كان بيان الألف أوسع وأشمل من بيان الـ 99، ولكنه افتقر إلى التكثيف الشديد والبليغ للأخير.
25 / تموز / يوليو / 2018
في مقدمات الثورة السورية (3)
بدأت فكرة إنشاء جمعية لإحياء التراث المدني والمجتمع المدني بدعوة في منزل المخرج السينمائي والمثقف الراحل نبيل المالح، في جلسة حضرها إلى جانب المالح كل من الكاتب السياسي ميشيل كيلو، والمخرج السينمائي محمد القارصلي والشاعر والكاتب عادل المحمود. وتلا هذه الجلسة التمهيدية، جلسة اعتبرت تأسيسية حضرها النائب رياض سيف والأستاذ الجامعي عارف دليلة والطبيب وليد البني والأستاذ يوسف سلمان والكاتب ياسين شكر. وربما كان أول من اقترح فكرة المجتمع المدني هو النائب وقتها والصناعي المعروف رياض سيف. وقد توالت الاجتماعات بعد الاجتماع التمهيدي وتطورت النقاشات وتعمقت، فقدم كل من رياض سيف وميشيل كيلو ورقتين تأسيسيتين. واقترح رياض سيف أن يستمزج رأي السلطات المعنية من أجل ترخيص الحالة، واستفاد من موقعه كنائب في البرلمان ليقابل نائب رئيس الجمهورية آنذاك عبد الحليم خدام، الذي نصحه بأن ينسى هذا الموضوع، ويتنظر لغاية صدور قانون للأحزاب فيؤسس حزبا سياسيا. ويروي رياض سيف ردّة فعل خدام (الذي انشق بعد ذلك بخمس سنوات) حين قدّم له مسودة الورقة التأسيسية، فيقول: “امتقع لونه وقال: هذه ليست جمعية، هذا بلاغ رقم واحد لانقلاب تخططون له تحت يافطة المجتمع المدني وهو أمر لا يمكن أن يتمّ، ثمّ تابع قائلاً: لماذا لا تدخلون من الباب وتنتظرون بعض الوقت ريثما يصدر قانون جديد للأحزاب، فتؤسسوا حزباً سياسياً يمكنه دخول الجبهة أو ممارسة نشاطه كمعارضة بشكل نظامي”. أما اللواء بهجت سليمان فكان، مثله مثل كلّ ضباط المخابرات، أشدّ وضوحا وحدّة، واختصر رأيه بأن “غالبية ما يسمى منظمات المجتمع المدني ما هي إلا وسيلة وغطاء لأنشطة المنظمات الماسونية العالمية وأندية الروتاري، التي يتحكم بها اليهود بقصد السيطرة على العالم”، وأعلن رفضه القاطع لقيام مثل هذه الجمعية.
وبينما كان سيف يحاول أن يقيم الأمور على ساقين قانونيتين، فضّل شركاؤه أن يدعوه يعمل على هذا المحور، بينما تابعوا هم العمل في موضوع آخر هو إقامة جمعية للمجتمع المدني، تأسست باسم “لجان المجتمع المدني” ثم تطورت لتصبح “لجان إحياء المجتمع المدني.” ولم يخل هذا الانشقاق البدئي من بعض المرارة التي تخلفت عند النائب سيف، نتيجة لاستبعاده، وكان أن قرر، كردّ على ذلك، فتح منتدى للحوار أسماه “منتدى الحوار الوطني.”
بالمقابل استمرّ المؤسسون للجان إحياء المجتمع المدني بالعمل والاتصال بشخصيات وعناصر جديدة. وتوسعت الحالة شيئا فشيئا، فانضم إليها مفكرون من مثل عبد الرزاق عيد وجاد الكريم الجباعي وكتاب من مثل فايز سارة. ولعب الجباعي دورا في ضمّ ورقتي سيف وكيلو التأسيسيتين إضافة إلى ورقة تقدم بها عبد الرزاق عيد، حيث أجمل الأوراق جميعها في ورقة سميت الوثيقة التأسيسية للجان إحياء المجتمع المدني. وقد عرضت الورقة للتوقيع المفتوح، وسميت فيما بعد باسم بيان الألف، تيمنا بعدد الأفراد التي كانت تطمح إلى جمع تواقيعهم.
كان بيان الألف أوسع وأشمل من بيان الـ 99، ولكنه افتقر إلى التكثيف الشديد والبليغ للأخير. وقد قرر البيان أن سورية اليوم “في حاجة إلى جهود الجميع لإحياء المجتمع المدني الذي حرم ضعفه وإضعافه، في العقود الماضية، عملية النمو والبناء من قدرات وفاعليات وطنية مهمة وجدت نفسها مجبرة على الابتعاد عن الممارسة الإيجابية.” وانتقد البيان بقوة “تماهي السلطة والدولة، وتماهي الشخص والمنصب الذي يشغله، وصبغ الدولة بصبغة الحزب الواحد واللون الواحد والرأي الواحد، وجعلها دولة جزء من المجتمع لا يعترف بجزئيته (في إشارة إلى حزب البعث الحاكم)، بل يقدم نفسه ممثلا للشعب وقائدا للدولة والمجتمع يخفض المواطنة إلى مستوى الحزبية الضيقة والولاء الشخصي وينظر إلى بقية المواطنين على أنهم مجرد رعايا.”
كما لاحظ البيان أن الامتيازات “حلّت محلّ القانون، والهبات والعطايا محلّ الحقوق، والمصالح الخاصة محلّ المصلحة العامة، واستبيح المجتمع وانتهبت ثرواته وتحكّم من صاروا رموزا للعسف والفساد بمقدراته، وغدا كل مواطن مشتبها به، بل مدانا وتحت الطلب”.
ورأى البيان أنه “لا تتجلى حيوية المجتمع المدني في شيء أكثر مما تتجلى في إنشاء تنظيمات طوعية غير حكومية مستقلة ومتنوعة، جوهرها الخيار الديمقراطي وغايتها دولة حق وقانون تكفل الحقوق المدنية وتصون الحريات العامة. لذلك نرى في الدفاع عن المجتمع المدني دفاعا عن دولته وعن السلطة الممسكة بزمامها.”
وطالب البيان أن تترافق الإصلاحات الاقتصادية، لكي تنجح عملية مكافحة الفساد والإفساد بـ “إصلاح سياسي ودستوري شامل، وإلا فإن هذه الإصلاحات لن تحقق المأمول منها.”
واختتم البيان بالمطالبة بتحقيق جملة من المطالب هي:
1- وقف العمل بقانون الطوارئ وإلغاء الأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية وجميع القوانين ذات العلاقة، وتدارك ما نجم عنها من ظلم وحيف. وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وتسوية أوضاع المحرومين من الحقوق المدنية وحق العمل بموجب القوانين والأحكام الاستثنائية، والسماح بعودة المبعدين إلى الوطن.
2- إطلاق الحريات السياسية، ولاسيما حرية الرأي والتعبير، وقوننة الحياة المدنية والسياسية بإصدار قانون ديمقراطي لتنظيم عمل الأحزاب والجمعيات والنوادي والمنظمات غير الحكومية، وخاصة النقابات التي حولت إلى مؤسسات دولتية فقدت كليا أو جزئيا الوظائف التي أنشئت من أجلها.
3- إعادة العمل بقانون المطبوعات الذي كفل حرية الصحافة والنشر، وتم تعطيله بموجب الأحكام العرفية.
4- إصدار قانون انتخاب ديمقراطي لتنظيم الانتخابات في جميع المستويات، بما يضمن تمثيل فئات الشعب كافة تمثيلا فعليا، وجعل العملية الانتخابية برمتها تحت إشراف قضاء مستقل، ليكون البرلمان مؤسسة تشريعية ورقابية حقا تمثل إرادة الشعب تمثيلا فعليا، ومرجعا أعلى لجميع السلطات وتعبيرا عن عضوية المواطنين في الدولة ومشاركتهم الإيجابية في تحديد النظام العام. فإن عمومية الدولة وكليتها لا تتجليان في شيء أكثر مما تتجليان في المؤسسة التشريعية، وفي استقلال القضاء ونزاهته.
5- استقلال القضاء وضمان نزاهته وبسط سيادة القانون على الحاكم والمحكوم.
6- إحقاق حقوق المواطن الاقتصادية المنصوص على معظمها في الدستور الدائم للبلاد، ومن أهمها حق المواطن في نصيب عادل من الثروة الوطنية ومن الدخل القومي، وفي العمل المناسب والحياة الكريمة، وحماية حقوق الأجيال القادمة في الثروة الوطنية والبيئة النظيفة. فإنه لا معنى لتنمية اقتصادية واجتماعية إن لم تؤد إلى رفع الظلم الاجتماعي وأنسنة شروط الحياة والعمل ومكافحة البطالة والفقر.
7- إن الإصرار على أن أحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية” تمثل القوى الحية في المجتمع السوري وتستنفد حركته السياسية، وأن البلاد لا تحتاج إلى أكثر من “تفعيل” هذه الجبهة، سيؤدي إلى إدامة الركود الاجتماعي والاقتصادي والشلل السياسي؛ فلابد من إعادة النظر في علاقاتها بالسلطة، وفي مبدأ الحزب الواحد القائد للدولة والمجتمع، وأي مبدأ يقصي الشعب عن الحياة السياسية.
8- إلغاء أي تمييز ضد المرأة أمام القانون.
وأضاف البيان مختتما: “وبعد فإننا من منطلق الإسهام الإيجابي في عملية البناء الاجتماعي، وفي عملية الإصلاح، نتداعى وندعو إلى تأسيس لجان إحياء المجتمع المدني في كل موقع وقطاع، هي استمرار وتطوير لصيغة “أصدقاء المجتمع المدني” علنا نسهم، من موقع المسؤولية الوطنية، ومن موقع الاستقلال، في تجاوز حالة السلبية والعزف، والخروج من وضعية الركود التي تضاعف تأخرنا قياسا بوتائر التقدم العالمي. ونخطو الخطوة الحاسمة التي تأخرت عقودا في الطريق إلى مجتمع ديمقراطي حر سيد مستقل.”
ويبدو أن السلطة بدأت تتنبه لحساسية هذا الموضوع، مما حدا بأحد المؤسسين للجان للدعوة للاجتماع من أجل تعديل الوثيقة الأساسية، التي لم يجف حبرها بعد، ودار نقاش طويل في بيت نبيل المالح واتفق على ألا تعدل الوثيقة. فكان الردّ من السلطة ردا تصاعديا. فنشرت جريدة المحرر اللبنانية الموالية للأسد ردّا سوريا عنيفا على دعاة المجتمع المدني من “مصدر سوري مطلع وثيق الصلة بالنظام من خارجه وداخله”. وقد اتهم المصدر “وثيق الصلة” دعاة المجتمع المدني بأنهم يسعون إلى “إقامة مجتمع مدني في البلاد، وذلك من أجل استخدامه كقناع لهدف بعيد هو إطلاق حرية العمل السياسي على عواهنه وبشكل كامل ومفتوح وتحويله إلى ساحة للفوضى يجري فيها تسويق كل تمايز اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو طائفي، دون قيود.” وربط الردُّ الذي نشر على امتداد صفحتين كاملتين من الصحيفة بين “اعتزام بعض الأشخاص تأسيس جمعية أصدقاء المجتمع المدني” و “سعي آخرين إلى إقامة منتديات ثقافية وسياسية غير معلنة (من المرجح أن تكون أندية الروتاري والماسونية بينها.)”
أما نائب الرئيس عبد الحليم خدام فدعا إلى اجتماع في مدرج جامعة دمشق في 18 شباط، 2001، “استنفر فيه أساتذة الجامعات والقيادة وعددا من الشخصيات وبدأ الهجوم شرسا على لجان أحياء المجتمع المدني على أنهم عملاء لسفارات الأجنبية ومدسوسون وما إلى ذلك.”
وبداية نعى خدام في محاضرته على دعاة المجتمع المدني التركيز على ثلاث قضايا هي الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني، وأهملوا قضية الصراع العربي-الإسرائيلي التي هي “شاغل كل طفل في سورية وكل شيخ وكل امرأة وكل رجل (…) وكأن سورية بلد مرتاح إقليميا ودوليا، وكأن كل المسائل متوفرة، لكن بقيت مشكلة أن نصدر بيانا.”
كانت لغة السيد خدام ولهجته حادتين، خاصة وهو يتهم المثقفين السوريين بـ “جزأرة سورية” (وكانت أحداث الجزائر وقتها لا تزال قريبة العهد)، ناعيا على البعض اعتبار سورية “فسيفساء جميلة من أديان وأعراق ومهاجرين، وكل فئة من هؤلاء يجب أن تكون لها ثقافتها وحضارتها.” وقرر خدام أن الديمقراطية ليست وصفة ناجزة، مذكرا أنه في العام 1990، اتخذت القيادة قرارا بترك ثلث مقاعد مجلس الشعب مفتوحة للتنافس بين مستقلين، فكانت النتيجة أن أنفق المرشحون ملايين الليرات لشراء الأصوات، متسائلا: “هل نستطيع القول إن عملية الشراء تحقق الديمقراطية؟”
ويبدو أن عددا كبيرا من الحضور وافقوا السيد خدام، باستثناء قلة من مثل أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق أحمد برقاوي. وزايد بعض الأشخاص على نائب الريس، فقال محمد كامل عمران: “يجب ألا نخشى من ظاهرة المجتمع المدني التي تتشكل من بقايا مفلسين شاخوا فكريا وزمنيا.” بينما نصح الدكتور منير الأحمد “بوجوب أن نتوقع تآمرا في كل دقيقة،” واصفا المثقفين ودعاة المجتمع المدني بأنهم “بذرة للفتنة وجيل من الجراثيم ينمو إن لم تتم مكافحتهم.”
بالمقابل قال أحمد برقاوي إنه لا يمكن أن يتوقع المرء من رجل خرج لتوه من السجن أن يصفق للسلطة التي سجنته، مضيفا أن مثل هذا الشخص سوف “يبحث عن نظام سياسي لا يعود معه إلى السجن (…) وآخر يريد أن يطور التجربة.” أما الدكتور عدنان علي فزاد بالقول إنه “لا يجب أن يقف أحد بوجه هؤلاء لأنهم أبناء الوطن.”
ثمّ كان على رأس النظام الشاب وقتذاك أن يدلي بدلوه، فأعطى حوارا إلى صحيفة “الشرق الأوسط” في 28/2/2001، انتقد فيه البيانات التي كانت تصدر، قائلا: “أنا شخصياً لم أقرأ مثل هذه البيانات. سمعت عنها. شخص يخاطبك من خارج بلدك فمن الطبيعي ألا تهتم به”، ثم فجّر ما حسبه فكرة عميقة حين قال: “النقطة الثانية سُميت بيانات مثقفين، هل هم مثقفون فعلاً أم ماذا؟”.
وتواصل التحريض السياسي والإعلامي والأمني، وصدر عن القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي رسالة داخلية “فيها تشهير وتخوين للجان إحياء المجتمع المدني.”
ههنا، ومن خلال هذا السجال بين حركة المثقفين وما طرحته من رؤى ثقافية تكشف مفاهيم جديدة كمفهوم المجتمع المدني وحقوق الإنسان وحقوق المواطن والمواطنة ومفهوم دولة الحق والقانون ودولة المؤسسات، وهي مفاهيم حديثة أو معاد إنتاجها من التاريخ السوري أو التاريخ العالمي، بدأت الرسالة الأساسية للجان إحياء المجتمع المدني تتبدل، وفقا لأحد مؤسسيها. فبدت لجان أحياء المجتمع المدني، كما كان جاد الكريم الجباعي يقول، “كأنها الفئة المعارضة الجديدة لا بنظر نفسها فحسب بل بنظر السلطة أولا وللأسف بنظر الأحزاب المعارضة ثانيا، سواء أحزاب الجبهة كالحزب الشيوعي السوري- جناح بكداش الذي شنّ، ولا يزال، هجوما شرسا وتخوينيا، أو جناح يوسف فيصل الذي كان أكثر موضوعية لكنه ارتأى أن من الأفضل لعناصره وأصدقائه أن يبتعدوا عن هذه الظاهرة.”
وعلى أية حال، فقد لعبت لجان المجتمع المدني دورا مهما على ثلاثة محاور أساسية: المحور الأول هو محور المنتديات لأن الذين أسهموا في تأسيس المنتديات والذين حاضروا فيها والذين أداروا جزءا مهما من أنشطتها هم أعضاء في لجان أحياء المجتمع المدني. المحور الثاني هو جمعيات حقوق الإنسان، وأول جمعية لعب أعضاء اللجان دورا في تأسيسها هي جمعية حقوق الإنسان في سورية. والمحور الثالث هو ممارسة نوع من النقد السياسي لم يقتصر على السلطة بل تعداه إلى المعارضة.
بالإضافة للمحاور الثلاثة أسهمت لجان إحياء المجتمع المدني في تنشيط الحوار مع الأحزاب الكردية ومع الحركة الأشورية في سورية، وهو ما يعتبر من أهم إنجازات الحركة على الإطلاق، فقد خطا الحوار مع هؤلاء خطوات جدية إلى الأمام وتبلور لدى الأكراد ولجان إحياء المجتمع المدني ولدى قوى التجمع الوطني الديمقراطي فيما بعد ما يمكن تسميته الحل الوطني الديمقراطي للمسألة الكردية في سورية، لأن وضع الأكراد في سورية يختلف عن وضع الأكراد في العراق، يختلف عن وضعهم في تركية وفي إيران ومن ثم لابد من اقتراح حل وطني ديمقراطي في سورية وأظن أن لجان المجتمع المدني أسهمت إسهاما أساسيا في هذا الأمر.”
وائل السوّاح – تلفزيون سوريا
.
.