كانت الأمّ تحمل جثّة طفلها الميّت وتكرّر على مسامع مَن قد يصغي إليها “هذا ابني. حبيبي مات. لقد مات”
28 / نيسان / أبريل / 2019
*المصدر: ترجمات درج ــ واشنطن بوست
مستلقيةً على سريرها في حلب، ألقَت وعد الخطيب التحيّة على سما، طفلتها حديثة الولادة، كعادتها في كلّ صباح تقريباً؛ وكانت تعتريها مشاعر القلق والخوف من الاعتقال والقصف والموت. كانت الأم السوريّة تستغرب كيف أمكنها أن تنجب سما في عالَمٍ مشوب بالفزع والإرهاب والحروب.
“صباح الخير يا حُلوتي”، هكذا تحيّي صانعة الأفلام ابنتَها في الفيلم الوثائقيّ “من أجل سما” For Sama. وتضيف: “هناك الكثير من الغارات الجوية اليوم، أليس كذلك؟”.
كان الكابوس التالي ينتظرها في الأسفل. حَلَّ شهر أيلول/ سبتمبر 2016 -وهو الشهر الثالث من حصار قوّات الأسد للمدينة- جالباً معه الموتَ للمزيد من الأطفال. استطاعت الخطيب -وهي صحافيّة وناشِطة بدأت عام 2011 توثيق الفظائع في مدينة حلب التي يسيطر عليها الثوّار- تصويرَ أمٍّ فقدت للتوِّ ابنها في آخر جولة من القصف الجويّ. كانت الأمّ تحمل جثّة طفلها الميّت وتكرّر على مسامع مَن قد يصغي إليها “هذا ابني. حبيبي مات. لقد مات”.
حتّى وهي على بُعد 7 آلاف ميل من مشهد ذلك اليوم، جالسةً في غرفة اجتماعات في فندق هيلتون وسط مدينة أوستين مطلعَ هذا الشهر، تقول الخطيب إنّها لا تزال تشمّ رائحة حلب على جلدِها، وإنّ صورة تلك الأمّ لم تغادر خيالَها.
في مقابلة مع صحيفة “ذي واشنطن بوست” أثناء مهرجان “جنوب جنوب غربي” South by Southwest، حيث عُرِض فيلمُها “من أجل سما” أوّلَ مرة، قالت الخطيب “لم أعرف ما كان يتوجّب عليّ فعله. يشعر المرء بالعجز حينها. لم أستطع فعل شيءٍ في تلك اللحظة المهيبة. أيّاً يكن ما حدث، فقد كان أقوى منّا، وكانت تحذوه رغبة في تدميرنا جميعاً”.
إلّا أنّ صانعة الأفلام السوريّة تشعر بارتياحٍ لكون تضحيتها لم تذهب سدىً. فالخسائر الناجمة عن الصراع في سوريا -من أكثر الأزمات الإنسانيّة العالميّة تدميراً- تبدو بارزة وواضحة في الفيلم الذي أنتجته لأولى بناتها. فازَت رحلة الخطيب الشخصيّة في مسار الأمومة أثناء الحرب، بجائزة أفضل وثائقيّ في المهرجان، ما سلّط أنظار الجمهور الأميركيّ على الدمار الذي ألحقه بمدينةِ حلب، جيشُ الأسد المدعوم من روسيا.
وقالت لصحيفة “واشنطن بوست”: “لا يزال مدنيون كثيرون لا يملكون خيار الرحيل. إنهم يكرهون أنفسهم ويكرهون حياتهم بسبب الوضع السيّئ هناك”.
يبدأ فيلم الخطيب بلحظات الأمل العابرة التي ستتحوّل لاحقاً إلى دمارٍ وخراب وسط القمع الأسديّ الوحشيّ. في نيسان/ أبريل 2012، كانت الخطيب لا تزال طالبة في جامعة حلب، حين ازدادت وتيرة التظاهرات ضدّ نظام الأسد. صبغت الألعابُ الناريّة والرقص والغناء في الشوارع بداياتِ تلك الحركة بصبغةٍ من التفاؤل. إلّا أنّ تلك التظاهرات تحوّلت لاحقاً حرباً أهليّة، مع مقتل مواطنين بطلقات ناريّة في الرأس؛ ونُقِل كثيرون منهم في أجولة باللون الأزرق لنقل الجثامين.
عثرت الخطيب حينها على حبّ حياتها وكوّنا أسرةً في وقتٍ عصيب من تاريخ سوريا. عام 2014 تزوّجت حمزة، الطالب في كلّية الطبّ الذي التقته أثناء التظاهرات. رقصا على أنغام أغنية “مجنونة” Crazy، لويلي نيسلون في حفل زفافهما.
حين وُلِدَت سما عام 2015، كانت دفقة أمل بالنسبة إلى الخطيب، حتى وإن كانت ولادتها تعني أن تعيش في غرفة تصوّن نوافذَها أكياس رمليّة لحمايتها من الموت بحُطام القصف. كانت تلك الحياة الجديدة هشّة؛ وكانت سعادتها مشوبةً بالخوف، بخاصّة مع قصف 8 مستشفيات وتدميرها، من أصل 9 في حلب.
قالت الخطيب: “كنّا نعلم أنّ حماية تلك الفتاة ليست سهلة؛ لكن في الوقت ذاته، كنّا نعلم أيضاً أنّ هذه حياتنا وأنّنا اخترنا الحياةَ هنا، فلِمَ لا نُنجِب ابنتَنا هنا؟”.
العيشُ في دوامة الرعب والخوف في مدينة محاصَرة، دفع الخطيبَ -باستخدام كاميرا جوّالها- إلى توثيق ما يحصل، بدءاً من عام 2011. من خلال تصوير فظائع الحرب المتزايدة في حلب، كانت الخطيب متمسّكة بالأمل في أنّ العالَم قد يستجيب للأزمة. وتتحوّل الخطيب من طالبة جامعيّة إلى ناشطة وصحافيّة/ مواطِنة بدوامٍ كامل. كانت تصوّر حين تستطيع، سواء أثناء لحظات السلام النادرة مع الأهل والأصدقاء، أو أثناء الاحتجاجات العنيفة، أو حين القصف. بعد مولد سما، نذرت الخطيب أن تترك لابنتها بصمة مرئيّة “لتعرف ما حاربتُ من أجله، إذا ما رحلتُ قبل أن أروي لها”.
تخبرها أثناء الفيلم “لا أدري إن كان باستطاعتي حمايتك، ولا أعرف إن كان بإمكانك أن تسامحيني”.
تعرض اللقطات التي صوّرتها الخطيب المزيد من الأدلة التي تدعم الاتهامات بأنّ نظام الأسد استخدم أسلحة كيماويّة. فالفيلم يظهر أطفالاً وكباراً يتنفّسون من خلال أقنعة وكمّامات، في أعقاب هجومٍ على حلب عام 2016، قالت الأمم المتّحدة ومنظّمات حقوقية أخرى أنّه حصل أثناءه استخدام غاز الكلورين السام.
مذ استعاد نظام الأسد حلبَ من أيدي الثوار في نهاية عام 2016، استخدمت وسائل الإعلام الأميركيّة مراراً وتكراراً تعبير “انتصار الأسد” أثناء تغطية الصراع في سوريا. تقول الخطيب إنّ هذه الصياغة تقلّص من فظائع الأسد. لقد قُتِل حوالى 400 ألف سوريّ في السنوات الخمس الأولى من الحرب الأهليّة في البلاد، وفقَ المبعوث الخاص للأمم المتّحدة إلى سوريا.
تقول الخطيب “إنّه نصر مذهل حقّاً، كما نرى؛ فهو نصر لدولة دُمِّرَت، دولة من دون سوريّين. لا أعرف عن أيّ نصرٍ يتحدّث. من المذهل أنّه يعدّ هذا نصراً”.
نفذ مونتاج ساعات التصوير التي وصلت إلى 300 ساعة، وأوجِزتَ في سلسلة Inside Aleppo، وهي سلسلة من مقاطع صغيرة بُثّت عام 2016 على برنامج Channel 4 News، في القناة الرابعة البريطانيّة Channel 4، وهو برنامج إخباري مسائيّ. شاهد مئات الملايين تلك السلسلة عبر الإنترنت، وفازت بعشرات الجوائر. يقول المخرج إدوارد واتس، الذي ساهم في تقديم عمل الخطيب للجمهور البريطانيّ، إنّ قصّتها تعرض الإنسانيّة التي أحياناً ما يغفل عنها أو يتجاهلها الإعلام الغربيّ.
يقول واتس “لطالَما جاءتنا الأنباء من سوريا من خلال عدسة تنظيم الدولة الإسلاميّة، وما شابهها من تقارير. إلّا أنّ ما نراه في الذي التقطته وَعْد هو مجرّد أناس يمكنك تمييزهم، أناس تعرفهم. تشعر أثناء المشاهدة وكأنك تعرف أولئك الأشخاص. مجموعة من البشر الذين يفرحون بقطعة من الفاكهة أو يلعبون مع أطفالِهم أو يتبادلون النكات والمزاح”.
تؤكّد الخطيب أنّ الناس بحاجة إلى رؤية بعض المشاهد الفظيعة التي شكّلَت الواقع. تضيف: “كنت أستعيد كلّ لحظة مرّات ومرّات. لقد عشتُ كلَّ لحظةٍ، إن بسعادة أو مع حزن شديد، لكنّني أبداً لم أفكّر أنّني سأعيش حين أضعَنا حلب حرفيّاً”.
في سنواتِ الحرب، رأت الخطيب أنّ أعظم تحدٍّ بالنسبة إليها هو البقاء والصمود في حلب؛ إلّا أنّ هذا لم يَعُد خياراً متاحاً في كانون الأول/ ديسمبر 2016، حين قدّمت القوّات الروسيّة إنذاراً أخيراً لزوجها حمزة: الاستسلام أو النفي. فمع بقائه من أجل علاج المصابين المدنيّين، كان حمزة هدفاً لقوّات نظام الأسد. عام 2017، فرّت صانعة الأفلام وأسرتها إلى المملكة المتّحدة، حيث عهِدتَ إليها القناة الرابعة البريطانيّة Channel 4 بتحويل مئات الساعات من التصوير إلى فيلم وثائقيّ.
قال واتس “لَم نَشأ إخفاء الواقع”.
يأتي الفيلم -الذي سيُعرَض في حفلٍ هذا الصيف ويُذاع أثناء برنامج Frontline على قناة PBS، نهايةَ العام- فيما الجمهورُ الأميركيّ ما زال منقسماً حول إعلان الرئيس ترامب في كانون الثاني/ يناير الماضي، أنّ الولايات المتّحدة ستسحب قوّاتها من سوريا.
لا شيء يجلب للخطيب السعادة والفرح مثل سما، ذات الأعوام الثلاثة، أو ابنتها الأصغر تيما (9 أشهر). تقول الناشطة أنّ جُرمَ سما الوحيد أثناء مكوثها في حلب، هو أنّ أمّها كانت صحافيّة تحاول كشف حقيقة ما كان يحصل، وأنّ أباها كان طبيباً يساعد ضحايا الصراع والعنف. إلّا أنّ الخطيب لا تزال تؤكد بنبرةٍ حالمة، أنّها يوماً قد تعود إلى حلب حين لا يكون الأسد في السلطة؛ لتُرِي ابنتَيها وطنهما. في النهاية ترتسم على وجهها ابتسامةً تنمّ عن الفخر بما كانته حلب وما قد تكونه مرّة أخرى من جديد.
وقالت “حقاً أرغب أن يأتي هذا اليوم؛ إلّا أنّه لن يأتيَ حتّى يُقاد أفراد هذا النظام المجرم إلى المحاكمة”.