#########

الضحايا

“تزوير الموت” في السجون العسكرية السورية.. القتل مرتين


"كانت جثث المعتقلين تصل إلينا وعليها آثار التعذيب ومنهم من يصل بعدما تمت تصفيته بطلق ناري أو طعنة سكين، لكن الضباط المتواجدين كانوا يطلبون من الطبيب المناوب كتابة تقرير طبي يُفيد بأن وفاة المعتقل طبيعية"

14 / كانون أول / ديسمبر / 2018


“تزوير الموت” في السجون العسكرية السورية.. القتل مرتين

 

 

VICE عربية تكشف القصة الكاملة لقتل وإخفاء جثث المعتقلين بشكل ممنهج في سجون ومقار احتجاز عسكرية

 

 

   إعداد: علي الإبراهيم / المصدر VICE عربية

 

خلال لقاء مع مجموعة من أهالي المعتقلين السوريين الذين أعلنت السلطات السورية وفاتهم في السجون والأفرع الأمنية، دخل جانب من العائلات في جدالٍ حول مكان وزمان شريط فيديو مصور حصلنا عليه من المستشفى العسكري في مدينة حمص. يُبين الشريط تَعرُّض أحد المعتقلين للضرب وهو مقيد اليدين والرجلين بسلاسل إلى سرير المستشفى. عرضنا الشريط عليهم، ليقطع الجدل الذي أمتد لأكثر من نصف ساعة صوت رجل يبدو عليه أنه تجاوز السبعين، ضرب الكهل جبهته بكفه ومررها على شعره وهو يقول: “هذا ابن أخي.. لقد قتلوه في المشفى بعد أشهر من اعتقاله.”

تم هذا اللقاء خلال عملنا على تحقيق استقصائي طوال أكثر من عام، تقصينا فيه ما يُسمي بـ”قلب آلة الموت السورية” كما اتفق على وصفها معتقلون سابقون، وذويهم، وناجون؛ حيث انتهت داخلها حياة عدد كبير من المعتقلين يقدّر بنحو 13 ألف شخص (وفقًا لأرقام منظمات حقوقية محلية ودولية) من إجمالي 121 ألف معتقل ومختفي قسريًا منذ عام 2011. تقول الحكومة السورية أن أسباب الوفيات طبيعية، فيما يؤكد الناجون وعائلات الضحايا أن الوفاة كانت جراء عمليات التعذيب وظروف الاحتجاز غير الآدمية. خلال عملنا على هذا التقرير حصلنا على عشرات الصور والوثائق والشهادات الحية التي تؤكد وفاة عدد من المعتقلين جراء التعذيب، على الرغم من تسجيل وفياتهم في الأوراق الرسمية للمستشفيات العسكرية والأحوال المدنية، باعتبارها وفيات طبيعية لأسباب مثل توقف القلب والتنفس، والاحتشاء القلبي (نوبة/ ذبحة قلبية)، على غير الحقيقة وفق ما تمكننا من رصده وتوثيقه.

 

اعتمدنا منهجية استقصاء تستند إلى صور للضحايا تم تسريبها عبر عسكريين سوريين انشقوا عن النظام، وعمدنا إلى البحث عن أصحابها والتحقيق في ملابسات وفاتهم، ورواية النظام السوري حول أسباب الوفاة. تتبعنا حالات 14 شخصًا في 6 مدن سورية مختلفة، للتأكد من وجود نهج متكرر للوفيات، ولتحديد نطاق المسؤولية المباشرة عنها بدءًا من إصدار الأوامر وحتى إخفاء الأدلة. حصلنا على 14 شهادة وفاة صادرة من المستشفيات العسكرية والأحوال الشخصية، يتراوح معدل أعمار أصحابها ما بين 22 – 45 عاماً، جميعهم كانوا معتقلين في سجون النظام السوري. وأجرينا مقابلات مباشرة مع عائلاتهم، بالإضافة إلى مصادر طبية وعسكرية في النظام السوري (سابقة وحالية)، فضلًا عن نشطاء حقوقيين داخل وخارج سوريا، وحصلنا على وثائق وصور ومقاطع فيديو، لن نتمكن من عرض بعضها حرصًا على السلامة الشخصية لمصادرها. استخدمنا آلية للتحقق من صحة الصور ومقاطع الفيديو والمستندات التي حصلنا عليها عبر ثلاثة مصادر مختلفة بالإضافة إلى تقنيات التحقق الرقمي عن طريق مقارنة النقاط المرجعية للمباني والتضاريس، مع صور القمر الصناعي من Google Earth، وDigitalGlobe، وكذلك من خلال مطابقتها مع الخرائط الجغرافية والعلامات الأرضية.

رحاب العلاوي شابة عشرينية، كانت صورتها الوحيدة المنشورة لامرأة بين مجموعة صور سربها المصور العسكري المنشق عن للنظام السوري والملقب بـ”قيصر” لمتوفين في معتقلات وسجون سورية. كانت صورة رحاب جثة هامدة وممدة على الأرض في مرآب للسيارات تحيط بها عشرات الجثث المشوهة ذات الوجوه الشاحبة والأجساد النحيلة، والتي يصعب التعرف عليها بعد أن غيرت سنين الاعتقال من ملامحها لما تعرضت لها داخل السجون. كانت رحاب أولى الحالات التي عملنا على توثيق ملابسات وفاتها.

ألقي القبض علي رحاب في يوم يوم 17 يناير 2013 من قبل “سرية المداهمات” وهي وحدة خاصة للمداهمة في الشرطة العسكرية، على خلفية اتهامها بـ”خطف وقتل ضابط من قوات النظام السوري.” بعد القبض عليها، حاولت عائلتها الحصول على معلومات عن مكان تواجدها عبر معارف شخصية ومسؤولين في الحكومة السورية، ليتلقوا بعد فترة بلاغًا يفيد في وفاتها نتيجة “سكتة قلبية” وفق تقرير طبي حصلنا على صورة ضوئية له، مؤرخ في منتصف العام 2013. لم تتسلم العائلة الجثة، لكنها شاهدت صورًا لرحاب بعد ذلك بستة أشهر، مطلع يناير 2014 ضمن صور مسربة، وعلى جبينها الرقم 2935 لصالح الفرع 215 التابع للمخابرات العامة.

 

صورة رحاب كانت واحدة من الصور التي سرّبها المصور العسكري “قيصر” في 21 من سبتمبر 2013، تضم أكثر من 53 ألف صورة لجثث معتقلين. كان قيصر مجنداً في قوات النظام السوري ومكلفًا بالتقاط صور في الأماكن التي جرت فيها جرائم مدنية، إلا أنه ومنذ اندلاع الثورة السورية في منتصف مارس 2011، كُلّف بتصوير جثث المدنيين من ضحايا التعذيب. من خلال الصور المُسربة عرفت العائلة أن ابنتهم رحاب باتت رقماً في سجلات الاستخبارات العسكرية بعد أن لقيت مصرعها في ظروف غير معروفة لهم.

تسرد العشرينية هنادي الحسين، وهي معتقلة سابقة عايشت رحاب في المعتقل طيلة 3 أسابيع، تفاصيلاً مغايرة لأسباب وفاتها عن تلك التي تم إخبار العائلة بها، حيث أكدت هنادي “تعرض رحاب للتعذيب عدة مرات في الفرع الأمني وأن سبب وفاتها كان التعذيب.” من جانبها حصلت عائلة رحاب على تفاصيل مماثلة لملابسات وفاة ابنتهم من مصادر أخرى، تؤكد تناقص الرواية الرسمية حول سبب الوفاة.

قصة رحاب ليست الوحيدة في السجون السورية، حيث تمكننا من جمع وثائق خاصة بالضحايا الأربعة عشر الذين عملنا على توثيق ملابسة وفاتهم، تتضمن وثائق وشهادات وفاة صادرة عن مستشفيات حكومية عسكرية في سوريا، وتواصلنا مع عائلاتهم وذويهم في عدة محافظات سورية (دمشق وحمص وحلب ودرعا وإدلب ودير الزور). تقول الشهادات التي حصلنا عليها عن طريق عناصر عسكرية وكوادر طبية، بعضها ما يزال يعمل تحت سلطة النظام السوري، أن سبب الوفاة في توقف القلب أو توقف التنفس والجلطة القلبية، لكن الحقيقة مغايرة لطريقة وفاتهم الحقيقية وفق إفادات الأهالي، ومعتقلين سابقين عايشوا الضحايا في السجون، إضافة إلى شهادات أطباء وضباط التقينا بهم في الأردن وتركيا والسويد وألمانيا. كما قمنا بمعاينة صور جثث الضحايا التي سربها قيصر وآخرون وعرضناها على المختصين، الذين أوضحوا أن سبب الوفاة كان التعذيب وظروف الاحتجاز في السجون والأفرع الأمنية السورية. ويُدلل على انتشار عمليات تعذيب وقتل المعتقلين السوريين، تمكن “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” التي تضم مجموعة مستقلة من الخبراء القانونيين، من تهريب أكثر من 700 ألف صفحة من أرشيف أجهزة المخابرات والأمن السورية عن طريق شبكة سرية بداية العام الماضي 2017، جمعت اللجنة من خلالها أدلَّة “دقيقة” توثق انتشار عمليات تعذيب وقتل معتقلين في سجون النظام السوري.

 

كيف يموت المعتقلون؟

“غالبية الذين قضوا في السجون والمعتقلات السورية في عمر الشباب، وأسباب الموت التي تذكرها شهادات الوفاة والتقارير الطبية عادة لا تؤدي لوفاة الشباب”، هذا ما أكده وزير الصحة في الحكومة السورية المؤقتة فراس الجندي، مضيفًا: “يُصدر النظام ومؤسساته الطبية والأمنية تقاريرًا طبيةً تقول إن سبب الوفاة هو نتيجة لتوقف القلب، أو التنفس، لكن كما هو معروف أن معظم المعتقلين من الشباب، وليس من المعتاد أن يموت شاب بسبب توقف في القلب أو جلطة. ما نعرفه أن المعتقلين يتوفون نتيجة سوء التغذية والإهمال الطبي والتعذيب الشديد الذي يتعرضون له في السجون والأفرع الأمنية.”

وحتى نتمكن من الوقوف على السبب الحقيقي لوفيات المعتقلين السابقين، جمعنا شهادات وفاة لمعتقلين قضوا في السجون من داخل أفرع ومستشفيات عسكرية، بشكل حصري، لا يتم إظهار هذه الشهادات للعائلات لكن يتم الاستناد إليها في تحرير إفادة مدنية بالوفاة. كما حصلنا على صور لجثث الضحايا من تسريبات قيصر وعرضناها على طبيبين شرعيين، فضلًا عن التواصل مع أهالي معتقلين ظهرت جثث أبناءهم ضمن التسريبات أو تلقوا وثائقًا رسمية تفيد وفاتهم خلال اعتقالهم، لنتمكن فيما بعد من مطابقة هذه الشهادات مع محتجزين سابقين ومنشقين عن النظام السوري من أطباء وضباط عملوا في هذه الأفرع الأمنية والمشافي والسجون والتي كانت كلها تؤكد أن المعتقلين توفوا نتيجة التعذيب أو ظروف الاحتجاز في السجون أو الأفرع الأمنية.

مئات الصور المسربة عبر المصور العسكري المنشق “قيصر” توثق لعشرات الجثث المكدسة على الأرض، تم التعرف عليها من قبل عائلات المعتقلين عن طريق الوجوه والعلامات للأجساد، بحسب شهادات الأهالي. تتبعنا عشرات الصور والتقينا مع عائلاتهم، ومن بينهم صورة الطبيب أيهم غزول، والذي توفي قيد الاعتقال في التاسع من نوفمبر 2012 بعد مرور أربعة أيام على توقيفه داخل حرم جامعة دمشق.

 

“جروه إلى غرفة إدارية في كلية الطب البشري وكبلوا يديه وبدأوا بضربه على بطنه ورأسه واقتلعوا أظافره من قدميه ثم نقلوه إلى جهة غير معلومة”

في العاصمة الألمانية برلين التقينا السيدة مريم الحلاق، والدة الطبيب أيهم، تحدثنا معها عن ملابسات ما حدث مع الطبيب الشاب، فقالت: “اُعتقل ابني من حرم جامعة دمشق في كلية طب الأسنان، حيث كان يشرف على طلبة الصفوف الثالث والرابع بالكلية، خلال تحضيره رسالة الماجستير، وحين خروجه من المدرج مع طلبته تقدم عدة شبان من المنتمين لما يسمى “اتحاد طلبة سوريا” واعتقلوه.” تتابع السيدة: “جروه إلى غرفة إدارية في كلية الطب البشري وكبلوا يديه وبدأوا بضربه على بطنه ورأسه واقتلعوا أظافره من قدميه ثم نقلوه إلى جهة غير معلومة.” هذه المعلومات أخبرها بها طالب من كلية الآداب كان شاهداً على ما جرى كما تقول مريم: “أكد لنا أن أيهم فقد الوعي فصبوا عليه ماءً مغليًا، ثم جاءت سيارة الأمن التابعة لسرية المداهمة 215 وأخذته.”

تختم مريم حديثها:” بقيت حوالي سنة ونصف لا أصدق ما قيل لي، هل هو فعلاً استشهد أم لا؟ أين جثمانه؟ وأين دفن؟ بعدها تمكنت من الحصول على شهادة وفاة مدنية رغم إصدارها من مستشفى تشرين العسكري، توضح أن أيهم توفي نتيجة توقف في القلب والتنفس.” زودتنا والدة أيهم بشهادة الوفاة التي تسلمتها، والتي تبين أن الطبيب الشاب توفي نتيجة “سكتة قلبية” بينما تظهره الصور المسربة من قبل قيصر، الطبيب وهو جثة هامدة تحمل رقم 320 لصالح الفرع 215 وأثار التعذيب واضحة على النصف العلوي من جسده (بعد ذلك توقفت المستشفيات العسكرية عن منح عائلات المتوفين أي وثائق تفيد وفاتهم داخل مقار الاحتجاز أو المستشفيات العسكرية).

 

الفرع 215 هو جهاز أمني يتبع للمخابرات العسكريّة وهو معروف أيضاً باسم (سرية المداهمة والاقتحام)، ويقع في حي كفر سوسة بالعاصمة دمشق. وأفادت عدة شهادات لناجين من الاعتقال في الفرع 215 بحوادث يومية للموت بسبب التعذيب، تصل في بعض الأحيان إلى 25 حالة وفاة، ما يجعله الفرع رقم واحد في حالات الموت بسبب التعذيب بين جميع الأفرع الأمنية في سوريا. وفي شهادة المصور قيصر التي قدمها أمام الكونجرس الأمريكي قال: “لم أكن قد رأيت أياً من هذا مسبقًا. قبل الثورة، كان رجال النظام يعذبون المعتقلين من أجل الحصول على معلومات، لكنهم اليوم يقومون بذلك من أجل القتل. رأيت آثار شمع، ومرة رأيت علامة دائرية خاصة بالموقد الصغير – أي ذاك الذي يستخدم في صنع الشاي – وقد حرق وجه وشعر أحدهم. كان لدى بعض الأشخاص جروح غائرة، وعيون مقلوعة، وأسنان مكسورة، وآثار ضربات بكابلات كهربائية من تلك التي تستخدم لتشغيل بطاريات السيارات. كانت هناك جروح مليئة بالقيح، كما لو أنها لم تعالج منذ زمن وتعرضت للالتهاب. أحياناً، كانت الأجساد مغطاة بالدماء، لكنها دماء طازجة. كانوا قد توفوا منذ مدة قصيرة.”

 

“كانت جثث المعتقلين تصل إلينا وعليها آثار التعذيب ومنهم من يصل بعدما تمت تصفيته بطلق ناري أو طعنة سكين، لكن الضباط المتواجدين كانوا يطلبون من الطبيب المناوب كتابة تقرير طبي يُفيد بأن وفاة المعتقل طبيعية”

 

أكد على ذات التفاصيل الطبيب عبد التواب شحرور، رئيس الأطباء الشرعيين في حلب سابقًا، الذي انشق عن النظام السوري نهاية 2013 والمتواجد حاليًا في ألمانيا. وقال شحرور في إفادته لنا حول الجثث التي كانت ترسل إليه من الأفرع الأمنية والسجون: “كانت جثث المعتقلين تصل إلينا من السجون والأفرع الأمنية وعليها آثار التعذيب، ومنهم من يصل إلينا بعدما تم تصفيته بطلق ناري أو بطعنة سكين، لكن الضباط المتواجدين كانوا يطلبون من الطبيب المناوب كتابة تقرير طبي يُفيد بأن وفاة المعتقل كانت طبيعية مثل (احتشاء عضلة قلبية) أو (توقف قلب وتنفس) وهو مغاير لطريقة الوفاة الحقيقية التي كانت بسبب التعذيب وظروف الاحتجاز أو القتل المباشر.”

سَلّم النظام السوري خلال الأسابيع الماضية مئات الوثائق وشهادات وفاة طبية تفيد بأن المعتقلين قضوا نتيجة أسباب طبيعية، وقال مروان العش، أمين سر اللجنة السورية للمعتقلين والمعتقلات – وهي منظمة مستقلة غير حكومية تعمل على توثيق حالات الاعتقال وبيان مصيرهم ودعمهم وأسرهم من ألمانيا حيث يُقيم – “أن النظام السوري سلم أهالي المعتقلين شهادات وفاة طبية تفيد بوفاة المعتقل بـ(سكتة قلبية)، في محاولة لإخفاء طريقة وفاتهم الحقيقة وطمس معالم جريمة القتل الفردية والجماعية التي ينتهجها النظام السوري مع المعتقلين من خلال تعذيبهم وقتلهم في المعتقلات، وذلك بهدف حماية مسؤولي النظام وقياداته العسكرية من أي ملاحقة قانونية محتملة مستقبلًا.”

منذ يونيو الماضي بدأت دوائر الشؤون المدنية في المحافظات خارج دمشق بتقييد المعتقلين الذين توفوا في سجون النظام على أنهم موتى في شهادات وفاة رسمية، وطُلب من ذويهم القدوم لتسلم هذه الشهادات. في الغوطة الغربية بمدينة المعضمية (قرب العاصمة دمشق)، تلقت دائرة الشؤون المدنية في 25 من حزيران الماضي، قوائمًا تضم أسماء 165 مدنيًا معتقلًا في سجون النظام، من مجمل 700 معتقل من أبناء المدينة، بنسبة تقترب من ربع إجمالي عدد المعتقلين. وفي مدينة حماة وسط سوريا، تسلمت دائرة الشؤون المدنية مطلع شهر تموز الحالي، قوائم بـ 120 معتقلاً، توفوا في سجون النظام، في حين أرفقت مخابرات النظام بجانب قوائم أسماء الضحايا، عبارة تفيد بأن سبب الوفاة “أزمات قلبية حادة.” وفي الحسكة شرقي سوريا، وصلت قوائم إلى دائرة الشؤون المدنية أيضاً تضم أسماء نحو 500 معتقل، ماتوا في سجون العاصمة دمشق، في أعقاب نقلهم إليها. كما تم توثيق أسماء 68 شخصًا تسلم ذويهم وثائقًا تؤكد وفاتهم في سجون النظام من مدينة داريا.

 

“كنا نسمع أصواتًا مرعبة منذ غياب الشمس وحتى الساعة الثانية عشرة ليلاً، كنا نسمع الصراخ والصياح يأتيان من تحتنا لم يكن صوتًا طبيعيًا.. لم يكن عاديًا.. يبدو الأمر كما لو أنهم يُسلخون وهم أحياء”

 

روى لنا أحد المعتقلين السابقين عن تفاصيل عمليات الضرب المرعبة للمعتقلين في السجون والأفرع الأمنية السورية ومن بينها فرع فلسطين والمزة وسجن صيدنايا وغيرها بالقول: “كنا نسمع أصواتًا مرعبة منذ غياب الشمس وحتى الساعة الثانية عشرة ليلاً، كنا نسمع الصراخ والصياح يأتيان من تحتنا لم يكن صوتًا طبيعيًا.. لم يكن عاديًا. يبدو الأمر كما لو أنهم يُسلخون وهم أحياء.”

 

في أحد مخيمات اللجوء التركية وعلى الحدود مع سوريا يعيش ضابط سوري، هرب من عمله في الأفرع الأمنية وبحوزته وثائق وأدلة حول ما نبحث عنه، بعد محاولات واتصالات متتالية وافق الضابط المنشق فهد الحميد، على كشف قوائم بأسماء 131 معتقلاً قتلوا تحت التعذيب في كل من “مستشفى المزة العسكري” أو ما يُعرف بـ “مشفى 601” ومستشفى حرستا، مستشفى تشرين العسكري، ومستشفى المواساة. كانت هذه المستشفيات الموجودة في دمشق تُصدر شهادات وفاة مغايرة لطريقة وفاة المعتقل من خلال تقارير طبية تسلم لأهالي المعتقلين وتفيد بأن المعتقل توفي نتيجة “ألم صدري أو سكتة قلبية” بحسب ما يقول الضابط المنشق. وبعد العودة للتدقيق وقراءة كافة الوثائق الرسمية الموجودة بحوزة الضابط المنشق، اتضح وجود تقارير طبية صادرة من مستشفيات عسكرية موقعة ومختومة من الكادر الطبي، تفيد بأن المعتقلين توفوا داخل المستشفى نتيجة سكتة قلبية دون أي إشارة إلى طريقة الوفاة الحقيقية، وهو مغاير لحال الضحايا وفقاً لصور الجثث وشهادات معتقلين سابقين تؤكد أن هؤلاء قضوا تحت التعذيب وليس بسكتة قلبية.

يكشف تقرير لـ “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أرقاماً حول أعداد المعتقلين والمختفين إضافة للمتوفيين في السجون السورية، حيث وثق تقرير للشبكة مقتل 13.197 من المدنيين في سوريا بسبب التعذيب، منذ مارس 2011 وحتى يونيو 2018. ووفقًا للتقرير فإن من بين الضحايا هناك 167 طفلًا و59 سيدة، في حين لا يزال ما لا يقل عن 121،829 شخصًا قيد الاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري منذ مارس 2011، قرابة 87% منهم لدى النظام، ويُرجح حقوقين أن “يكون مصير الآلاف من الموثقين على أنهم قيد الاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري قد قتلوا تحت التعذيب و في السجون والفروع الأمنية.”

من هؤلاء الضحايا، عبد الرحمن كمون، في العقد الرابع من عمره من مدينة داريا بريف دمشق، واعتقل في الحادي والثلاثين من ديسمبر 2012 على حاجز للفرقة الرابعة التي يتولاها ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري قرب مدينة المعضمية. تقول زوجة عبد الرحمن: “زوجي المعتقل انقطعت كل أخباره بشكل كامل في 2012، ثم بدأت الأخبار تتوالى منذ بداية شهر شباط 2014 من معتقلين سابقين أفادوا بوفاته تحت التعذيب في مطار المزة العسكري. وبعد ذلك التاريخ تمكنت والدته من مراجعة مقر الشرطة العسكرية في القابون حيث أخبروها بحدوث الوفاة ولكن دون أي وثائق أو أدلة. ظل الوضع على ما هو عليه حتى أكتوبر 2014 حيث استطعنا الحصول على أغراضه الشخصية، وورقة موقعة من مستشفى تشرين العسكري، حيث كان محتجزًا في آخر أيامه، تعزي سبب الوفاة إلى توقف القلب والتنفس.”

 

الطبيب محمد زكريا النداف، 52 عامًا، وهو من أبناء مدينة الكسوة بريف دمشق والذي اعتقل مع عائلته بداية العام 2014 بتهمة ممارسة نشاط معارض، وتم الإفراج عن زوجته بعد ستة أشهر من الاعتقال بعد صفقة تبادل مع جندي أسير. بعد عام من اعتقاله يرن هاتف زوجة الطبيب محمد وبصوت منخفض يخبر المتصل السيدة أنه هناك صورة لجثة زوجها المعتقل ظهرت بين الصور المسربة. تظهر الصور آثار وعلامات تعذيب على جثة زكريا، فيما أفادت عائلته إنها تسلمت بلاغ شفهي من مشفى 601 يفيد بوفاته نتيجة “توقف قلب وتنفس.”

وفي الجزيرة السورية شرقي سوريا تلقت عائلة لاعب كرة القدم الكابتن محمود العلي، وهو لاعب الجناح الأيمن في منتخب سوريا سابقاً، بلاغًا من السجل المدني في محافظة الحسكة يُفيد بوفاة ابنهم. وأكدت عائلة اللاعب أن ابنها محمود اعتقل في العاصمة دمشق في 8 أكتوبر عام 2014، من قبل فرع أمن الدولة، وتلقوا خبر وفاته من خلال بلاغ شفهي من السجلات المدنية في المدينة. ووثقت الهيئة السورية للرياضة التابعة للمعارضة السورية عدد ضحايا قوات النظام من الرياضيين السوريين بأكثر من 390 رياضيًا منذ انطلاق الثورة في سوريا حتى نهاية نوفمبر 2016. ومن بين هؤلاء ممن قضوا في المعتقلات: بطل سوريا بسباق الدراجات أحمد لحلح، ولاعب كرة السلة في نادي الوحدة وائل وليد كاني، ولاعب كرة السلة في نادي الكرامة والجيش رودين عجك، وبطل الجمهورية في المصارعة مالك خليل الحاج حمد.

الشاب نيراز سعيد، اعتقل من قبل قوات النظام السوري من منزله في أواخر 2015. نيراز هو مصور صحفي في العقد الثالث من عمره، فلسطيني سوري من أبناء مخيم اليرموك، وثّق معاناة أهالي مخيم اليرموك خلال الحصار الذي فُرض عليهم سابقاً. عائلة الشاب قالت لمعد التحقيق إنها تسلمت بلاغاً شفهياً يفيد بوفاة ابنهم نتيجة “سكتة قلبية” ووصفت زوجة الشاب لميس الخطيب وفاة زوجها نيراز بالقول:” قتلوا نيراز. استشهد بمعتقلات النظام السوري، ماقدر إنه احكي أكتر من هيك.”

وكانت مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا، وهي مجموعة مقرها في العاصمة البريطانية لندن وتعمل على توثيق أوضاع لاجئي فلسطيني سوريا، أكدت أن 3،825 فلسطينيًا قتلوا في سجون النظام – بينهم نساء – على مدى سنوات الثورة السورية، وأن هناك نحو 1،680 معتقل محتجز في سجون النظام السوري لليوم، إضافة الى مئات المفقودين.

 

تتنافس أجهزة المخابرات السورية والأفرع الأمنية على إبراز وحشيتها في تعذيب المعتقلين

 

تتطابق الشهادة التي حصلنا عليها مع إفادات تلقيناها خلال مقابلات أجريت مع عائلات ضحايا التعذيب في معتقلات النظام السوري، والذين شكلوا “رابطة عائلات قيصر” وهي العائلات التي ظهرت صور جثث أولادهم في الصور المسربة بهدف تعريف العالم بما يحدث في معتقلات سوريا وعن الشباب الذين يقضون تحت التعذيب والتجويع والضرب المبرح.

في محاولة للتحقق من صحة الصور تمكننا من الوصول إلى طبيب شرعي كان يخدم في المستشفيات العسكرية بدمشق لأكثر من 14 سنة برتبة ضابط مقدم قبل أن يفر منذ عامين خارج الحدود. رفض الطبيب الحديث معنا مرات عدة خوفاً على سلامته، إلا أنه وبعد محاولات متكررة وبعد عرضنا عليه الصور وبعض الوثائق التي بحوزتنا من شهادات وفاة وتقارير طبية قبل الحديث معنا. يقول الطبيب في شهادته وبعد التدقيق في الصور واستناداً لخبرة طبية: “إن الجثث تعرضت لكدمات وضرب بأدوات حادة، كما أن أثار التعذيب واضحة عليها،” مشيراً أنه شاهد وعاين أكثر من ألف جثة معتقل في مشفى 601 أو ما يعرف بـ مستشفى المزة العسكري.

“تتنافس أجهزة المخابرات السورية والأفرع الامنية على إبراز وحشيتها في تعذيب المعتقلين، حيث يصل في بعض الأيام عدد المدنيين الذين يقتلون تحت التعذيب إلى ما لا يقل 15 شخص يتوفون في السجون والفروع الأمنية في اليوم الواحد،” يقول الطبيب، ويضيف: “تصل هذه الجثث إلى المشافي ومن ثم يتم إصدار شهادات وفاة مغايرة لحقيقة وفاة الموقوفين، كي يتم اخفاء طريقة الوفاة الحقيقة جراء التعذيب وظروف الاعتقال، وبالتالي يتم اخفاء طريقة الوفاة والتعذيب من خلال شهادة الوفاة التي يسلم بعضها لأهالي المعتقلين.”

 

وفي شهادة مطابقة يقول أحد الأطباء الذين عملوا في مستشفى 601 (رفض الكشف عن اسمه) خلال لقاءنا به في العاصمة الأردنية عَمان: “كان الموقوفين يأتون إلى المستشفى أحياءً ويموتون تحت التعذيب في المستشفى ايضاً. كنا نستقبل جثثاً هامدة في المستشفى كذلك.” وأوضح الطبيب أن غالبية المعتقلين سواء كانوا أحياء أو جثث فارقوا الحياة لأسباب عدة أولها الفشل الكلوي الناتج عن ضرب الموقوف على منطقة الكلى، مما يسبب فشلاً وظيفيًا في عملها وبالتالي عدم قدرة الجسم على تصريف السموم.

تحققنا من صحة الصور ومقاطع الفيديو التي حصلنا عليها بالتعاون مع الخبير المتخصص هادي الخطيب، والذي يعمل مع الأرشيف السوري على التحقق الرقمي والتحليل مفتوح المصدر منذ عام 2011، في جمع البيانات والتحقق منها والتحقيق فيها كدليل على انتهاكات حقوق الإنسان. أكد الخطيب الذي يمتلك خبرة في توثيق هذا النوع من البيانات المتعلقة بالوضع في سوريا، أن الصور التي بحوزتنا صحيحة وتعود إلى مواقع عسكرية في عدة مناطق بسوريا، وخاصة تلك الملتقطة في مرأب السيارات (واحدة من صور قيصر المسربة) وذلك عن طريق مقارنة النقاط المرجعية (المباني وتضاريس الجبال والشاحنات والسيارة البيضاء) مع صور القمر الصناعي من Google Earth، وDigitalGlobe، وكذلك من خلال مطابقتها مع الخرائط الجغرافية والعلامات الأرضية.

كما تحققنا من الصور المسربة من خلال الأزياء العسكرية وبيانات وهويات المجندين الذين ظهروا في الصور، وهم عناصر لدى قوات النظام السوري في المستشفى العسكري بالمزة، أو ما يعرف بـ “مستشفى 601” ومتخصصين بنقل الجثث وتغليفها. وتمكننا كذلك من تحديد هويات شخصين من بين العناصر العسكرية التي ظهرت في الصور، والحصول على بياناتهم كاملة، وهم مجند (ر.أ) من مدينة حمص، ومتطوع (م.أ) من مدينة حلب، وكلاهما يعملان ضمن قوات النظام السوري لصالح مستشفي المزة العسكري.

 

أين ذهبت الجثث؟
لمعرفة مصير الجثث التي ظهرت في الصور المسربة، التقينا في العاصمة السويدية ستوكهولم، بطبيب برتبة عميد، خدم في وقت سابق في مستشفى تشرين العسكري. رفض الطبيب الظهور أمام الكاميرا أو الكشف عن اسمه خوفاً على حياته، لكنه كشف لنا عن آلية التخلص من جثث المعتقلين الذين يلقون حتفهم في المعتقلات: “كان يتم تكديس الجثث الواردة إلى المستشفى من مقار الاحتجاز المختلفة في دمشق والمدن القريبة داخل برادات. بعد ذلك يتم نقلها إلى غرف بجانب المستشفيات وثم تُحمل في سيارات إلى مقابر جماعية في إحدى القطع العسكرية بمنطقة تسمى (نجها) قرب ما يسمى حقل الرمي جنوب دمشق، إضافة لمقابر قرب مطار الضمير العسكري وقرب مقرات الفرقة الرابعة بالعاصمة دمشق الواقعة بين جبل قاسيون و مدينة قدسيا.”

وبحسب شهادة “قيصر” فإن كل جثة مُرّقمة يعاينها طبيب شرعي، ثم تترك في العراء عرضة للقوارض والحشرات. وبعد أن يتزايد عدد الجثث بما يتجاوز المائتين أو الثلاثمائة، يتم جمعها وأخذها إلى أماكن مجهولة. وفي شهادة مطابقة حصلنا عليها من طبيب كان يعمل في إحدى هذه المستشفيات العسكرية بدمشق، أكد أن الطبيب الشرعي يقوم بـ “تفريز الجثث” أي تصنيفها وفق نسق محدد، ويأمر بتعبئة بعضها في أكياس وتحميلها في السيارات فوق بعضها.

تؤكد عدة شهادات متطابقة لكوادر طبية عملت في المستشفيات العسكرية إلى أن الجثث التي تصل إلى المشفى من كافة الأفرع الأمنية في دمشق، يتم تجميعها وتكديسها في حافلات تقع داخل مستشفى تشرين العسكري أو مستشفى 601 إلى أن يقوم الطبيب الشرعي بالكشف عليها وتسجيل تقرير طبي، يؤكد بموجبه أن صاحب الجثة قد فارق الحياة نتيجة جلطة دماغية، أو سكتة قلبية، ويقوم الطبيب بعد ذلك بكتابة رقم الجثة على جبين المتوفي أو صدره، وتحته رقم الفرع.

وقال ستيوارت جونز، القائم بأعمال مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى في مايو مايو 2017 أن الحكومة السورية اقامت محرقة للجثث للتخلص من السجناء في سجن صيدنايا. وقال جونز في تصريحات صحفية أن مسؤولين أمريكيين يعتقدون أن المحرقة يمكن أن تستخدم في التخلص من الجثث بسجن صيدنايا، وعرض خلال الإفادة الصحفية صوراً التقطت من الجو لما قال إنها محرقة.

ويقول حقوقيون”أنَّ النظام السوري مارس التعذيب عبر عدة مؤسسات وفي إطار واسع، وهذا يُشكل خرقاً صارخاً للقانون الدولي لحقوق الإنسان، ويرقى إلى الجرائم ضد الإنسانية. وعلى اعتبار أنها مورست بعد بدء النِّزاع المسلح الغير دولي فهي تُشكل خرقاً واضحًا للقانون الدولي الإنساني، وترقى إلى جرائم الحرب. ويُعد التعذيب جريمة بموجب القانون الدولي، ولا يمكن تبريره في أي ظروف، وتشكل ممارسته بانتظام جريمة ضد الإنسانية بحسب اتفاقية مناهضة التعذيب. وتشير تقارير لمنظمات حقوقية سورية ودولية إلى انتهاج أجهزة الأمن السورية أساليب تعذيب عديدة وغيرها من أشكال المعاملة السيئة والمهينة داخل مقار الاحتجاز والتحقيق، بما في ذلك: الضرب باستخدام الأسلاك والسياط والعصي والمواسير بما في ذلك على باطن القدمين، تعليق الضحية أو الشبح، الصعق بالكھرباء، الإعدام الوھمي، انتزاع الأظافر، واستخدام الأحماض لحرق الجلد والجسد.

من ناحيته، ينفي النظام السوري صحة التقارير الدولية والمحلية، بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في سورية ومن ضمنها ممارسات التعذيب وقتل المعتقلين. ولكن شهادات المعتقلين السابقين وعائلات الضحايا وآلاف الصور ومقاطع الفيديو المنشورة على الإنترنت تدحض الرواية الرسمية في هذا الشأن. ويرى خبراء ومطلعين أن توثيق النظام لجثامين الأشخاص المقتولين بوساطة الصور تؤكد مدى حاجته إلى هذه الصور للتأكد من تنفيذ الأجهزة الأمنية للقرارات الصادرة بحق الأشخاص المقتولين في المعتقلات، وهو ما يعني تورط سلطات أعلى من العناصر العسكرية المسؤولة عن تنفيذ هذه العمليات في إصدار الأوامر بانتهاج هذه السياسات. كما أشار مختصون جنائيون أن الصور المسربة والشهادات الطبية التي بحوزتنا هي مؤشر قوي على حقيقة أن القتل قد جرى بصورة ممنهجة ومنظمة، بموجب أوامر صادرة عن القيادة العليا للنظام السوري، وليس مجرد مخالفات فردية لقادة عسكريين ميدانيين في بعض مقار التحقيق والاحتجاز، ما يُهدد قيادات سياسية وعسكرية بالوقوع تحت طائلة القانون الدولي.

يقول المحامي إبراهيم القاسم، أحد الأعضاء المؤسسين لمجموعة ملفات قيصر، ومن فريق المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، والمختص بالتقاضي الاستراتيجي في العالم ومن هذه القضايا، القضايا الخاصة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سوريا: “حالياً لا يمكن اللجوء إلى الملاحقة القضائية أمام المحاكم السورية وذلك بسبب قصور التشريعات السورية، فهي لا تتضمن أي نص قانوني يتحدث عن جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية، ناهيك عن أن الكوادر القضائية ليس لديها الخبرة الكافي في هذا النوع من الجرائم. من المستبعد كلياً أن يقوم مرتكب الانتهاكات الأكبر –حكومة النظام السوري- بمحاسبة نفسه، وهو الذي حصن نفسه بالدستور السوري والعديد من التشريعات والقوانين التي تضمن الإفلات من العقاب، لرأس النظام وأفراد المخابرات والأمن ومن يتعاون معهم.”

ويضيف القاسم: “لا يمكننا اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية ، لأن سوريا غير منضمة لنظام روما الأساسي الخاص بهذه المحكمة، وبالتالي يجب أن تتم إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية عن طريق مجلس الأمن الدولي، وهذا لن يتم على الأقل حالياً بسبب الفيتو الروسي والصيني، اللذان سيكونان أيضاً العائق الأساسي في حال تم الحديث عن إحداث محكمة دولية خاصة بسوريا.”

واختتم القاسم حديثه بالقول: “بناء على ما تقدم يبقى الخيار الأمثل والوحيد هو اللجوء إلى المحاكم الوطنية ذات الاختصاص القضائي العالمي الشامل، والذي بموجبه يجب على الدول أن تلاحق مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في الدول التي لم يتم محاسبة مرتكبي هذه الجرائم بموجب قوانين بلادهم. تم تضييق نطاق هذا الاختصاص في العديد من الدول كإسبانيا وبلجيكا والمملكة المتحدة وغيرها من الدول بعد القضية ضد بعد المسؤولين الإسرائيليين، واشترطت دول أخرى وجود الضحية والجاني على أراضيها أو أحدهما على الأقل لمحاسبة المجرمين.” وأوضح: “وفيما يتعلق بالحالة السورية فقد تمت إقامة عدة دعاوى ضد مرتكبي هذه الانتهاكات في سوريا، وذلك أمام القضاء الألماني والنمساوي والفرنسي والإسباني والسويدي، حسب شروط كل دولة لتفعيل هذا الاختصاص العالمي. وتبقى ألمانيا وبضعة دول أخرى هي الخيار الأمثل لتفعيل هذا الاختصاص، حيث أنها لا تشترط ان يكون الجاني او الضحية من مواطنيها ولا أن تكون الجريمة قد وقعت على أراضيها، او حتى لا يشترط تواجدهم على أراضيها.”

قبل أسبوع من نشر التحقيق أصدرت اللجنة الدولية للتحقيق بشأن سوريا تقريرًا خلصت فيه إلى أن آلاف الوفيات لمعتقلين داخل سجون النظام السوري، لم تكن طبيعية. وأضافت اللجة التابعة للأمم المتحدة في التقرير أنه “وبعد سنوات من الصمت، أصدر النظام السوري في وقت سابق هذا العام، أسماء أعداد كبيرة من المعتقلين الذين زعم أنهم توفوا، ومات أغلبهم في الفترة من 2011 إلى 2014.” وقالت اللجنة الدولية للتحقيق: “من المعتقد أن أغلب الوفيات قيد الاعتقال وقعت في مراكز اعتقال تديرها أجهزة المخابرات أو الجيش السوري، لكن اللجنة لم توثق أي واقعة جرى فيها تسليم الجثامين أو المتعلقات الشخصية للمتوفين.” وتابعت اللجنة، أنه في كل الحالات تقريباً أشارت شهادات وفاة السجناء التي سلمت لأسرهم إلى أن سبب الوفاة هو “أزمة قلبية” أو “جلطة.” وتابعت اللجنة في تقريرها إنه “من حق الأسر معرفة الحقيقة عن وفاة أقاربها والتمكن من تسلم رفاتهم.”

 

المادة من المصدر ⇐ هنا