يدعو القرار رقم 2254، وهو وثيقة لا تزال تشكّل الأساس للمفاوضات السياسية في جنيف، إلى وضع “جدول زمني وعملية لصياغة دستور جديد”، لكنه يرتئي حدوث هذه الخطوة كأحد جوانب “عملية سياسية بقيادة سورية تيسّرها الأمم المتحدة”
04 / كانون الثاني / يناير / 2019
*المصدر: المركز السوري للعدالة والمساءلة
في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، أعلن المبعوث الأممي الخاص ستافان دي ميستورا أنه سيؤجل استقالته ليقوم بمحاولة أخيرة نحو إنشاء لجنة دستورية. وفي حين أن فكرة صياغة دستور جديد لسوريا كانت موجودة منذ المراحل الأولى لعملية جنيف، فقد أعطى دي ميستورا الأولوية لهذا الهدف في الأشهر الأخيرة، حيث أجرى زيارات مكوكية بين دمشق وجنيف في محاولة لتأكيد المشاركين. وقد برز هذا التركيز الجديد بعد أن أيّد رعاة مؤتمر سوتشي إنشاء لجنة دستورية في كانون الثاني/يناير 2018، مما يعني أن الدستور الجديد سيكون أسهل طريقة للمضيّ قُدماً في عملية التفاوض التي تقودها الأمم المتحدة. غير أن دي ميستورا عاقد العزم جداً على إظهار أن العملية السياسية تحقّق نتائج إلى درجة أنه يتجاهل الغرض النهائي للعملية والأسباب الجذرية للنزاع – والتي لن يتم حلها بدستور جديد. وأعلن دي ميستورا في أواخر كانون الأول/ديسمبر أنه لم يتم التوصل بعد إلى اتفاق بشأن عضوية اللجنة الدستورية وأنه سيسلم هذه المهمة إلى خَلَفه. ولكن ينبغي على المبعوث الجديد، جير بيدرسن، أن يعيد تقييم الغرض من دستور جديد، وإعادة تركيز المحادثات حول معالجة المظالم الأساسية للشعب السوري.
ويدعو القرار رقم 2254، وهو وثيقة لا تزال تشكّل الأساس للمفاوضات السياسية في جنيف، إلى وضع “جدول زمني وعملية لصياغة دستور جديد”، لكنه يرتئي حدوث هذه الخطوة كأحد جوانب “عملية سياسية بقيادة سورية تيسّرها الأمم المتحدة”، تؤدي إلى إنشاء “حكومة شاملة وغير طائفية”. ومن المفترض أن يشكّل الدستور الجديد ختاماً لعملية الانتقال السياسي وليس نقطة البداية. وفي ربيع عام 2017، قلّص دي ميستورا هذه الوثيقة إلى أربعة “سلال” من القضايا، والتي من شأنها تأطير المناقشات في جنيف: إنشاء حكومة انتقالية ذات مصداقية وغير طائفية، وصياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة، ومكافحة الإرهاب. وبحلول شهر تشرين الثاني/نوفمبر من ذلك العام، أشار دي ميستورا إلى أن المفاوضات كانت تركّز على سلتين فقط من هذه السلال، وهما إنشاء دستور جديد وإجراء انتخابات، وهي خطوة سبق وأن أشار المركز السوري للعدالة والمساءلة بأنها سابقة لأوانها. وأخيراً، في كانون الثاني/يناير 2018، تُوّج مؤتمر سوتشي الذي تقوده روسيا ببيان ختامي يؤيّد إنشاء لجنة دستورية، دون ذكر لأي من المعايير الأخرى المنصوص عليها أصلاً في القرار 2254. ومنذ ذلك الحين، بات إنشاء لجنة دستورية محور التركيز الأساسي لعمل دي ميستورا على العملية السياسية.
غير أن إعادة صياغة الدستور السوري لن يقدّم سوى النذر اليسير لمعالجة جذور النزاع. وعلى الأغلب، تكمن المشكلة الأساسية في الدستور السوري الحالي، الذي تم تعديله في بداية النزاع في عام 2012، ليس في مضمونه، وإنما في تنفيذه. وتبقى الحقيقة أن الحكومة السورية ليس لديها مصلحة في احترام وثيقة ناظمة تحدّ من صلاحياتها، لاسيما عندما لا توجد آلية إنفاذ للقيام بذلك. على سبيل المثال، يحظر الدستور الحالي التعذيب النفسي والجسدي ويدعو إلى معاقبة مرتكبيه. ولكن تواصل الحكومة الإشراف على شبكة من مراكز الاعتقال يجري فيها التعذيب على نحو ممنهج. كما ينص الدستور على أنه “لكل مواطن الحق في أن يعرب عن رأيه بحرية وعلنية بالقول أو الكتابة أو بوسائل التعبير كافة”، إلا أن السوريين ما زالوا يتعرضون للاعتقال التعسفي والتعذيب والقتل لتعبيرهم عن معارضتهم للحكومة. وإن التحوّل المطلوب في سوريا ليس دستوراً جديداً، بل هو حكومة تخضع للمساءلة أمام الدستور.
وفي المستقبل، عندما يسمح بذلك الوضع الأمني والمناخ السياسي، يمكن لدستور جديد أن يفيد سوريا. حيث لا تكمن قيمة الوثيقة بالضرورة في النص، وإنما في العملية. وعندما تُستخدم بشكل صحيح، يمكن لعملية صياغة الدستور أن تكون فرصة لبناء السلام، وبناء الثقة بين الناس والحكومة وخلق شعور بالملكية الفردية للوثيقة. ففي البرازيل، على سبيل المثال، حضر 100,000 مواطن اجتماعات قاعة المدينة في جميع أنحاء البلد للتعرف على العملية الدستورية وتقديم ردود الأفعال والآراء. وفي رواندا، أمضى المفوّضون ستة أشهر في السفر في جميع أنحاء البلاد، والمشاركة في المناقشات والمناظرات العامة من أجل إعلام الجمهور حول القضايا قيد المناقشة. وأثناء انتقالها من نظام الفصل العنصري إلى الديمقراطية، تلقّت جنوب أفريقيا مساهمات مكتوبة تتعلق بمضمون دستور جديد من أكثر من مليوني فرد ومنظمة. واقتضت تلك العمليات التفاني من قبل جميع المعنيين بالإضافة إلى الوقت. واستغرقت جنوب أفريقيا سبع سنوات لصياغة دستورها. وفي حين لم يتم تحديد جدول زمني للدورة الحالية للجنة في سوريا، في عام 2016 تم فرض موعد نهائي لمدة أربعة أشهر، وهو جدول زمني غير واقعي لأي عملية مدروسة، ناهيك عن موضوع مساهمة الجمهور. وفي هذه الأثناء، يؤدي استمرار انعدام الأمن وانعدام الإرادة السياسية والنزوح الجماعي إلى منع انعقاد المناظرات العامة الشاملة، وسوف يؤدي إلى فرصة ضائعة لإضفاء الصبغة الاجتماعية على القيم المتضمنة في دستور جديد، وحشد قبول أوسع بين السوريين، وتعزيز بناء السلام.
وفي حين أن تنفيذ عملية شاملة وجامعة يفرض بالتأكيد تحديات، إلا أنه لا يؤدي إلى صياغة وثيقة متميّزة فحسب، مع مزيد من القبول العام، ولكن تجربة المشاركة يمكن أن تساعد المواطنين على تعلم كيفية إجراء حوار سلمي في خضم الاختلافات السياسية. وإن دي ميستورا وخَلَفه في موقف صعب؛ إذ لا يوجد حالياً أي طريق واضح المعالم لإحراز تقدم في تنفيذ القرار 2254. ولكن السماح لعملية دستورية للمضي قدماً في السياق الحالي من شأنه أن يترك البواعث الأساسية للنزاع من دون معالجة وأن يترك الممارسات الوحشية الحالية للحكومة، والتي هي غير دستورية أصلاً بموجب الإطار الحالي لسوريا، دون رادع. وينبغي على المبعوث الجديد إعادة النظر في الأسباب الجذرية للنزاع والعمل على تحقيق أهداف منفردة، مثل إطلاق سراح المعتقلين، وبرنامج المفقودين، واسترداد الملكية، وإنشاء ضمانات أمنية للمعارضين السياسيين، والتي من شأنها أن تساعد في معالجة المظالم الأساسية للسوريين، بدلاً من فرض دستور لن يكون له على الأرجح تأثير يُذكر أو لن يكون له أي تأثير على الحياة اليومية في سوريا.
الرابط الأصلي للمادة ⇐ هنا
.
.