في حوالي الساعة السابعة صباحًا تم إقفال البلدة بالكامل، لتباشر القوات المحاصرة بإطلاق النار من الرشاشات الثقيلة المثبتة على الدبابات والمدرعات، بالتزامن مع اقتحام منازل المدنيين المذعورين، وانتشروا كالجراد ضمن مجموعات صغيرة تقاسمت المهام فيما بينها.
15 / تشرين أول / أكتوبر / 2018
*أحمد اليوسف
تحول الحراك السلمي في سورية منذ آذار 2011 من حراك محدود ينادي بالإصلاحات، إلى انتفاضة عارمة وشاملة تطالب بإسقاط النظام الشمولي وأركانه في كل المدن السورية جراء العنف المفرط والقمع الوحشي الذي استخدمهما النظام السوري وميليشياته ضد المتظاهرين الأبرياء.
وبالتزامن مع هذا العنف، راح النظام يروّج إشاعات تعرضه لمؤامرة كونية تحاك ضده من أعداء العروبة والوطن وحلفاء الصهيونية لضرب محور المقاومة وإسقاط الرئيس الأسد، آخر (رجل) يقف ضد المشاريع الإسرائيلية و الأمريكية، حسب ادّعائه.
وعليه، وفي صيف 2011 تحركت فرق عسكرية كاملة من من مواقعها على جبهة الجولان إلى وسط و شمال سوريا إلى حمص و حماة، وإلى إدلب، ودير الزور والمنطقة الشرقية.
وتم نشر الحواجز العسكرية في تلك المحافظات، وفي كل بلدة و قرية خرجت بها التظاهرات. وتم اعتقال الكثيرين من أبنائها على تلك الحواجز بدون أية تهم، فقط لإذلال السوريين ومنعهم من الخروج والهتاف ضد رأس النظام.
أشرف على تلك الحواجز عناصر وضباط من الأمن تمتعوا بسلطة لا محدودة، تبيح لهم اعتقال الناس وتعذيبهم وقتلهم دون محاسبة.
وربطت الحواجز الأمنية بسلسلة قيادية تراتبية تصل في نهاية الأمر إلى أعلى هرم السلطة في البلاد، (بشار الأسد)، القائد العام للجيش و القوات المسلحة.
تلك باختصار كانت الصورة التي تمثّل واقع البلاد، منذ بدء الثورة وصولاً إلى مطلع نيسان/ أبريل من العام 2012.
ريف حماة.. خزّان طائفية النظام:
لمدينة حماة وريفها وضع خاص لدى حسابات النظام الأمنية، فهي تضم تنوعاً طائفياً و مذهبياً كبيرين. ففيها السنّة والعلويون والإسماعيليون والمراشدة، إضافة إلى المسيحيين بمختلف المذاهب.
ولنا أن نتخيل مقدار اللعبة الطائفية، التي طالما برع النظام في القيام بها، لا سيما في ظل هذا التنوع الديموغرافي الكبير في حماة.
ومع دخول الجيش إلى المنطقة ونشر قواته في البلدات الثائرة ضد نظام الأسد، بدأ المسؤولون الأمنيون يرهبون أبناء الأقليات من الثورة والثوار، ناعتين المتظاهرين بالطائفية والسلفية والجماعات التكفيرية، وبأن وجود النظام وانتشار جيشه ما هو إلا لحماية الأقليات من الثوار (الإرهابيين). وانطلاقاً من ذلك، اتبع النظام في ريف حماة، ما نستطيع أن نسميه: “سياسة تخويف الجميع من الجميع”.
وإذا نظرنا إلى خارطة انتشار الجيش بريف حماة الشمالي، على سبيل المثال، نجد الحواجز العسكرية تتوزع في:
1_ كفرزيتا
2_ طيبة الإمام
3_ مورك
4_ حلفايا
5_ حصرايا
6_ الحماميات
7_ شليوط
8_ المكبات
9_ المداجن
10_ الشيخ حديد
12 _ كرناز
13 _ كفرنبودة
14_ قلعة المضيق
15 _ المصاصنة
16 _ حاجز الدير في مدينة محردة، ويعتبر مقر القيادة لكافة قوات جيش النظام بريف حماة الشمالي.
شكلت هذه الحواجز طوقًا حديديًا يفصل بين مناطق وجود السنة والعلويين بالدرجة الأولى.
وبالرغم من تمركز الآلاف من عناصر النظام وعشرات الدبابات والعربات، تواصل خروج التظاهرات المطالبة برحيل الأسد ونظامه. فشنت قوات النظام الكثير من حملات الدهم والاعتقالات، طالت مختلف أبناء الريف الشمالي لحماة، كما قامت أيضا بخطف العديد من أبناء الطوائف بغرض اتهام الثوار “المسلحين” باختطافهم لإشعال حرب طائفية تنقذ النظام من كابوس السقوط.
ومع بداية شهر آذار/ مارس 2012، كثر الحديث عن مهلة دولية، صرح بها المبعوث الأممي آنذاك “كوفي عنان”، يقوم خلالها النظام السوري بسحب قوات جيشه من مناطق المدنيين والعودة إلى الثكنات تمهيدًا لعقد مؤتمر جامع يناقش فيه الوضع في سوريا بشكل عام، ما دفع نظام الأسد إلى تفجير أزمة طائفية في المناطق ذات التنوّع المذهبي والديني في سوريا. فانطلق مسلسل المجازر في كلّ من محافظة حماة وحمص وريف دمشق.
وكانت مجزرة “اللطامنة” واحدة من بينها..
وقائع المجزرة:
نتيجة لما سبق، وبدون سابق إنذار أو تحذير، تحركت قوات النظام مدعومة بالدبابات من طراز T72 وعربات مدرعة طراز BMB، في حوالي الساعة الخامسة صبيحة يوم السبت 7/4 /2012، تتبعها شاحنات عسكرية تحمل مئات الجنود المدججين بالسلاح باتجاه بلدة اللطامنة، وسكانها النائمين، في صبيحة ذلك اليوم الربيعي.
قامت قوات الجيش بمحاصرة البلدة من كافة مداخلها: طريق كفرزيتا، طريق لطمين، طريق شليوط حلفايا، طريق طيبة الإمام، طريق الزكاة..
وبالتزامن مع ذلك، تحركت عناصر الحواجز المحيطة بالبلدة إلى داخلها، كحاجز طيبة الإمام وشليوط والمكبات والزلاقيات والعبيسي ( كفرزيتا) وحاجز حصرايا.
وفي حوالي الساعة السابعة صباحًا تم إقفال البلدة بالكامل، لتباشر القوات المحاصرة بإطلاق النار من الرشاشات الثقيلة المثبتة على الدبابات والمدرعات، بالتزامن مع اقتحام منازل المدنيين المذعورين، وانتشروا كالجراد ضمن مجموعات صغيرة تقاسمت المهام فيما بينها:
مجموعات هاجمت البيوت بعد كسر أبوابها، فأخرجوا أهلها، ثم قاموا بإطلاق النار عليهم وتصفيتهم بالكامل.
ومجموعات قامت بمهمة إحراق كل ما هو قابل للاحتراق، بواسطة رشّ مادة كيميائية بيضاء داخل المنازل ثم يشعلون النيران فيها، لترتفع ألسنة اللهب والدخان فوق سماء البلدة المنكوبة.
لم يسلم أحد من الموت، كبيراً كان أم صغيراً، نساء أم رجالاً، لم يفرق النظام بين أحد منهم.
بدأ الناس يهيمون على وجوههم بعد انتشار الخبر وسماع أصوات الرصاص، ولكن لا مفر، فالبلدة مطوّقة، وكل من حاول الخروج بسيارته هاربا تم إطلاق النار عليه وعلى من يحمله بداخلها.
إحدى السيارات الهاربة من الموت على طريق “الزكاة”، أطلقت الدبابة النار عليها من رشاشها لتردي كل من فيها وعددهم أربعة أفراد.
فما كان أمام الأهالي سوى الهرب متخفّين عبر الأراضي الزراعية المحيطة بالبلدة أفرادًا وجماعات.
أعينٌ على الحدث:
يروي “حسن” ما رآه، وعمره آنذاك 16عاماً، حين استيقظ على صراخ أمه مذعورة، فشعر بخوف شديد وسألها عن سبب الصراخ، فلم تستطع سوى أن تردد: “الجيش الجيش”.
كان إخوته الصغار يبكون بكاء شديداً ودموعهم تنهمر.
وبعد أن استجمع قواه، صعد إلى السطح، ليرى غيوم سوداء تغطي البلدة.. اللطامنة تحترق.
رأى مئات من الرجال والنساء والأطفال يهرولون في طريق واحد..
يتابع حسن: “كنت أسألهم إلى أين؟” ولكن لا أحد يجيب.
نزل مسرعًا من السطح، وحمل اخته الصغيرة بعد أن أمسك بأخيه، وصاح بأمه أن أسرعي..
سار حسن مع إخوته مع الفارين من القرية..
ومن مكان ليس ببعيد، كان يسمع صوت صرخات وإطلاق نار كثيف، وبين المشي والركض والرعب، كان حسن وعائلته يختفون بين أشجار الأراضي الزراعية متمسكين بالحياة.
قال حسن: شعرت حينها أن الجنود موجودون في كل شبر من الأرض.. كنت ألتفت كثيرًا، اعتقدت أن مجرماً من بينهم سيمسكني من كتفي ويطلق النار علي وعلى إخوتي.
“عبد الله” أحد الناجين من المجزرة، استيقظ على أصوات إطلاق النار وهرع ليعرف ماذا يجري، رأى الجنود يحرقون البلدة و يجرّون معهم أناسًا مدنيين من أبناء البلدة.
و بدون تفكير، توجّه إلى باحة البيت الخلفية، ثم أخذ يركض..
قطع الشارع، فشاهده الجنود وأطلقوا النار عليه.. لم يتوقف عن الركض رغم شعوره بألم في الساق.. لم ينظر إليها لكنه أدرك بأنه مصاب.
حين وصل عبد الله إلى أحد الحقول صار يسير ببطء، وعندما زاد النزف راح يزحف، ثم توقف ليسعفه بعض الرجال بعد توقّف المجزرة.
يقول عبد الله: حتى هذه اللحظة لا أصدق ما حدث، لقد كنت أسمع ضحكات الجنود و كأنهم يقومون بنزهة.
حصيلة المذبحة:
تم حرق عشرين شخصاً..
عائلات من آل الخروف وآل الحضيري وآل الصالح تم ذبحهم بالسكاكين.
طفلة عمرها عشرة أشهر قتلت بطلقة من بندقية “كلاشنيكوف” في صدرها مباشرة..
تم دهس جثثٍ بالعربات الثقيلة..
أحرِق أكثر من أربعين بيت و محل تجاري..
لم تبد اللطامنة أية مقاومة كونها خالية من عناصر الجيش الحر، بعكس رواية النظام التي تقول بأن البلدة تعج بالمسلحين، ولو تواجدت فصائل للجيش الحر فيها، لما تجرّأ على الدخول وارتكاب المجزرة.
وقد تم توثيق أسماء تسعة وأربعين شهيدًا قضوا في مجزرة اللطامنة وهم:
- شوقي أحمد الخاروف .
- محمد أحمد الخاروف .
- خالد أحمد الخاروف .
- علاء أحمد الخاروف .
- عبد الستار أحمد العثمان .
- كاتب محمد العثمان .
- محمود محمد العثمان .
- حمدو محمد العثمان .
- خالد كاتب المحمود .
- عبد الناصر أحمد العوض .
- أحمد صطوف الأيوب .
- صطوف أحمد الأيوب .
- صالح عبد الصالح .
- بدر صالح الصالح .
- صالح بدر الصالح .
- عبد السلام عليوي عنكر .
- أحمد عبد السلام عنكر .
- أحمد عليوي عنكر .
- نادر أحمد عنكر .
- بسام حسين منصور .
- مهدي حسين المنصور .
- ياسر إبراهيم الحمادة .
- رضا إبراهيم الحمادة .
- خالد محمد العباس .
- عبد الله حسين القدور .
- كنان حسين القدور .
- عيسى عمر العيسى .
- سيدرا محمد العيسى .
- حسيبة عبد القادر الحضيري .
- خالد عبد الناصر الصالح .
- عناد حمادو الرحمون .
- رضا عناد الرحمون .
- منذر عناد الرحمون .
- علي مخيبر الصالح .
- محمد فرج الصالح .
- خالد عبد الرزاق الصالح .
- أحمد فارس الصالح .
- إبراهيم خالد الصالح .
- بسام وليد الصالح .
- وليد عدنان الصالح .
- عبد الرحمن عادل الصالح .
- مروان عبد الرزاق الرحمون .
- أحمد عبد الرزاق الرحمون .
- حسين محمد الثلجة .
- محمد عبد اللطيف الحضيري .
- صدام محمد الحضيري .
- أحمد عبد اللطيف الحضيري .
- مجحم محمد الحضيري .
- شاهة خليل الخليل .
استمر مشهد القتل الأسدي ثلاث ساعات، وبعد أن شبع المجرمون من دماء أهل البلدة عادوا من حيث أتوا، وعاد المدنيون الفارون ليحصوا ويدفنوا عشرات الجثث المرمية في الشوارع، بينها أجساد بلا رؤوس، في قبر واحد يحمل أسماءهم. إضافة إلى ذلك، خلفت المجزرة عشرات البيوت المحروقة، وجدران نقشت عليها عبارات طائفية مقيتة.
لم يقف إجرام القتلة عند هذا الحد، بل أرسلوا وفدًا من “تلفزيون” النظام ليجري مقابلات مع الأهالي يصرّحون من خلالها أن من قام بالمجزرة هم “الإرهابيون” من عناصر الجيش الحر!
إلا أن الأهالي قاموا بطرد مراسل التلفزيون، ليرد النظام بقصف مدفعي عنيف من حواجز بلدة طيبة الإمام، طال منازل المدنيين، ليضاف إلى المجزرة تسعة شهداء آخرون وعدد كبير من الجرحى.
من وراء المجزرة؟
بعد البحث والاستقصاء توصلنا إلى حصر أسماء المسؤولين الذين أعطوا الأوامر بتحرك الجنود باتجاه اللطامنة، بالإضافة إلى أسماء المشاركين في ارتكاب المجزرة داخل البلدة:
1ـ بشار الأسد، القائد العام للجيش و القوات المسلحة، وهو المسؤول المباشر عن مجزرة اللطامنة وغيرها من مجازر الشعب السوري.
2- سهيل الحسن المعروف بـ “النمر”، العقيد في المخابرات الجوية، وكان وقتها قائد عمليات الأمن والجيش في المنطقة الوسطى التي تضم محافظتي حمص و حماة، ولا تتم أية عملية عسكرية أو أمنية إلا بأمر مباشر منه.
3- العقيد الركن صالح العبد الله، قائد حواجز النظام بريف حماة الشمالي والغربي، وله اتصال مباشر مع العقيد سهيل الحسن، وكذلك مع اللواء جميل الحسن رئيس المخابرات الجوية في سوريا.
ويتواجد صالح العبدالله في مدينة محردة، بمفرزة الأمن العسكري أو مبنى المنطقة، وهو المسؤول المباشر عن تسليح وقيادة مجاميع الشبيحة بريف حماة الغربي، ولايمكن أن تتحرك دبابة بريف حماة الشمالي بدون أمر حركة منه. وقد تحركت الدبابات باتجاه اللطامنة بأمره يوم المجزرة.
4- العقيد الركن “وائل ضمان” قائد كتيبة دبابات ملاك الفرقة التاسعة، وقد تحركت الدبابات في كل من حاجز مورك ولطمين وطيبة الإمام والعبيسي بأمر مباشر منه.
كما أن العقيد “الضمان” كان موجوداً على رأس القوات التي اقتحمت اللطامنة و ارتكبت المجزرة.
5- النقيب ( ابو جعفر): قائد حاجز “حصرايا” من ملاك الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد شقيق بشار الأسد. وأبو جعفر هذا شخصية دموية اقتحم اللطامنة من جهة “الزكاة”، وهو من دخل حي (الوادي) الذي شهد العدد الأكبر من ضحايا المجزرة.
إن مجزرة اللطامنة هي حلقة من سلسة طويلة و مؤلمة في حياة السوريين عاشوا فصولها طوال سبع سنوات و لم تنته بعد.
صحيح أن جثامين شهداء مجزرة اللطامنة ووريت الثرى، إلا أن أرواحهم ستظل تطلب الإنصاف.
يتساءل عبد الله: هل من المعقول رؤية مرتكبي المجزرة في قفص المحكمة ذات يوم؟ ثم يجيب: طبعًا، وهذا لسان حال الكثير من ذوي الشهداء الذين ينتظرون راحة أرواحهم.
هم لا يريدون الانتقام، ولكن القاتل ليس نادماً على جريمته، بل ولا يعترف بارتكابها. والأمرّ من كل ذلك هو ادّعاء النظام بأن أهل البلدة هم من قتلوا أنفسهم وأحرقوا بيوتهم!
اليوم، وبعد أكثر من سبع سنوات، لا تزال الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن تحتضنّ صور شهداء مجزرة ربيع 2012، مكتوب بأسفلها: “لم يبقَ سوى صورهم”.