حملت بعض أجساد الضحايا علامات تشويه ناتجة عن سكاكين استخدمها الجناة لكتابة عبارات ذات طابع طائفي على الجثث، وتعرضت معظم النساء والفتيات الصغيرات من الأطفال (بعضهن لايتجاوز 8 سنوات) إلى عمليات اغتصاب جماعي قبل الإجهاز عليهن ذبحًا وطعنًا بالسكاكين.
29 / أيلول / سبتمبر / 2018
أحمد طلب الناصر
تمهيد..
الطائفية وتسويق النظام:
حرص نظام الأسد منذ الأيام الأولى لانطلاقة الثورة السورية على وسم المتظاهرين السلميين بصفة “الطائفية”، وبدا ذلك جليّاً من خلال المؤتمر الصحفي الأول عقب اندلاع الاحتجاجات في درعا وبعض المناطق، لمستشارة رأس النظام “بثينة شعبان” ، في 25 آذار/ مارس 2011، لتصدّر للشعب السوري والمجتمع الدولي من خلاله أن ما يحصل من احتجاجات في المدن السورية الثائرة عبارة عن “تحريض” وحراك انعزالي طائفي متشدّد يستهدف وحدة الشعب السوري وتنوّع مكوناته؛ وكانت تقصد بادّعائها ذلك، التحريض “السنّي” ضد بقية الطوائف وعلى رأسها الطائفة “العلوية”.
قوبل ادّعاؤها بالاستهجان والسخرية من قبل المتظاهرين السوريين، الذين كان سقف مطالبهم السياسية والاجتماعية لم يتجاوز آنذاك صيحاتهم في التظاهرات: حرية.. سلمية.. وحدة وطنية.. شعب سوري واحد. وردّاً على ذلك المؤتمر، راح المتظاهرون يحملون لافتات تصف المستشارة بالكذب وبالتحريض الطائفي غير المسؤول، والذي لا أساس له داخل المجتمع السوري متعدد الطوائف والمذاهب والإثنيات العرقية منذ ما قبل الثورة السورية.
وبرغم الخيار القمعي الذي مارسه نظام الأسد في مواجهة الاحتجاجات السلمية، التي توسعت لتشمل معظم الجغرافيا السورية، إلا أن الثوار بقوا متمسكين بخيار الوحدة الوطنية، باعتباره مبدأً أصيلاً من مبادئ الثورة السورية، طيلة مرحلة الحراك السلمي، وكذلك خلال المراحل الأولى لتشكيل فصائل الجيش الحر التي ضمّت بين عناصرها العديد من أبناء الطوائف السورية؛ إلى أن بدأ النظام بحرف نهج الثورة عن مساره، ساعده بذلك بروز تنظيمات جهادية راديكالية اغتنمت فرصة انتهاكات النظام الطائفية المرتكبة بحق المدنيين العزّل، ليشكّل الخطاب (الإسلاموي) المتشدّد لتلك التنظيمات مسوّغاً لنظام الأسد في ارتكاب مجازره الطائفية بصورة أكثر وحشية، وإلقاء التهمة عليها كما حصل في العديد من الانتهاكات الدموية، ذات الطابع الطائفي، داخل المدن والبلدات السورية المختلفة.
- في البدء كانت حمص..
التنوّع الديني والطائفي داخل المجتمع الحمصي، وغالبيته من المكوّنين “العلوي” و”السنّي”؛ وتوسّط المدينة جغرافياً بين المدن السورية، ومساحة محافظتها التي تحتل المرتبة الأولى بين المحافظات السورية، وعدد سكانها الضخم؛ وحجم التظاهرات والاعتصامات التي انطلقت بشكل مبكّر قياساً بالمحافظات السورية الأخرى، وشمل أجزاء واسعة من أحيائها المركزية المكتظة بالسكان؛ بالإضافة إلى احتوائها على أهم الكليات والمدارس والثكنات العسكرية الحساسة لدى النظام السوري، ووقوعها عند بوابة المنطقة الساحلية، الخزّان الأكبر لأبناء الطائفة “العلوية” التي جاهد النظام لتحريضها وتجييش “شبّيحتها” طائفياً ضد الثوار من جميع المكونات بحجّة استهداف الأخيرين للطائفة؛ كل ذلك جعل من مدينة حمص المرشّح الأول لاستهداف الثورة من خلال تطبيق خطة “المؤامرة الطائفية” ضد النسيج السوري ونظامه المتمثل بالأسد (حامي الأقليات الدينية من الإرهاب الطائفي السنّي!).
- كرم الزيتون.. مجزرة التجييش الطائفي:
مع اندلاع المواجهات العسكرية التي شهدتها أحياء حمص المدينة، والخسائر التي مني بها جيش النظام، لا سيما في حي “بابا عمرو”، وانتقالها لاحقاً لتشمل بقية أحياء حمص القديمة؛ وضع النظام كامل ثقله في عزل مدينة حمص عن ريفها، وعن بقية المدن الثائرة التي بدأت تتحرّر تباعاً عن سيطرته، وصبّ فيها اهتمامه الأول والأخير بمعزل عن التطورات وانتصارات الثوار في المدن الأخرى، للأسباب المتعلقة بأهميتها والتي ذكرناها سابقاً.
فكرّس النظام آلته الحربية الثقيلة، المتمثلة بالمدافع والدبابات والطائرات، في استهداف المدنيين وبيوتهم في الأحياء المحررة، بالتزامن مع انقضاض عناصر “شبيحته” الطائفية على منازل المدنيين ضمن الأحياء الهادئة في المدينة؛ فكانت مجزرة حي “كرم الزيتون” و”العدوية”.. فاتحة مجازر النظام الطائفية، في 11 آذار/ مارس 2012، التي راح ضحيتها، حسب بعض النشطاء والرابطة السورية للدفاع عن حقوق الإنسان([1]) “أكثر من 53 طفلًا و امرأة تم قتلهم جمعياً بالسكاكين ورميهم في الطريق”.
وذكرت مصادر أخرى([2]) أن “87 شخصًا معظمهم من النساء والأطفال في حيي كرم الزيتون والعدوية، مؤكدة أن معظم الجثث عليها آثار تعذيب، وبعضها أحرق أصحابها وهم أحياء بينما ذبحت أخرى بالسكين”.
ويقع حي كرم الزيتون شرق حمص، بجانب حي “باب الدريب”، وخلف “باب السباع”، وبالقرب من حيي “عكرمة” و”كرم اللوز” اللذين تسكنهما غالبية من أبناء الطائفة “العلوية”.
ولإتمام خطة النظام في التجييش الطائفي ودفعه قُدماً للهيمنة على صورة الصراع، تم ارتكاب مجزرة في اليوم التالي داخل الحي الأخير –كرم اللوز- ذي الغالبية العلوية، والواقع كاملاً تحت حراسة وحماية جيش النظام والشبيحة، ليدّعي إعلام النظام الرسمي بأن “مجموعات إرهابية مسلحة هي من ارتكبت المجزرة، وأودت بحياة 15 شخصًا بينهم امرأة وأطفالها الأربعة([3])“.
وعلى الرغم من الشكوك المحيطة بارتكاب عناصر النظام للمجزرة، إلا أن أهالي كرم اللوز لم يتجرؤوا على توجيه أصابع الاتهام نحوه بشكل مباشر، خوفاً من استمرار المجزرة بحقهم من جهة، ولتهديدهم من قبل النظام بالثوار نتيجة المجزرة التي ارتكبها شبيحة الحي بحق أهالي كرم الزيتون من جهة ثانية.
وبتلك الطريقة، تمكّن النظام من إخضاع أهالي الحي وبقية الأحياء ذات الغالبية العلوية؛ إذ استمر بارتكاب مجازر وتفجيرات داخل مناطق سيطرته، مثال ما حصل في حيي “عكرمة” و”الزهراء” لاحقاً؛ واتهام الثوار بالضلوع بها، كلما رغب بزيادة الضغط والترهيب على مواليه، أو تعرّض لهزيمة عسكرية ما، أو لضغوطات دولية جراء انتهاكات جديدة يرتكبها بحق أهالي المناطق الثائرة.
- اغتصابٌ وذبحٌ وحفرٌ على الأجساد:
يصف أحد الشهود تفاصيل مجزرة كرم الزيتون وما سبقها، فيذكر أن القصف على منازل الحي استمر لثلاثة أيام، ثم: “في صباح يوم الأحد 11 آذار توقفت الأصوات. مجموعات من الجيش دخلت الحيّ وأعطت السكان الأمان شريطة أن يلزموا بيوتهم. فأحس المدنيون أن محنتهم قد انتهت. لم يكن أحدٌ من السكان يعتقد أن طلب الجيش ذاك كان تمهيداً لدخول “الشبّيحة” من الأحياء المجاورة، حيث ستصلنا الصور في اليوم التالي لجثث أطفال ونساء ورجال مذبوحين جنباً إلى جنب. عائلات بكاملها قضت”([4]).
حملت بعض أجساد الضحايا علامات تشويه ناتجة عن سكاكين استخدمها الجناة لكتابة عبارات ذات طابع طائفي على الجثث، وتعرضت معظم النساء والفتيات الصغيرات من الأطفال (بعضهن لايتجاوز 8 سنوات) إلى عمليات اغتصاب جماعي قبل الإجهاز عليهن ذبحًا وطعنًا بالسكاكين.
وكان عدد النساء اللائي قضين بالمجزرة 23 امرأة، بالإضافة لـ 28 طفلاً، و6 رجال، كما تم تأكيد وجود حالات اغتصاب في الشوارع، وتعرية نساء في إحدى الساحات، فيما بقي العدد النهائي للضحايا مفتوحاً، مع وجود جثث لم تخلَ من بيوت أحرقها الشبيحة([5]).
- “بالسكين”.. عائلات بأكملها:
لم يتمكن النشطاء من حصر جميع أسماء ضحايا المجزرة بسبب حرق معظم الجثث وتفسّخ الآخر، وهذه هي الأسماء التي استطاعت بعض اللجان الحقوقية الحصول عليها:
أبو عدنان الأسعد وولداه أدهم وحافظ ، طلعت مصطفى عابد (23 سنة) ، السيدة إيناس دوغنجي، الطفلان عبد الرحمن وعبد الله دوغنجي، السيدة حنان السقا والدة آل الباردودي، محمد خير بارودي، بشار البارودي (طفل- 12 سنة)، عبد الرحمن البارودي (طفل)، أسماء البارودي (طفلة) ، خالد البارودي (طفل)، ميادة بهلوان /والدة الطفل أحمد البارودي، عادل البارودي / والد الطفل أحمد البارودي، أحمد البارودي (طفل) ، السيدة قمر رجوب، السيدة كوثر بهادر والدة عادل البارودي ومحمد خير البارودي. السيدة أم زينب الفرا. أحمد حصرية، أحمد سعد الدين، محمد الحسن الفلسطيني، علي الحسن الفلسطيني، عبد الرزاق الحسن الفلسطيني، لطفي الحسن الفلسطيني، السيدة عائشة عبارة، مروان خالد عجاج، خالد الفقش، ياسر محمد عطفة، ناصر الحسن (38 سنة) ، ضياء القصاب من باب الدريب (25 سنة) وطفلته، لورنس حسن آغا (طفل) وأخوه طه حسن آغا (طفل)، زينة حسن آغا ، جمال حسن آغا، جثة امرأة مجهولة، جثة رجل محترق بالكامل لم يتم التعرف عليه. وتوجد عائلات لم يتم تمييز أسماء جثثها حتى الآن([6]).
ختاماً..
أدرك النظام جيداً مدى الأثر الطائفي المقيت الذي سيصيب أهالي الضحايا بمجرد رؤيتهم لتلك الكتابات محفورة على أجساد أبنائهم العارية؛ كما ويعلم جيداً حجم ردود الفعل الانتقامية مستقبلاً من قبل بعض الثوار، ما ينعكس إيجاباً على خطّته التحريضية ضدهم أمام مواليه من جهة، وأمام المجتمع الدولي من جهة أخرى؛ الشيء الذي دفع بعض أطراف الجهة الأخيرة إلى إطلاق مسمى الحرب “الأهلية” أو “الطائفية” على حالة الثورة السورية بدل المطالبة بمحاسبة نظام الأسد على جرائمه ضد الإنسانية، والتي أدّت إلى استعار نار الحقد الطائفي والمذهبي وفتحت الباب واسعاً أمام الميليشيات الطائفية، كحزب الله والميليشيات العراقية والإيرانية، للمشاركة في قتل السوريين تحت ذريعة الدفاع عن الطائفة وحماية مقدساتها من (إرهاب) الشعب السوري! ولا نستبعد مشاركة تلك الميليشيات أصلاً في مذبحة كرم الزيتون كما شاركوا لاحقاً في مجزرة “الجورة والقصور” بديرالزور، ومجزرة “الحولة” و”القصير” و”النبك” و”البيضا”..
وما يجمع ضحايا كرم الزيتون بضحايا المجازر الأخيرة هو أنهم قضوا نحبهم ذبحاً وحرقاً.. ودون محاسبة القتلة!
مراجع:
[1] – زمان الوصل، جزء من مجزرة كرم الزيتون، 12/3/ 2012
[2] – الجزيرة نت، دعوة لإحالة مجزرة كرم الزيتون إلى لاهاي، 12/3/2012
[3] – موقع اليوم السابع (نقلاً عن وكالة سانا السورية)، خبر بعنوان “مجزرة جديدة في حي كرم اللوز..” 14/3/2012
[4] – مقالة للكاتب “مالك داغستاني” بعنوان “مفردات المجزرة السورية “كرم الزيتون”، موقع تلفزيون سوريا
[5] – زمان الوصل، المرجع السابق.
[6] – اللجنة السورية لحقوق الإنسان، أسماء بعض ضحايا المجزرة المروعة في كرم الزيتون والعدوية، 13/3/ 2012
.
.