ما أن ينهي هذا الضّابط حديثه، حتى يخرج من القاعة مسرعاً، بينما يقوم شخصٌ يرتدي قناعاً واقياً، برمي قنبلة غازية داخل القاعة ويقفل الباب
01 / نيسان / أبريل / 2020
في غمرة تعارفنا في المهجع الجديد نهاية عام “1985” كانت هناك كوكبة من الضباط، من اختصاصاتٍ متنوعة، فمن سلاح الطيران كان بيننا اثنا عشر ضابطاً طيّاراً، ومن سلاح مدفعية الميدان كان هنالك سبعة ضبّاط، ومن الدفاع الجوي وسلاح المشاة وضبّاط المدرعات وغيرها، وكنّا نميِّز منهم مجموعةً من الضباط، يبدو عليهم شدة الإعياء، والوهن الملفت للنظر، مع أن معظمهم لم يجاوز الخمسين من العمر إلا قليلاً، وشيئاً فشيئاً بدأت العلاقات تتمتن، وبدأت الثقة والإلفه تفتح أبواباً للحديث، لم تكن قد فتحت من قبل، وكان هناك حديثٌ خاصٌ يسري بهدوء، ويتم تداوله همساً، وهذا أمرٌ غير مألوفٍ في هذا المعتقل، حيث يمارس المعتقلون في عوالمهم الداخلية، أقصى درجات الحرية في الفكر والآراء، فما يخشاه الآخرون خارج السجن “الاعتقال والتحقيق” متحقق هنا في أعتى صوره، فلا يخشى من هو في لجة البحر، بلل المطر الطارئ.
خلاصة الأمر، أن بعضاً من هؤلاء الضباط، قد خاض تجربةً عصيةً على التصديق، لو أنّها رُويت من غيرهم، فقد تم نقلهم إلى معسكرٍ صحراويٍّ قريبٍ من منطقة “أبي الشامات” في أطراف العاصمة السورية “دمشق”، وكانوا يُنقلون بواسطة سياراتٍ عسكريةٍ خاصة، بعد أن يتم استدعائهم بالاسم، وكان معظمهم ضباطاً، معتقلون لصالح فرع المخابرات الجوية، والذي يبدو أنه الفرع المتابع لهذه الاختبارات الخطير، وما أن يصلوا إلى ذلك المعسكر، وهم معصوبو الأعين، ومقيدون بسلاسل حديدية، حتى يتم ادخالهم وبرفق، إلى قاعاتٍ واسعةٍ مساحتها تقارب المئة متر مربع، وهناك يمضون بضع أيام يتلقون فيها معاملةً حسنة، ويقدم لهم الطعام الجيد ثلاث مراتٍ يومياً، تمهيداً لحدث ما يزالون يجهلون كنهه.
في اليوم المحدد سيتم نقلهم إلى مستودعٍ مختلفٍ، وسيكون المستودع الجديد، مجهزاً بخمس نوافذ زجاجية واسعة، يتم التحكم فيها من الخارج، تمكِّن الواقف خارجها، من الإشراف الكامل، على تفاصيل ما يحدث في الداخل، ويطلب منهم أحد ضبّاط الموقع، أن يتجمعوا في زاوية المستودع، تمهيدا لتحقيقٍ عارضٍ وقصير، يفضي إلى إطلاق سراحهم قريباً، وسيخبرهم أنهم سيُرمَون بقنابل مسيلةٍ للدموع، فلا ينبغي لهم أن يجزعوا، وما عليهم إلا المسارعة إلى أطباق البصل، المركونة في الزاوية الأخرى، لتساعدهم في التغلب على آثار هذا الغاز.
ما أن ينهي هذا الضّابط حديثه، حتى يخرج من القاعة مسرعاً، بينما يقوم شخصٌ يرتدي قناعاً واقياً، برمي قنبلة غازية داخل القاعة ويقفل الباب، خلالها يقوم جمعٌ من الضباط والمختصين، بمتابعة ما يجري عبر النوافذ، وتسجيل الملاحظات، في الثواني التالية، يكون المعتقلون الذين يخضعون لهذا الاختبار، قد فقدوا الإدراك وفارقهم وعيهم.
وكما حدثني صديقي جلال، وهو أحد الضباط الناجين من هذه التجربة المريرة، في الثواني الأولى التي تلت غيبوبته، والتي لا يعلم كم طالت، كان يحس أن مخلوقات فضائية تحاول الاقتراب والنيل منه، بأيدٍ سوداء طويلة الأظافر، ووجوهٍ قبيحةٍ وعيونٍ متَّقدةٍ، كأن بها جمرٌ يشتعل، وأصواتٍ منكرةٍ ممدودة الحروف، تعلو تارةً وتخبو تارةً أخرى، دون أن يعي منها ما تريد، يتطور المشهد سريعاً، لمحاولة هذه الكائنات الإمساك به وتشويه وجهه بمخالبها، وصراخٌ مرتفعً، وضحكٌ وقهقهة.
وشيئاً فشيئاً يتبدد العماء والوهن، الذي يغرق به هو وأصدقائه، الذين كانوا معه في هذا الاختبار، ليجدوا أنفسهم، وقد أمسك كلٌّ واحدٍ منهم بتلابيب الشخص القريب منه، وجثم بعضهم فوق صدر بعض، وقد اشتبكت الأيدي بعراكٍ عنيف.
بعد ساعةٍ من الزمن، سيصحو الجميع بالتتالي، والألم الحادُّ ينتشر في جميع أوصالهم، وألسنتهم قد التصقت بحلوقهم من شدة العطش، ليجدوا أنفسهم وسط مجموعةٍ، من الخبراء والضباط، الذين يرتدون الكمامات، ويتابعون تفاصيل استيقاظهم عن قرب، وفي ركن القاعة مصور فيديو، يوثق تفاصيل عودة الوعي إليهم.
يقترب أحد الحاضرين منهم، يسألهم كم مضى عليكم وأنت نائمون، يجيبه البعض، أنهم نائمون منذ خمس ساعات، ويجيب آخرون، أنهم نائمون منذ اليوم السابق. كان صديقي جلال وهو أصغر السجناء سناً، يلمح النظرات الساخرة في بعض الوجوه، وسيعلم بعد أيامٍ، أنهم أمضوا ثلاث ليلالٍ بتمامها، وهم غائبون عن وعيهم، وأنهم في غمرة الاستيقاظ كانوا يحاولون خنق بعضهم بعضاً، فقد كانت تلك الغازات السامة، التي قُذفوا بها، تتسبب بتلفٍ أو أذية في الجهاز العصبيّ، الأمر الذي يتسبب عند الصحو، بجملةً من الإهلاسات السمعية والبصرية، تجعل من الآخرين أعداء، ينبغي مقاتلتهم وقتلهم، وهذه الإهلاسات (عرضٌ نفسي من منشأٍ عصبي، يتسبب للمريض برؤية أو سماع أشياء، لا وجود لها إلّا في مخيلته).
بعدها تم نقلهم إلى قاعة أخرى، بها أسرَّة وبعض الطعام والماء، وكانوا يمشون متعكِّزين على ركبهم، وقد انحنت ظهورهم من الإعياء، وكانت رؤيتهم ضبابيةً إلى حدٍ كبير، وثمّة أصواتٌ تنبعث من هنا وهناك، لا يملكون لها تفسيرا. لم ينتبهوا إلّا بعد مرور زمنٍ وافٍ، أن سبعةً ممن كانوا معهم في هذه التجربة، لم يعودوا برفقتهم إلى القاعة، وحين استعادوا القسط الأكبر من إدراكهم، تذكر بعضهم، أنه رأى أشخاص متمددين، في ركن القاعة السابقة، حيث طبقت عليهم اختباراتٌ للقنابل السامة، وسيدركون بشكلٍ أجلى، حين يعودون إلى سجن تدمر، أنَّ الآخرين قد قضوا في تلك التجربة.
سيكون منهم ناجون شكلاً، وهم معتلّون تلازمهم اعتلالاتهم لسنواتٍ طويلةٍ، بعد خروجهم من المعتقل، وقد كنت أمر بأحدهم في بعض متاجر حلب، وهو يعمل في إعداد القهوة والشاي لدى بعض اخوته، فأجده ساهماً شارداً، لا يكاد يعي ما يُقال له، وحين ألقي عليه التحية، يجيبني دون أن يرفع رأسه أحياناً، وأحياناً لا يجيب، فأنصرف عنه وأنا أطوي صدري على ألمٍ يصعب البوح به في تلك الأيام.
بعدها بأيام، يتم سوقهم مشاةً، إلى مبنى يبعد عن القاعة، مئات الأمتار، وهم حفاةٌ، وقد لبس الوهن أجسامهم وأرواحهم، ليعرضوا على ضابطٍ كبيرٍ، كان يتولى الإشراف على تلك الاختبارات، وسيميزه العديدون منهم من صوته، إنَّه المقدم “علي مملوك”، الذي يعرفونه جيداً من خلال زياراته المتكررة للمطارات التي طالما حلَّقوا منها، والذي سيرقّى لاحقاً لرتبة لواء، وسيتولى رئاسة المخابرات الجوية، صاحبة الباع الأطول في قمع السوريين، ووأد أي حراكٍ، يهدف إلى ثقب جدار الخوف، وتنسم بعض الحرية، التي طالما حلم بها السوريون.