تشير الشواهد التي تأتي من داخل السجن، بتسريبات أو من معتقلين سابقين، أنّ أفرع أمن النظام تعامل السجناء بوصفهم أرقاماً لما من شأنه إهانة السجناء، وكسر ثقتهم بأنفسهم، واعتبار المعتقل هو المحطة الأخيرة من حياتهم.
27 / تشرين أول / أكتوبر / 2018
في سجون نظام الأسد، يسرق منك السجّان عند باب الزنزانة اسمك، ثمّ يمنحكَ رقماً يجب أن تحفظه جيداً، وقد يتحوّل هذا الرقم، من لفظيّ، إلى مكتوب، وعندها يتحول المعتقل إلى جثّة، مكتوب على جبينها رقماً من جزئين يعرف نظام الأسد وحده إلى ما يرمز هذا من حيث الأمور التوثيقية.. وللرقم أيضاً غاية يريد من خلالها النظام إهمال المعتقلين وسلبهم أسمائهم لكسر معنوياتهم..
اعتاد نظام الأسد إطلاق صفة (رقم) على المعتقلين، منذ بداية الثورة السورية، لعدّة أسباب، أهمها “إهانة المعتقل” وهو ما يمثّل انتهاكاً واضحاً، كما أنّ كثرة المعتقلين التي تقدّر بمئات الآلاف تصعِّب عمل السجّان، وأيضاً يأتي سبب إطلاق (رقم) على المعتقلين ليبقى ملازماً لهم طيلة فترة اعتقالهم، كي لا يعرف السجّان أسماء المعتقلين، أو يعرف السجناء أسماء بعضهم البعض.
صرخ في وجهي المحقّق قائلاً: “من اليوم بتنسى اسمك، الرقم 1921 هذا اسمك الجديد”، وكان هذا هو اسمي المتعارف عليه طيلة فترة اعتقالي في سجون النظام السوري بالعاصمة دمشق. يقول “محمد شرتح” وهو معتقل من ريف إدلب اعتقلته دورية تابعة لفرع فلسطين من إحدى أحياء دمشق القديمة عام 2012 ونقلته إلى الفرع ليبقى قرابة سنتين ونصف.
ويضيف في حديث لـ(مع العدالة): في المعتقل تنسى اسمك حقّاً، وتتحول إلى رقم، لأنهم لا ينادون عليكَ إلّا به، لقد كان السجّان يعاقبنا في كلّ مرة يسمع فيها أنّ أحداً من السجناء نادى الآخر باسمه، لقد كنا نعتقد أنّ السبب في ذلك يأتي لكثرة السجناء، لكنّ الأمر مختلف تماماً.
وتشير الشواهد التي تأتي من داخل السجن، بتسريبات أو من معتقلين سابقين، أنّ أفرع أمن النظام تعامل السجناء بوصفهم أرقاماً لما من شأنه إهانة السجناء، وكسر ثقتهم بأنفسهم، واعتبار المعتقل هو المحطة الأخيرة من حياتهم.
الجثّث أيضاً:
“القيصر” لقب أطلق على عسكري سوري سابق انشق عن النظام وسرّب 55 ألف صورة لحوالي 11 ألف معتقل، عُذّبوا في سجون النظام حتى الموت.
عمل “القيصر” مجنداً في قوات النظام وكان مكلفاً بالتقاط صور في الأماكن التي جرت فيها جرائم مدنية.
كان ينقص صور القيصر التي تجاوزت الـ 50 ألف صورة أسماءَ الضحايا لأنها كانت صوراً لمدنيين عُذّبوا حتى تغيّرت ملامح وجوههم، وبقي منهم فقط عظاماً هشّة وجلداً بعضه مهشّم أو متفسّخ، بالإضافة إلى أرقام مكتوبة على جبين الضحايا.
قال القيصر في شهادته في يوليو عام 2014 إن الجثث تحمل رقم الضبط الخاص بصاحبه بالإضافة إلى رقم الجثة أو المعتقل المتعارف عليه لدى الأفرع الأمنية.
القصير قال في شهادته التي أدلى بها في ردهات مجلس النواب الأمريكي “الكونغرس” وفي كل من مبنيي “الكابيتول هيل” و”رايبيرن هاوس” الإداري، إن “موضوع دفن الجثث يرتبط بعددها، فهي تبقى في العراء إلى أن تصبح 250 أو 300 جثة ليجري نقلها إلى مكان مجهول.
اختصار السوريين برقم:
مع بداية الحراك السلمي للثورة السورية وصل نحو 45 من جثث المتظاهرين السلميين إلى المستشفى العسكري 601، وفي هذا السياق قال أحدُ العساكر المنشقين عن نظام الأسد، إنّ هذه الجثث كانت فقط بالأرقام، وأبلغوا وقتها بأنهم “مندسين” لا أكثر، يقول العسكري المنشق: كانوا من درعا، مكتوب على جبين كل واحد منهم رقماً من 1 إلى 45 هذا كلّ ما عرفناه في ذلك الوقت، ثمّ أخذوهم في سيارة بعد أن بقوا لأيام في ثلاجة المستشفى.
يقول أحمد بشير، وهو ضابط منشقّ، كان يعمل في إحدى أفرع أمن النظام بمدينة اللاذقية، إنه حاول في إحدى المرات السؤال عن سبب التركيز على منح المعتقل رقماً ومعاقبته في حال نطق باسمه أو نادى لأحد المعتقلين بالاسم، فأخبره أحد الضباط في الفرع بأن ذلك يرتبط بقلّة الثقة داخل الفرع أولاً وبين المعتقلين ثانياً.
وأضاف: النظام لا يريد لعناصره الذين لا يثق بهم أن يعرفوا أسماء المعتقلين كي لا يصل خبرهم إلى ذويهم، وقد تصل الأمور إلى أن يكون أحد أقارب العنصر معتقلاُ ولا يعرف، والسبب الآخر، كي لا يتعرّف المعتقلين إلى بعضهم البعض بصورة أوضح، حيث يصل المعتقل إلى قناعة في بعض الأحيان تفيد بأن أي تجاوز للتعليمات تودي إلى القتل، فعلى سبيل المثال، يعتقد المعتقل أنّ بإمكان النظام زرع عنصر أمن بين المعتقلين، وفي حال نادوا لبعضهم بالاسم داخل المعتقل فإن الخبر سيصل إلى الضباط الأعلى حتى ولو حصل ذلك همساً.
عمار محمد، معتقل سابق في إحدى سجون نظام الأسد في حمص، أشار إلى أنّ المعتقلين داخل الزنزانة يعتقدون في فترة من الفترات أنهم فعلاً أرقاماً، حيث إنّ السجّان ينادي عليهم خلال فترة السجن، بالرقم وليس بالاسم، وأوضح أنّ السجّان يتفنن في طريقة الإهانة بدءًا بالاسم، حيث يسرق من الشخص اسمه ويعطيه بدلاً من ذلك رقماً ينادى به طوال فترة وجوده.
ويضيف في حديث لـ(مع العدالة): تفقد ثقتك بالحرية أحياناً، وتشعر أنك رقم، حين كنّا في المعتقل ويخرج شخص ما، لا نتأكد من أنّه خرج من السجن حقّاً، فقد يكون ذاهب إلى الإعدام أو التعذيب، لذلك نرى في أننا مشاريع جثث بأرقام أيضاً، وفيما بعد أدركتُ تماماً أنّ النظام يعاقب المعتقلين بأبسط الأمور ومنها منحهم أرقاماً وحجم أسمائهم عنهم وعن العناصر أيضاً.
يشار إلى أنّ سجون نظام الأسد تكتظّ منذ مطلع عام 2011 بمئات الآلاف من السوريين، الذين خرجوا في الحراك السلمي في آذار من العام ذاته، وانقطعت أخبار النسبة العظمى منهم، فيما تتسرب بين الحين والآخر أسماء بعض منهم قُتلوا تحت التعذيب، ليسقط عنهم الرقم ويبقى الاسم مخصوراً على شهادة وفاة مزوّرة توضح موتاً ناقصاً يُجبر الأهل على التوقيع عليه خشية أن يتحولوا إلى أرقام مثل ضحاياهم.