توفر المحكمة الغطاء القضائي لاضطهاد المعارضين على أيدي أجهزة الأمن في سورية، ربما حصلت الحكومة على قانون جديد لمكافحة الإرهاب لكن ليس من القانون في شيء أن يحاكم نشطاء سلميين دون ضمانات بمحاكمة عادلة على أفعال لم يكن يصح تجريمها بالأساس
25 / تشرين ثاني / نوفمبر / 2018
*سائد الشخلها
صيغ دستور سورية عام 1950 من قبل قامات وطنية كانت تطمح لجعل البلاد ديمقراطية في جميع نواحي الحياة، وكانت تلك القامات التي صاغته تعلم جيداً أن لا ضمانة لتطبيق مثل هكذا دستور إلا بوجود نظام قضائي يحمل ببراعم نشأته الاستقلالية والنزاهة، لذا تركز أهم مواد ذاك الدستور على استقلالية القضاء ونزاهته وعدم المساس بحرمته.
ومع دخول البلاد في سلسلة من الانقلابات العسكرية، كان الخناق يضيق شيئاً فشيئاً حول عنق القضاء لكونه طوق الحماية الأول للحياة المدنية والدستورية، ولأن الدساتير اللاحقة كانت قد أنشأت بظل حكم عسكري استبدادي -كدستور عام 1973 أو 2012-لا تستطيع أن تنص صراحة على تهميش دور القضاء أو استقلاليته، لذا عمد النظام في سورية على تهميش دور القضاء من خلال عدد كبير من المحاكم الاستثنائية، والتي قوضت القضاء في سورية، وجعلته مطية للأسد الأب والابن لكسر شوكة المجتمع وتطويعه.
*محاكم بالجملة
بداية تمثل القضاء الاستثنائي في سورية بمحاكم الميدان العسكري التي أحدثت بالقانون رقم 109 لعام 1968، والتي تنفرد بتنفيذ أحكامها من قبل وزير الدفاع، والتصديق عليها من قبل رئيس الجمهورية، ولا يحق لأي محامٍ التوكل عن أي شخص موقوف أمام هذه المحكمة، ولا الاطلاع على أوراق القضية، ولا زيارة الموقوف أو المتهم أمام هذه المحكمة، ورغم جور هذه المحكمة إلا أن النظام وسّع من سلطاتها بدستور عام 1973 وجعل من ملفاتها غاية في السرية ولا يمكن الاطلاع عليها حتى من قبل المحكمة الدستورية العليا، بتهميش واضح لأعلى سلطة قضائية أقرها الدستور، وعدم القدرة على الطعن بأحكامها، وكذلك استحالة نشر الأحكام الصادرة عنها في الجريدة الرسمية، ما أخرج آلاف القضايا من سلطة القضاء المدني ووضعها تحت رحمة مجموعة من العسكريين الذين يأخذون أوامرهم من قيادات عسكرية يحميهم دستور سُنَّ ليحمي العسكر بحكمهم وكسرهم لأي حراك عسكري أو سياسي أو مدني ضدهم، أو حتى يسعى لتقويض سلطاتهم.
ومع انطلاق الثورة السورية أعلن بشار الأسد عام 2012 وبعد إقرار قانون الإرهاب عن تشكيل ما يعرف بمحكمة الإرهاب وفق القانون رقم 22 لنفس العام لتحل محل محكمة أمن الدولة، والتي تم إنشاؤها بحسب الدستور، إلا أنها غير قانونية، لكونها لا تخضع في صكّ إنشائها إلى “قانون أصول المحاكمات” في كل إجراءاتها وتعاملها مع المحامين ومع الموقوفين، وكانت فعلياً أشد وطأة وقسوة بالتعامل مع المتظاهرين السلميين من محاكم الميدان العسكري.
تظهر الغاية الأساسية من تشكيل تلك المحكمة في آلية وطرق تشكيلها، حيث تؤلف من 3 قضاة كل منهم بمرتبة مستشار، أحدهما عسكري، والنيابة العامة هي خاصة بهذه المحكمة، ومن قاضي التحقيق والمخول إضافة إلى صلاحياته صلاحيات قاضي الإحالة (أي أن قاضي التحقيق يحقق ويجرم بشكل نهائي ويحول إلى المحكمة مما يدل على الخرق الواضح للقوانين النافذة، ومنها قانون أصول المحاكمات الجزائية ويجعل دور اللجنة الثلاثية فقط هو إقرار ما توصل إليه قاضي التحقيق دون التحقّق من الأدلة المقدّمة أو حتى مناقشتها)، وتتم تسمية جميع من سبق ذكرهم بمرسوم بناءً على اقتراح من مجلس القضاء الأعلى، والذي يرأسه رئيس الجمهورية، وهو مرهون بالكامل في اتخاذ قراراته به؛ وفي أعظم خروج سافر عن أصول المحاكمات تم إقرار عدم تقيّد المحكمة بالأصول المنصوص عليها في التشريعات النافذة، وذلك في جميع أدوار الملاحقة والمحاكمة (فهي لا تتقيد بالأصول الواردة في قانون أصول المحاكمات الجزائية مطلقاً).
وخلال الفترة بين عامي 1973 و2012 طفت على السطح العشرات من المحاكم الاستثنائية، ففي عام 1980 وبعد حراك الإخوان المسلمين، أضافت السلطة موضوع الاضطرابات الداخلية لاختصاص محكمة الميدان العسكري، بموجب المرسوم التشريعي رقم 32 تاريخ 1/7/1980، والتي تحكم بالإعدام على كل من ينتمي أو يتعاطف مع تلك الحركة، والتي أدّت لإعدام عدد كبير من الضباط والمدنيين كالرائد المهندس بكور محمد سلامة، والنقيب المهندس أحمد إسماعيل الإسماعيل، والنقيب العامل جميل محمد القسوم، وغيرهم كثير، والذين نفذ فيهم حكم الإعدام بتاريخ 5/7/1980 داخل ساحة الرمي بجديدة عرطوز في ريف دمشق.
ويضاف إليها أيضاً المحاكم الشرعية والروحية والمذهبية، والتي تعبّر عن ضعف المشرع بوضع قانون شمولي يعامل فيه جميع السوريين ومن كل الطوائف بكفة ميزان واحدة. ففي عام 1974 أصدر قانون الأحداث الجانحين، وكذلك المحكمة الاقتصادية، لتختتم القائمة بمحكمة تنازع الاختصاص، والتي كان اختصاصها الفصل في القضايا التي ترفع أمام محكمتين بآن واحد، ما جعل القضايا تدخل بمتاهة جديدة ومراحل تزيد من تعقيدها، وفي مرات عديدة أدت لحصول ازدواجية في الأحكام.
*أرقام مرعبة
بالإضافة لمئات التقارير الحقوقية عن التجاوزات التي حصلت بمحاكم الميدان العسكري ومحاكم أمن الدولة، التي امتدت لأكثر من أربعين عاماً، ظهرت خلال سنوات الثورة عدة تقارير تركزت جميعها عن محكمة الإرهاب وممارساتها.
وقال “نديم حوري” نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “هيومان رايتس ووتش” ضمن التقرير المعنون بـ (سوريا، استخدام محكمة مكافحة الإرهاب لخنق المعارضة) الصادر بتاريخ 25 تموز 2013 “: “توفر المحكمة الغطاء القضائي لاضطهاد المعارضين على أيدي أجهزة الأمن في سورية، ربما حصلت الحكومة على قانون جديد لمكافحة الإرهاب لكن ليس من القانون في شيء أن يحاكم نشطاء سلميين دون ضمانات بمحاكمة عادلة على أفعال لم يكن يصح تجريمها بالأساس”.
وذكر التقرير أنه حتى منتصف حزيران 2013 تم إحالة 50 ألف شخص على الأقل إلى محكمة مكافحة الإرهاب، ورغم تمتع المتهمين بالحق في توكيل محام للدفاع والاطلاع على التهم الموجهة إليهم وفي حضور محاميهم أمام المحكمة، إلا أن الأدلة الوحيدة المأخوذة عليهم في قضايا كثيرة كانت اعترافات منتزعة أثناء الاستجواب تحت الضغط أو التعذيب.
ونوّه “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية” في بحث بعنوان إرهاب المحاكم في سورية إلى تطور أعمال “محكمة الميدان العسكرية” و”محكمة الإرهاب” خلال عام 2012، من قبل النيابة العامة 3602 من الملفات خاصة بدمشق منها 1427 قضية فيها معتقلون موقوفون، و2175 قضية لمتهمين فارين غير معتقلين؛ كما أحيل لقاضيي التحقيق 6062 قضية من المحافظات السورية الأخرى. ومنذ تموز 2015 أحيل من قضاة التحقيق إلى محكمة الإرهاب 4730 قضية صدر أحكام نهائية بـ 617 تتراوح الأحكام بين السجن لثلاث سنوات حتى الإعدام، والباقي ما زالت منظورة أمام المحكمة إذ تجاوز عدد الذين عرضت ملفاتهم أمامها 100,000 متهم أكثر من نصفهم تم اتهامهم غيابياً والباقي تم توقيفهم، وما يزال منهم 30,000 موقوف في سجن “عدرا” أو سجن “صيدنايا” أو السجون في باقي المحافظات السورية، و20,000 تم إطلاق سراحهم من قبل قضاة التحقيق لعدم ثبوت التهم أو بموجب تسويات أو مبادلة أو بسبب مراسيم العفو التي صدرت.
وفي خضم هذه المأساة، حاول الكثير من الحقوقيين والمراكز البحثية وضع خطط وتصورات للخروج من نفق القضاء الاستثنائي المظلم في سورية، وضمان أكبر كمٍّ من الاستقلال للقضاء، كالبحث الذي نشره “منتدى القانون السوري” عام 2018، والذي كان تحت عنوان “استقلال القضاء السوري بين دستور 1950 ودستور 2012″، حيث خَلُصَ كاتب البحث القاضي “عامر البكري” إلى عشرة مقترحات تضمن للقضاء السوري استقلاليته، كأن يتم انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية من قبل مجلس النواب، وأن يتولى رئيس المحكمة الدستورية العليا رئاسة مجلس القضاء الأعلى، وأن يتولى مجلس القضاء الأعلى الأشراف على كل أعمال القضاة، ويكون له موازنة مالية مستقلة، ولها صلاحيات مطلقة في محاكمة رئيس الجمهورية والوزراء عن الجرائم التي يرتكبونها، وإلغاء كافة المحاكم الاستثنائية، وإخضاع الأجهزة الأمنية المتنوعة بعد هيكلتها للمحاكمة أمام المحاكم الجزائية، وإلغاء كافة القوانين الاستثنائية التي أصدرها النظام من تاريخ انقلابه، وكذلك كافة القوانين الاستثنائية التي صدرت بعد قيام الثورة، والنص بشكل صريح في الدستور الجديد على العدالة الانتقالية ومحاكمة مجرمي الحرب.
ورغم السواد الحالك الذي يدور فيه النظام لمدة طويلة، يبقى داخل كل سور ي رغبة بالعيش في بلاد يسودها العدل ووجود جسم قضائي متماسك قادر على رفع الظلم عن الجميع ومحاسبة المتجاوزين أياً كانت صفاتهم، وسيبقى حلمنا يطارد القتلة حتى يحاصرهم، ونرى سورية التي فيها الجميع تحت القانون بعد أن كان الأخير سيفاً مسلطاً لظلم الشعب وتكبيل إرادته في الحرية.
المزيد للكاتب:
⇓