وفي ظل غياب دراسات أو بحوث توثيقية صادرة عن كيانات تخصصية، يبقى الحديث عن قضايا المعتقلين معتمداً على المنجزات الفردية في هذا المجال، وكذلك على الشهادات الحية التي يرويها المعتقلون
10 / آب / أغسطس / 2018
حسن النيفي – مع العدالة
لازمت ظاهرة الاعتقال السياسي نظام الأسد منذ انقضاضه على السلطة عام 1970، ولم تكُ هذ الظاهرة مجرّد إجراء رادع لخصوم نظام الحكم، ولم تك كذلك إجراءً قانونياً يتم تطبيقه وفقاً لأصول القضاء السوري، بل باتت – ومنذ السنوات الأولى لعهد حافظ الأسد – إحدى الدعائم الأساسية لاستمرار الأسد في السلطة، وبهذا تكون قد تجاوزت كونها ظاهرة استثنائية أو طارئة، بل الأصح عندي أنها عامل مؤسِّس لنظام حكم مازال قائماً – من خلال الأب والابن – حتى الوقت الراهن.
قد يستوجب البحث في ظاهرة الاعتقال السياسي من الناحيتين الأمنية والسياسية سياقاً آخر من الكلام، بالتأكيد هو خارج اهتمام هذه المقالة، ولكن ما نحن بصدد مقاربته هو التداعيات الإنسانية والاجتماعية للذين مورس عليهم الاعتقال في سورية لأسباب سياسية، وذلك ضمن دوائر واسعة من الحديث الذي يدور هنا وهناك حول مفهوم العدالة الانتقالية أو إنصاف الضحية والقصاص من المجرم.
الغياب المباغت
شهدت مرحلة الثمانينيات مواجهة هي الأكثر عنفاً قياساً لما سبقها، بين جماعة الإخوان المسلمين والسلطة القائمة، إلّا أن مجمل تداعيات تلك المواجهة لم تطل الإخوان المسلمين أو حاضنتهم الشعبية فحسب، بل كانت ردّة فعل السلطة عامة لم تستثن طيفاً سياسياً أو اجتماعياً دون آخر،وذلك إيذاناً ببدء مرحلة جديدة من تاريخ سورية كان أبطالها دون منازع، فروع المخابرات بالإضافة إلى سرايا الدفاع والوحدات الخاصة والفرقة الثالثة،إذ تمكنت هذه الكيانات المزوّدة بكل أشكال القوة، والمجرّدة في الوقت ذاته من أية اهتمام بالجانب القانوني أو الإنساني إبان القيام بمهامها، إذ كان الهدف الجوهري لديها هو استئصال الخصم، هذا الاستئصال الذي تراوح ما بين التصفية الجسدية المباشرة، والاعتقال أو التغييب طويل الأمد.
ثمة مسألة جوهرية جسّد غيابها فراغاً كبيراً إبان أي عملية البحث في قضايا المعتقلين السوريين، وأعني دون ريب مسألة التوثيق الحقوقي الذي كان وما يزال غائباً عن ثقافة السوريين،مرة بفعل عوامل القمع التي لم تغب عن الشارع السوري،ومرة بسبب ندرة الوعي الحقوقي والقانوني في الثقافة السورية،ولعل هذا ما جعل قضية المعتقلين في سورية تخضع لمقاربات عمومية غير دقيقة،تقف عند الظاهرة دون القدرة على ضبط تفاصيلها، ما أدى إلى غياب الأرقام الدقيقة للمعتقلين في كل مرحلة وفي كل سجن، إضافة إلى أعداد من تمت تصفيتهم أو ماتوا تحت التعذيب، أو الذين لم يُعرف مصيرهم حتى الآن.
وفي ظل غياب دراسات أو بحوث توثيقية صادرة عن كيانات تخصصية، يبقى الحديث عن قضايا المعتقلين معتمداً على المنجزات الفردية في هذا المجال، وكذلك على الشهادات الحية التي يرويها المعتقلون.
من خلال مشاهدات حية لكاتب هذه السطور، طيلة خمسة عشر عاماً في السجون السورية،(1986 – 2001 )، يمكن القول: إن الرعيل الأول من معتقلي الثمانينيات ينتمي إلى الفئة العمرية التي تتراوح بين ( 20 سنة – 45 سنة)، وهذا التقدير يشمل كافة القوى السياسية من إسلاميين وقوميين وشيوعيين، باستثناء بضعة مئات كانت أعمارهم حين اعتقلوا أقل من (16 ) سنة، ومعظمهم من مدينة حماة،اعتقلهم نظام الأسد على خلفية اقتحام حماة 1982 ، وكانت لهم مهاجع خاصة في سجن تدمر، أُطلق عليها مهاجع الأحداث.
شهدت سورية أول حالة إفراج جماعية عن معتقلين سياسيين في كانون أول من العام 1991 ، حيث أصدر حافظ الأسد عفواً عن (2700 ) تقريباً، القسم الأكبر منهم من الإسلاميين، وبذلك يكون القسم الأكبر من المُفرج عنهم قد قضى في السجن (11 عاماً)،ثم تتالت بعد ذلك حالات إخلاء سبيل ولكنها أقل حجماً من حيث العدد، أي معظم الدفعات كان عددها محصوراً بالمئات،علماً أن معظم المُخلى سبيلهم كانوا قد خضعوا لمحاكمات استثنائية( المحكمة الميدانية – محكمة أمن الدولة العليا)، إلّا أن الإفراج عنهم لم يكن مقيداً بفترة محكوميتهم، حيث إن العديد منهم كان قد تلقى حكماً مقداره ثلاث سنوات أو أكثر أو أقل، إلى أنه قضى في السجن أحد عشر عاماً.
في عام 2001 أصدر بشار الأسد أمراً بإخلاء سجن تدمر وسجن المزة، وجمع كل المعتقلين في سجن صيدنايا،وإذ ذاك أصبح سجن صيدنايا يكتظ بالآلاف من المعتقلين من مختلف الأطراف السياسية، قسم كبير منهم يعود اعتقاله إلى الثمانينيات، بل هناك من كان اعتقاله يعود إلى عام 1977 ( خالد عقلة السليمان) الذي أُفرج عنه عام 2004 ، ويكون قد قضى في السجن مدة( 27 سنة)، ومنهم من كان اعتقاله في بداية التسعينات أو بعدها بقليل.
ما بين عام 1980 وعام 2011 ، ثمة رعيل من المعتقلين لا يمكن حصر أعدادهم بدقة،ولكن بالتأكيد يتجاوز عددهم عشرات الآلاف، قضى معظم هؤلاء في السجون مدة تتراوح بين ( 8 سنوات – 25 سنة)، وبالنظر إلى الفئات العمرية التي ينتمي إليها هؤلاء( 20 – 45 )، يكون هؤلاء قد أمضى زهوة سنيّ عمره في السجن، وهي الفترة الزمنية التي يمكن أن ينجز بها المرء دراسياً ومهنياً وأُسرياً واجتماعياً،هذه السنوات التي انطفأت من العمر لا يمكن أن تعود،والسنوات التي تليها من العمر لا يمكن أن تشبهها، فضلاً عن الحالة المتوحشة والمرعبة اللاإنسانية التي كانت تمارسها سلطات الأسد على المعتقلين.
بكل تأكيد، لا يمكن حصر معاناة المعتقلين داخل السجون الأسدية بوقائع أو قرائن مادية محدّدة،ذلك أنك تستطيع أن تشرح أو تتحدث عن عطب أو بتر عضو من جسدك،وكذلك تستطيع توضيح ما طالك من أذى جسدي، كما بإمكانك التعبير عن حالات الجوع والآلام العضوية التي تنتابك، ولكن لا أعتقد أن ثمة لغةً مهما بلغت قدرات صاحبها قادرة على تجسيد دقيق لمبلغ القهر الذي كنت تعيشه، ولا لتداعيات الخوف الذي كنت تحس أنه ينهش روحك، ولا لمقدار الألم النفسي والشعور بالإذلال حيال معاملة السجان القذرة والمهينة. لا شيء في هذا الكون يعوضني عن لعق حذاء السجان أو إجباري على التهام الحشرات، أو إجبار زميل لي على سكب الماء البارد على جسدي شتاء،أو إجبارنا الاثنين معا على تبادل الصفعات والشتائم، ولا قوة في الكون قادرة على أن تمحو من ذاكرتي رؤية صديق سجين لفظ أنفاسه الأخيرة تحت ركلات الجلادين، حتى القصاص من الجلاد من خلال محاكمته، أو حتى إعدامه لن يترك في نفسي شيئاً من الرضى، لأن موت الجلاد لن يعيد لي ما سُلب مني.
ومما هو مؤكد أيضاً، لن يكون الخروج من المعتقل هو نهاية المعاناة، بل هو دخول برحلة من معاناة جديدة تتأسس على ما قبلها، بدءاً من حالات التضييق الأمني والحرمان من العمل والسفر وكافة الحقوق المدنية، مروراً بالشرخ الاجتماعي نتيجة الفجوة الزمنية بينك وبين المجتمع، فضلاً عن الظروف المعيشية التي عليك اللحاق بها، ومهما امتلكت من القدرات المادية والمعنوية التي تمكنك من الاستمرار في الحياة، إلّا أنك لن تتمكن من تجاهل كمّ هائل من القهر يسكن أعماقك،ومهما حاولت إخفاءه أو تجاهله إلّا أنه يبقى ماثلاً بكل تفاصيل سلوكك النفسي.
ولن تكون أقل شعوراً بالمرارة حين ترى أن معاناتك يتطاير شرارها – رغماً عنك – إلى ما حولك، من أفراد عائلتك أو أقاربك،فأنت ليس بمقدورك أن تمنع العذاب والقهر من التسلل إلى قلوب الأمهات اللواتي فقدنَ أولادهن،أو تحجب معاناتك من أن تنعكس على زوجتك وأطفالك. لعله من العسير الإحاطة الوافية بالتداعيات الإنسانية والاجتماعية لقضية الاعتقال كما هو عليه الحال في سورية،فتلك مسألة تتجاوز الانطباعات الذاتية لأصحاب التجارب، بل تتطلب جهوداً مؤسساتية متخصصة،ولكن ما يبرر لنا تعاطي الموضوع من هذه الزاوية هو محاولتنا لمقاربة مدى إمكانية التعاطي مع مفهوم العدالة الانتقالية حيال قضية المعتقلين في سورية.
قد يرى البعض أن الحديث عن مفردات الشقاء لدى المعتقلين هو ضرب من السرديات البكائية أو الاستغراق في المظلومية، ولا أعتقد أن الأمر كذلك، لأن المعتقل بسبب قضية آمن بها لن ينتظر ثمناً من أحد ولا يمنّ بتضحياته على غيره،فذلك كان خياره منذ البدء،ولكن ما أراه ضرورياً على الدوام هو عدم حجب الظلم والتستر على الفظائع التي مارسها ويمارسها الطغاة بحق البشرية.
أعتقد جازماً أن تجسيد العدالة الإنتقالية – في حال تحققه – سيكون انتصاراً كبيراً بلا شك، ولكنه انتصار للعدالة كقيمة مجرّدة، ولكن لن يتحول هذا الانتصار إلى إنصاف للضحية (المعتقل)، مبعث الإنصاف الوحيد للمعتقل هو شعوره أن الحلم الذي كان يظنه قد يبس، بدأت تدب به الحياة من جديد، وهذا ما حققت الثورة السورية قدراً كبيراً منه.
.
.