العدالة الانتقالية هي في مصلحة الذين كانوا جزءاً من النظام، كما هي في مصلحة الضحايا المدنيين والمجتمع بأسره.
27 / حزيران / يونيو / 2018
من حيث المبدأ، سقط النظام السوري منذ اول رصاصة أطلقها في 18 آذار (مارس) 2011 على متظاهرين سلميين خرجوا الى الشارع يهتفون للحرية والإصلاح. واقعياً، ليس من الممكن تحديد إطار زمني لرحيل النظام والتأسيس لمرحلة انتقالية تقود إلى سورية جديدة. ولكن من نافل القول إنه لا يمكن نظاماً قتل نحوا من مليون شخص من مواطنيه، تسبب في مقتل آلاف أخرى من جنوده ومؤيديه، اعتقل وعذب مئات الآلاف، هدم البنية التحتية لبلاده ودمر اقتصادها، دمر النسيج الاجتماعي بين العناصر المكونة للأمة، وعزل سورية عن محيطها العربي ومجالها الدولي، أن يستمر في حكم بلده وشعبه.
وبصرف النظر عن النظام الذي سيأتي بعد رحيل النظام الحالي، فإن موضوعة العدالة والمساءلة يجب أن تكون في بال جميع السوريين، عندما ينتقلون من طور الصراع للبقاء ونيل الحرية إلى طور المحاسبة والمساءلة. وتتصدر كل أشكال العدالة والمساءلة قضية العدالة الانتقالية التي أثبتت نجاعتها في شكل متفاوت في عدد كبير من الدول التي شهدت صراعات أهلية مريرة، بخاصة في تشيلي وغواتيمالا وجنوب أفريقيا وبولندا وسيراليون وتيمور الشرقية وأخيراً في المغرب (2004).
وتتجاوز العدالةُ الانتقاليةُ العدالةَ التقليديةَ التي غالباً ما تكون عمياء أو معصوبة العينين، كما يصورها التمثال الإغريقي الشهير، لكنها تختلف عما تم التعارف عليه في الماضي بالعدالة الثورية في أنها عدالة لا تبحث عن الثأر وإنما عن إحقاق الحقيقة. فهي إذاً ليست انتقاماً في أي حال، لكنها أيضاً لا تدير خدها الأيسر حين تلطم على الأيمن.
تقوم العدالة الانتقالية إذاً على إيجاد وسائل خلاقة لمواجهة إرث انتهاكات حقوق الإنسان في إحدى الفترات التي تشهد حكماً ديكتاتورياً أو اقتتالاً أهلياً، لتجاوز تلك الفترة من طريق محاسبة المسؤولين الفعليين والبحث عن الحقيقة والإقرار بالذنب والمصالحة الشاملة. وهي تستند في تحقيق ذلك إلى آليات باتت معروفة ومختبرة في كثير من البلدان والمناطق، منها المحاكمات، سواء كانت محلية أم دولية؛ والبحث عن الحقيقة من جانب الحكومات المنتخبة ديموقراطياً والمجتمع المدني والمنظمات الدولية؛ والإقرار بالجريمة من جانب المنفذين في الدرجات الدنيا بخاصة الذين أُجبِروا على تنفيذ ما ارتكبوه؛ وجبر الضرر من طريق التعويض المادي أو المعنوي؛ والإصلاح المؤسسي، بما في ذلك إصلاح المؤسسة الأمنية؛ وتأسيس ذاكرة جماعية من خلال افتتاح المتاحف وإقامة المناسبات والنصب التذكارية لضحايا تلك الفترة.
وتهدف العدالة الانتقالية إلى إطلاق المصالحة المجتمعية الشاملة، لكي تتمتع الأجيال المقبلة ببيئة اجتماعية وأخلاقية سليمة وغير مشوهة بأحقاد أو مساعٍ للثأر. كما أنها المدخل اللازم لتعزيز النظام الديموقراطي السليم والاعتراف بضحايا الفترة السابقة ولمنع تكرار ما حدث.
في سورية، نجادل في أن مسار العدالة والمساءلة ليس فقط في مصلحة الضحايا المفترضين في جانب الثورة والمعارضة والمدنيين الذين قتلتهم آلة النظام ودمرت بيوتهم، وألقت بهم إلى البطالة والتشرد. إنها أيضاً في مصلحة الشريحة الكبرى من آلة القمع ذاتها، بخاصة تلك التي لم تكن مقتنعة بكل ما ارتكبته من جرائم وأفعال منكرة.
نتذكر في هذا السياق، التجربة التونسية التي لا تزال راهنة في الحقيقة. لقد ساد دائماً اعتقاد إبان حكم طاغية تونس بأن عدد رجال الشرطة التونسية يبلغ مئتي ألف عنصر وضابط. ولكن، تبين بعد سقوط بن علي أن ذلك كان رقماً مبالغاً فيه وأن الرقم الفعلي كان في حدود 50 ألف عنصر شرطة. ويبدو أن المبالغة في الأعداد التقديرية لرجال السلطة ترجع إلى ساعات العمل الطويلة والشروط الصعبة التي كان رجال الشرطة يعملون فيها. وثمة تقارير تقول إن رجال الشرطة كانوا يعملون وسطياً اثنتي عشرة ساعة يومياً، وفي ظروف سيئة جداً، في مقابل راتب أقل من راتب سائق حافلة عامة.
في سورية، لا يمكن الحـــكم بأن كل أفراد الجيش الذين ظلوا تحت قيـــادة النظام أو أفراد الأمن أو أعضاء حزب «البعث» والنـــقابات والمنظمات الموالية لـ «البعث» هم مشاركون فعليون في قمع ثورة السوريين من أجل الديموقراطية والــكرامة ومكافحة الفساد. المفترض بالعدالة الانتقالية أن تتحرى سلسلة إصدار الأوامر ومحاســـبة الذين أصدروا الأوامر بالقتل بالدرجة الأولى، ومن ثم تتنـــاول الأفــراد الآخرين والعـــناصر الذين، وإن شـــاركوا في القمع، فقد فعلوا ذلك تنفيذاً للأوامر أو خوفاً من انتقام قادتهم.
لكن ذلك لا ينطبق على الذين كانوا يتبرعون طوعاً وعن طيب خاطر في قمع الثورة وقتل المدنيين وارتكاب المجازر. كما لا ينطبق على الذين ينتمون إلى معسكر الثورة أو الذين قاتلوا باسمها وارتكبوا جرائم في حق مدنيين أو عذبوا ومثّلوا بجثث موالين للنظام.
إن العدالة الانتقالية هي في مصلحة الذين كانوا جزءاً من النظام، كما هي في مصلحة الضحايا المدنيين والمجتمع بأسره. فتحقيق هذه العدالة قمين بإعادة دمج هؤلاء الأفراد بمجتمعهم، واعترافهم بأفعالهم يساعدهم في إعادة احترامهم لنفسهم، وحتى قبولهم بالعقوبة في حال وقوعها سيمكنهم من التحرر من العبء الهائل الذي سيحملونه إلى آخر العمر. وأخيراً فإن مصالحة حقيقية مع المجتمع ستنهي عقوداً من القمع والاضطهاد والخوف.
يجدر بنا تذكر الرسالة المهمة التي نسبت إلى الزعيم الأفريقي نلسون مانديلا ولم تلق ترحيباً إعلامياً لائقاً، عندما قال إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم.
وأضاف مخاطباً الثوار العرب: «عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون الى هذا البلد، فاحتواؤهم ومسامحتهم أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة، ثم إنه لا يمكن جمعهم ورميهم في البحر أو تحييدهم نهائياً، ثم إن لهم الحق في التعبير عن أنفسهم، وهو حق ينبغي أن يكون احترامه من أبجديات ما بعد الثورة». وتمنى أخيراً أن يستحضر الثوار قولة النبي محمد الشهيرة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
.
.