إلى روح الرقيب أحمد السباعي
06 / شباط / فبراير / 2020
*مع العدالة | محمد برو
كما جرت العادة اليومية، قرابة الساعة الواحدة ظهراً، تتم عملية الاستلام والتسليم، حيث يُسلِم الرقيب المناوب، مجموع السجناء للرقيب التالي، وتجري العملية بالدخول إلى المهاجع والسجناء في حالة وقوف، وظهورهم باتجاه الجدار وأعينهم مغمضةٌ، ورؤوسهم مرفوعة للأعلى، ويقوم الرقيب الجديد وبحضور الرقيب المناوب، بعدِّ السجناء داخل كل مهجع، ويتأكد من رئيس المهجع بسؤاله: كم حماراً عندك؟
فيجيب رئيس المهجع وبصوت عالٍ: خمسة وتسعون، حضرة الرقيب.. وعادةً يكون الرقم مطابقاً للجدول الذي يحمله، وللعد الذي قام به، ولتقرير رئيس المهجع. ونادراً ما يختلف العدد بسبب خطأ في العدِّ أو أن أحد السجناء تم استدعاؤه لفرع التحقيق، ولم يتنبه الرقيب لذكره في الجدول، ساعتها تقوم قيامتهم، ويعودون للعد بشكل أكثر صرامة، إلى أن تتم المطابقة العينية بين المعدود والمسجل في الجداول.
- تستغرق عملية التفقد اليومية هذه، قرابة الساعة ونصف، حتى ينتهوا من جميع المهاجع، والتي يزيد عددها عن الأربعين.
وبعد التحقق من العدد في كل مهجع، يتسابق الجلادون فيما بينهم، من سيحقق أكبر عددٍ من الضربات واللكمات، ومن سيخلف عدداً أكبر من النازفين، ثم ينتقلون جرياً كحمر الوحش إلى مهجع آخر وهكذا دواليك.
في حكايتنا هذه، سيكون هنالك نغمٌ نشازٌ عن الجوقة العامة، سرعان ما يكتشفه السامع الخبير، عند أول حركة، إنه رقيب لم نرَ وجهه بعد، لكن صوته يأتي طبيعياً دون صراخ، وإن صرخ سيكون صراخه بالنسبة لنا بادي التكلف.
*وكثيراً ما كنا نضحك في سرّنا.. “ما لهذا الرقيب لا ينجح في تقمصه للدور!”
بعد أسابيع لم تطل، كان يدهشنا بتميزه عن باقي الجلادين والرقباء. إنه ما أن ينهي عد الموجودين حتى يصرخ بالجلادين بحزم “شرطة كفى” فيخرجون سراعاً، ليقوم بإقفال المهجع بيده، وما أن يبتعد عناصر الشرطة قليلاً ليفتحوا المهجع التالي، حتى يعيد سحب الباب إلى الخلف قليلاً، قبل أن يقفله ويقول بصوت خافت جداً “بفرجها الله يا شباب”.
“صورة للقتلة الذين أعطوا الأوامر بتنفيذ مجزرة تدمر : حافظ الأسد ــ رفعت الأسد ــ مصطفى طلاس”
ماذا! هل صحيح ما نسمع! أم أننا بدأنا نهلوس، في هذا الجحيم المطبق هناك من يتعاطف معنا، يا للسماء. ليس بالإمكان وصف هذه الحالة، التي تعترينا جميعاً لمجرد أن يقول هذا الإنسان “بفرجها الله يا شباب”. لا توجد عبارة تشيع الأمل في نفس اليائس، أبلغ من تلك العبارة في ساعتها.
ولا يمكن تخيل مقدار الحبور والطمأنينة والسلام، الذي يهبط دفعة واحدة بإغراقٍ، على تلك القلوب المتصحرة، والتي باتت تنكر الأمل إن ورد عرضاً في المنام.
وعبر أسابيع قليلةٍ، تكرر هذا أكثر من مرة، وكنا حين نسمع صوته، وهو يملي أوامره على الجلادين المرافقين، تسكن نفوسنا، وكان من أقصى أمانينا أن نرى وجهه، لنعرف من هذا الرجل، الذي يجرؤ على مواساتنا في هذه الصحراء القاتلة.
“صورة لأحد المكاتب في سجن تدمر قبل أن يدمره تنظيم داعش 2015”
لكن لكل شيءٍ (إذا ما تم نقصان)، لم تطل فرحتنا بهذا الإنسان الذي ثقب نافذةً للأمل، في جدار من الإسفلت الأسود يغلف نفوسنا. ففي ضحى أحد الأيام التي لا تنسى، جرت حركةٌ عنيفةٌ جداً، حركةٌ غير مألوفةٍ في هذا الوقت وبهذا العدد، وما هي إلا دقائق، حتى كانت سرية التأديب “المسؤولة عن التعذيب والحراسة” مجتمعةً بكامل عددها وعتادها، من سياط و كابلات وقضبان حديديةٍ وهراوات، وقفوا بوضعية الاستعداد وقُدِّم الصف للضابط مدير السجن “فيصل غانم”، وكان بعضهم يمسك برجلٍ عارٍ كما ولدته أمه، وجسده مدمى من شدة التعذيب، رموه في وسط الساحة، وهم متحلقون حوله كضباع جائعة.
في البدء، حسبناه سجيناً، قد أتو به من أحد الفروع، لكن، ما هكذا تورد الإبل، ولم تكن هذه طريقتهم مع سجين واحدٍ، أن تجتمع السرية بالكامل، ويحضر مدير السجن.
وبعد عدة صفعاتٍ من مدير السجن الذي كان في ذروة غضبه، أمسك به من رقبته وقاده إلى باب مهجعنا، وفتحه على نحو مفاجئٍ، أرعب من كان متمدداً أرضاً، يرقب الوقائع من ثقبٍ صغيرٍ في الباب، ولوهلةٍ حسبنا أنهم كشفوا أمر تلصصنا، وهرعوا لعقوبتنا، فانكمشنا في أماكننا لا نلوي على شيء، لكن ما أن فُتح الباب، حتى نادى مدير السجن رئيس المهجع بصوت غاضب ومتوعد، رئيس المهجع (شو كان هالحقير يحكي معكم عند التفقد)، أسقط في يد المسكين، وعجز عن الكلام من هول الصدمة؛ إنه الرقيب الذي افتقدناه لأيام خلت، والذي كنا نتنسم سماع صوته المواسي.
*صرخ الضابط مرةً أخرى، وبصوت أعلى “ما عبتسمع يا حقير.”
-سيدي في التفقد يسألون عن العدد، ويضربوننا ويشتموننا، وليس فوق هذا أي حرف… الله وكيلك.
-“حسابكم بعدين يا حقراء، والله لأربي فيكم السجون.”
يضرب الباب برجله ويخرج، ويعاود الكرة مع عدة مهاجع بنفس الساحة، دون أن يحصل على جواب ينتظره. يتوعد الجميع بجمعةٍ دمويةٍ من التعذيب.
ثم يلتفت إلى سريته المتأهبة، للانقضاض على هذا المسكين. زميلكم هذا أحمد السباعي من حمص، وثقنا به وهو خائن للوطن الذي يطعمه ويسكنه ويمنحه عملاً، وشرفاً وراتباً.. وهو خائن..
-يصرخ فيهم: ما جزاء الخائن؟ الموت يصيحون بصوتٍ واحد. وبإشارة من يده ينقضون على الرقيب أحمد السباعي.
لقد عرفنا اسمه الآن، يا للمسكين، ربما مضت ساعتان أو أكثر، ونحن في انقباض ورعب، وبكاء ودعاء، ونحن نسمع صراخ الرقيب أحمد، وهو يتقلب أرضاً بين أقدامهم، وأدوات تعذيبهم، ثم يتوقف صوته، فنعلم أنه قد غاب عن الوعي وأغمي عليه، ونتمنى أن يكون فارق الحياة، لكن سرعان ما نسمع صوت سفح الماء على جسده، فيعاود الاستيقاظ والصراخ، وهم مستبسلون في تعذيبه، إلى أن أحالوه شلواً ممزقاً مفقوء العينين، مبقور البطن، مكسر الأضلاع والأطراف، لا يمكن وصف هذه الحالة بما تستحقه من الوصف، فحجم التعذيب الذي ناله اليوم، لو أنه طبّق على جدار صلب من الإسمنت المسلح لتفتت.
“صورة من داخل سجن تدمر”
بعد أن انتهوا منه، وتحقّق الطبيب أنه فارق الحياة، عاد مدير السجن ليطمئن، إلى أن رسالته قد وصلت لجميع العناصر، وأن أي خللٍ في تنفيذ الأوامر بدقتها، وأي تعاطف مع هؤلاء المجرمين “نحن”، يعني عقاباً منزوع الرحمة، خالٍ من أيَّة شفقة، يتمنى صاحبها أن يعجل له بالموت.
*ثم جاء جلادان ببطانية عسكرية، فحملوه بها إلى مثواه الأخير.
“صورة للمنفردات والزنازين في سجن تدمر”
من شدة انهماك وإنهاك الجلادين، في تعذيب وقتل “الرقيب أحمد” رحمه الله، لم يعد بمقدورهم متابعة تعذيبنا، في جميع الساحات، وتم إعفاء السجناء من التعذيب في هذا اليوم، وكأنه رحمه الله، قد حمل عنا تعذيبنا جميعاً في هذا اليوم، فنال ما سيلحق بخمسة آلاف سجين، من التعذيب دفعة واحدة.
-أي جبل هذا!؟
ستذكره صلواتنا وخلواتنا، وما ندعو به لسنوات طويلة، وسيتحاشى أيُّ عنصرٍ في هذا السجن، أن يهمس أو ينظر نظرةً بريئةً، قد يفهم منها تعاطفه.