يتوفر قدر هائل من البحوث حول برامج إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد النزاع في بلدان أخرى والتي تم تنفيذها في العقود الأخيرة. وعلى الرغم من عدم نجاح كل البرامج، إلا أنها مجتمعة تقدّم مجموعة متنوعة من الدروس المهمة
02 / شباط / فبراير / 2019
*المصدر: المركز السوري للعدالة والمساءلة
على مدى الأسابيع القليلة الماضية، انتشرت “دعوات” على وسائل التواصل الاجتماعي يطالب مستخدمي الفيسبوك بمقارنة صورة لأنفسهم من عشر سنوات مضت، مع صورة حديثة. وفي أوساط السوريين، كانت الصور بمثابة تذكير صارخ بمدى الخسارة التي تكبّدها البلد خلال قرابة ثماني سنوات من النزاع. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي ستحمله السنوات العشر القادمة؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب على المرء النظر في العراقيل أمام إعادة الإعمار. وعلى الرغم من أن الحكومة السورية وحلفاءها متلهفون إلى إعادة البناء، فإن هذه المناقشات سابقة لأوانها، مما يوجِد إمكانية لحدوث إساءة وفساد. إذ أنهم غير قادرين وغير مستعدين لقيادة عملية تتّسم بالانفتاح والشفافية والتي تعتبر ضرورية لإعادة إعمار ناجحة. وإن دراسة الممارسات الفُضلى سيسمح لصانعي السياسات والمناصرين من جميع الأطراف بالتخطيط بشكل مناسب للمستقبل وفهم الظروف الواجب توفرها قبل بدء عملية إعادة الإعمار.
ويتوفر قدر هائل من البحوث حول برامج إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد النزاع في بلدان أخرى والتي تم تنفيذها في العقود الأخيرة. وعلى الرغم من عدم نجاح كل البرامج، إلا أنها مجتمعة تقدّم مجموعة متنوعة من الدروس المهمة، ونسلّط الضوء على ثلاثة منها هنا:
يجب أن ترتكز إعادة الإعمار على الحوار مع المجتمعات المحلية. غالباً ما تكون أجندات إعادة الإعمار مدفوعة من قبل الجهات المانحة والجهات المنفّذة بدلاً من المجتمع المحلي الذي سيستخدم البنية التحتية بشكل يومي. وبالتالي، يجب أن يتم وضع خطط إعادة الإعمار كجزء من حوار نشط مع المجتمعات المحلية. ويجب أن يتخطّى هذا الأمر المناقشات مع الحكومات المحلية، ليشمل الجمهور الأوسع، الذي يضم شريحة واسعة من المجموعات العرقية المختلفة والأديان والمجتمعات الأخرى، والتي قد يكون لكل منها احتياجات فريدة يمكن معالجتها من خلال إعادة الإعمار. وحتى تاريخه، اتّبعت الحكومة الحالية أسلوباً معاكساً، وذلك باستخدام إعادة الإعمار كأداة لتشريد السكان، مثل إنشاء مشروع تطوير دمشق الجديدة، ماروتا سيتي، التي تستبدل الإسكان غير المنظم بشقق جديدة باهظة الثمن تفوق الإمكانات المالية للسكان السابقين.
تتطلب إعادة الإعمار تخطيطاً وتعاوناً واسعي النطاق بين الجهات المانحة والحكومات والجهات المنفّذة. لقد شهدت عملية إعادة إعمار العراق بقيادة الولايات المتحدة كميات هائلة من الهدر عندما تم تكرار مشاريع متشابهة دون داع، كنتيجة لعدم التواصل بين العديد من المنظمات وفروع الحكومة المختلفة المشاركة في عملية التخطيط. ومن الناحية المثالية، ينبغي أن تكون إعادة الإعمار مركزية، مع وجود إطار واضح للاتصال بين جميع الشركاء، لضمان استخدام الأموال بفعالية. ويمثل هذا التخطيط تحدياً في ظروف ما بعد النزاع، لأن النزاع غالباً ما يؤدي إلى إلحاق ضرر بالبنية التحتية اللازمة لحكومة أو مؤسسة أخرى لتقوم بمراقبة الشركاء عن كثب. ولا تسيطر الحكومة السورية على البلد بأكمله، ولا تزال العديد من المناطق التي استعادتها مؤخراً في مرحلة الانتقال إلى سيطرة الحكومة بعد أن كانت المؤسسات تُدار من قبل جماعات المعارضة. وبما أن سيطرة الحكومة ما تزال واهية جداً، سيكون من الصعب للغاية إدارة برنامج لإعادة الإعمار بشكل وثيق على مستوى البلد بطريقة عادلة ومنصفة.
يجب أن تتسم إعادة الإعمار بالشفافية وأن تشمل سبل الحماية ضد الفساد. تتضمن إعادة البناء المادية عادةً منح عقود إنشاء مربحة، مما يمهد الطريق لتحقيق أرباح ضخمة. وإذا لم يتم توفير الحماية المناسبة، يمكن لحلفاء الحكومة استخدام إعادة الإعمار كوسيلة لتحقيق الثراء. وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن تكون القدرة على المطالبة بالمساكن التي تم إعادة بنائها أو الوصول إلى مرافق جديدة تتمتع بالعدالة والشفافية. ومن حيث أن الانتهاكات واضحة بالفعل في سوريا، حيث أن حلفاء الأسد، بمن فيهم رجل الأعمال سيء السمعة رامي مخلوف، يستفيدون من اتفاقيات إعادة الإعمار والقوانين التي تَحكم مصادرة الملكية لضمان أن الحكومة لديها سيطرة فعالة على من سيستفيد من الإنشاءات الجديدة. ومن أجل الوقاية من هذا الفساد، تتطلب مشاريع إعادة الإعمار إشرافاً قوياً. وعلى غرار ذلك، يتعين الفصل في المنازعات المتعلقة بالملكية بعناية في إطار برنامج أكبر لاسترداد الملكية والعودة.
وفي نهاية المطاف، لا تُعتبر إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد النزاع عملية قائمة بذاتها. بل هي إحدى جوانب عملية تحول أكبر، لا تتعلق بإعادة بناء البنية التحتية المادية فحسب، وإنما أيضاً إعادة بناء المؤسسات والعلاقات المجتمعية والثقة في الحكومة. ولتحقيق هذا النوع الأكثر شمولاً من إعادة البناء، ستحتاج سوريا إلى تنفيذ مجموعة واسعة من برامج العدالة الانتقالية، بما في ذلك إصلاحات قطاع الأمن، واسترداد الملكية، وعمليات الحقيقة والمصالحة بالتوازي مع مشاريع البناء والبنية التحتية.
ومن شأن أنواع خطط إعادة الإعمار المدفوعة من قبل النخبة والتي تروج لها الحكومة الحالية أن تخلق فرصاً واسعة النطاق للإساءة والفساد، ولن تكون قادرة على تعزيز المصالحة والاستقرار الضروريين لتحقيق السلام على المدى الطويل. وعندما يتم تداول تحدّي الـ10 سنوات القادم على وسائل التواصل الاجتماعي، هل ستكون الطرق السورية تعجّ بمجتمع نابض بالحياة من المنزل إلى العمل، أم هل ستكون مخيمات النازحين داخلياً مكتظة بساكنيها في الأرياف؟ وهل سيعود الأطفال إلى دراستهم أم ستظل المدارس والجامعات مدمّرة؟ وهل ستحصل الأسر على الموارد والبنية التحتية اللازمة للوصول إلى الغذاء الطازج والمياه النظيفة، أم أنها ستبقى معتمدة على المساعدات الإنسانية؟ إذا كانت سوريا ستبدو مختلفة اختلافاً جذرياً خلال عشر سنوات، فيجب أن تبدأ الاستعدادات لإعادة الإعمار الآن. وتُظهر الدراسات أن إعادة الإعمار عملية طويلة الأجل. حيث تقدّر دراسة أجراها البنك الدولي بأن البلدان ذات الدخل المنخفض تحتاج إلى حوالي خمس سنوات لمجرّد تطوير قدراتها على الاستفادة بصورة سليمة من أموال عملية إعادة الإعمار واسعة النطاق. وفي حالة سوريا، حتى بداية عملية كهذه لا تزال بعيدة المنال. ومع ذلك، يجب على منظمات المجتمع المدني والمجتمع الدولي التخطيط لخطة شاملة ومدروسة كجزء من اتفاقية سلام كبيرة، على أمل أن يتيح العقد القادم فرصة لعملية إعادة بناء فعلية وتحقيق الاستقرار على المدى الطويل.
المادة من المصدر