى بفقدانه أو غيابه «ميتٌ أو ملاحقٌ بجرائم خطيرة، وأن هناك حالات يستغل فيها الوكلاء حالة الغائب أو المفقود ويتصرفون بأمواله تصرفاتٍ تضر بمصالحه».
لا تتوقف الموافقة الأمنية عند حد أنها تسيطر على حياة السوريين وتتحكم بها، بل هي مصدر رزق مهم جداً للنظام وعناصره الأمنية خاصةً. فكما جرت العادة في سورية، تستطيع الرشوة أن تحل أكبر المشاكل، حتى لو كانت موافقةً أمنية، لأن مجيء الموافقة الأمنية مع الرفض أكثر من مرة يعني أنه لابد من دفع المال. ويتحدد حجم المبلغ المطلوب من طالبي الموافقات الأمنية تبعاً لحجم الموضوع المتعلق بها اقتصادياً أو خدمياً، وبحسب مدى تعقيد وجدية سبب الرفض، ويكون الدفع لأحد الوسطاء أو مباشرة للعاملين في المخافر والأفرع الأمنية.