تذكر أنها شاهدت شابًا ضرب بآلة حادة في فخذيه وأسفل ساقيه، كانت عظامه ظاهرة من خلال هذا التقطيع.. كان يئن بألم، فقام فاطر بالدعس فوق جراحه، إلا أن الأنين بقي مستمراً بصوت خافت دون أن يعلو.. وقتها أدركت سمر بأنه يحتضر
16 / تشرين ثاني / نوفمبر / 2018
*أجرى اللقاء: أحمد اليوسف – مع العدالة
يتم تطبيق حجز الحرية بحق شخصٍ ما، كعقوبة رادعة له، في حال ثبوت ارتكابه جريمة ضد الغير، أشخاصاً كانوا أم ممتلكات عامة. ويتم ذلك وفقاً لآلية القضاء المعروفة في جميع دول الأرض، من متابعة، وتحقق، وتوكيل محامٍ للدفاع، والعرض على قاضٍ يطلق الحكم طبقاً لمواد القانون.. إلخ. طبعاً هذا ما يحصل في ظل الأنظمة الخاضعة لسلطة القانون، وليس في ظل نظام الأسد.
فمجرد الخروج في تظاهرة تطالب بالحرية والكرامة، ستودي بصاحبها حتمًا إلى الهلاك، بدءاً من الاعتقال في غياهب الأقبية المظلمة، وتعرضه لأنواع تعذيب لا تخطر على بال بشر، وصولاً إلى فقدان الحياة في نهاية المطاف.
وبعد انتشار رقعة الاحتجاجات، التي تطورت فيما بعد إلى حالة الثورة العارمة، لم يوفّر النظام السوري جهداً لقمعها بكل ما أوتي من وحشية، مستخدماً كافة أشكال العنف؛ فاعتقل وقتل وشرد ولاحق كل من رفع صوته منادياً بالحرية والعدالة داخل المدن والبلدات الثائرة.
- “السلميّة”.. المدينة التي لم تَسْلم!
مدينة “السلمية” الواقعة شرقي مدينة حماة، حالها حال أخواتها من المدن والبلدات السورية التي ثارت ضد نظام الأسد، الشمولي والقمعي والطائفي؛ فقد تعرضت، خلال العقود الخمسة الأخيرة، لأشكال الظلم والتنكيل طالت قامات وطنية كبيرة أنجبتها هذه المدينة.
وأثناء الثورة، أثبتت السلمية بأنها اسمٌ على مسمى، إذ كان حراك المدينة سلميًا بحتًا؛ ولم يذكر أن حمل أبناؤها السلاح، كما لم يتم تسجيل ميل ثائريها لوسائل العنف أو الصدامات المباشرة مع أجهزة الأمن كما حصل في معظم المدن السورية الثائرة.
قوبل أبناء المدينة بوحشية من قبل عناصر أمن النظام، فاعتقل المئات من شبابها وتعرضوا للتعذيب والتنكيل، وتم التضييق بشدّة على مواطنيها خشية امتداد الاحتجاجات إليها، لا سيما وأنها مؤهلة تاريخياً وسياسياً لمناهضة نظام الأسد.
ولسلمية خصوصية شديدة لدى النظام، فهي ذات أغلبية من أبناء الطائفة الإسماعيلية، التي عانت الأمرّين خلال حكم عائلة الأسد، ونالت نصيباً وافراً من التهميش والإهمال الخدماتي والمعيشي ما دفع معظم شبانها لمغادرتها والتوجّه للعيش داخل المدن الكبرى، وإلى خارج البلاد.
وما أراده نظام بشار هو كتم صوت هذه الطائفة وإبعادها عن الحراك، وتدجينها لحسابه؛ فعمل على استغلال الوضع المادي المتردّي، من خلال إغراء مئات الشباب بالمال، وتمكن من تجنيدهم في صفوف (الدفاع الوطني) وهي، كما يعلم الجميع، ميليشيات مسلحة شبه حكومية تقوم بتنفيذ أوامر القيادات الأمنية والعسكرية ضد أبناء الشعب السوري الثائر.
- ليلة القبض على “سمر”:
عشية الذكرى الثانية للثورة كانت “سمر” مشغولة مع بعض أصدقائها الثوار بالإعداد لمظاهرة في مدينة السلمية، فراحت تعدّ الأعلام طوال اليوم السابق للتظاهرة داخل شقتها، وتخطّ مع أصدقائها اللافتات بخطوط مختلفة. وبحسها الأنثوي الثوري اهتمت بأدق التفاصيل كي يكون عملها مبدعًا.
وعند المساء، انتهى الجميع من ترتيبات مظاهرة الغد، فغادروا الشقة نحو منازلهم.
كانت ليلة هادئة من ليالي آذار، ولم يخطر ببال سمر أن هذا الليل الربيعي سينقلب إلى ليلة سوداء مظلمة مليئة بالكوابيس.
بقي في الشقة شاب صغير، يلملم الأوراق ويرتب الغرفة. وما هي إلا دقائق قليلة حتى طرق الباب، فظنت سمر أن الزائر أحد الأصدقاء، كان قد نسي شيئًا وعاد ليأخذه.
فتحت الباب، وإذ بأربعة رجال مسلحين ببنادق ويرتدون بزّات عسكرية.. دخلوا بسرعة إلى الشقة.. ووقف أحدهم أمامها. قال بسخرية: ثائرة حرة…! ثم راح يشتمها بأقذع الألفاظ.
بقيت سمر محافظة على رباطة جأشها طالبة منه الالتزام بالأدب.
سألتهم عمن يكونون فأجابوها بأنهم من (الدفاع الوطني).. وما هي لحظات حتى انضم المزيد من المسلحين إلى رفاقهم في الشقة وأخذوا بضرب الشاب الصغير ضربًا عنيفاً، ثم طرحوه أرضًا وبدأوا الدعس عليه وهو يصرخ من شدة الألم.
قاموا بعدها بتفتيش الشقة ونهب كافة محتوياتها من حواسيب و طابعات و أعلام ولافتات وجوالات و كاميرات تصوير.
باشروا بعدها بتكسير أثاث المنزل بالكامل ولم يسلم من همجيتهم أي شيء. كانت سمر أثناء ذلك تنظر إليهم وهم يسرقون مصاغها الذهبي ومدخراتها المالية. ثم اقتادوها مع الشاب الذي غاب عن الوعي من كثرة الضرب إلى مركز الدفاع الوطني في المدينة.
وهناك، تم ربط يديها بقوة و(تطميش) عينيها كي لا تتعرف على المكان.. ثم راح العناصر يسألونها عن أمور تتعلق بهويتها وتوجهها.
كانت سمر تجيب وسط سماع أصوات تعذيب في الغرفة المجاورة، وربما ليست غرفة واحدة بل عدة غرف يتم فيها تعذيب أشخاص تم القبض عليهم لاشتراكهم في المظاهرات.
استطاعت تمييز صوت أخيها يصرخ من الضرب الشديد، فعرفت وقتها أن أخيها قد تم اعتقاله معها.
وضعوها في غرفة لوحدها حتى الصباح؛ لم تستطع النوم ولو لساعة، فالأفكار المرعبة حول ما ينتظرها تجول في خاطرها.
وفي الصباح دخل عدة رجال الغرفة، وقاموا بعصب عينيها مرة أخرى، ثم صحبوها بواسطة (ميكرو باص) يحوي العديد من الرجال المدنيين، إلى مدينة “حماة”.
كان الطريق طويلاً والجو مرعباً. لم تشعر سمر أن هذا الطريق سينتهي مطلقاً.. وراحت تفكّر بأن الهدف لن يكون مدينة حماة، لا سيما وأن المركبة قد تجاوزت حدود المدينة..
وفي نهاية المطاف، توقفت المركبة بمنطقة في أقصى غرب المدينة، تدعى ( دير شميل)، كانت قد سمعت من قبل أن هناك معتقلًا سريًا في معسكرٍ تابع لـ(شبيبة الثورة)، إحدى المنظمات التي تم تأسيسها أثناء حكم الأسد الأب لـ (أدلجة) جيل الشباب وتجنيدهم في صفوف حزب البعث.
شعرت سمر بالخوف عندما رأت مئات المسلحين والعربات العسكرية في المعسكر. أمسك بها رجل واقتادها إلى داخل صالة كبيرة كانت أغلب الظن مطعماً لهؤلاء ( الشبيحة)، ومن هذه الصالة صعدوا في درج إلى طابق أعلى يحوي ممراً يفصل بين غرف متقابلة.
كان الممر طويلاً، وعرضه حوالي مترين.. صعقت سمر لهول المشهد الذي رأته في ذلك الممر؛ كان مليئاً بالمعتقلين، أجسادهم مشوهة، والدماء تكاد تخفي معالم وجوههم؛ يرافق ذلك المشهد صراخ لأشخاص يتم تعذيبهم داخل الغرف.. شعرت سمر أنها في فيلم رعب حقيقي.
كان الرجل الذي يقتاد سمر يقوم بضرب المعتقلين ليفسحوا الطريق للعبور، وكلما ضربهم كانت سمر تسمع أنين هؤلاء المساكين شبه العراة.. لم تسمع صراخاً لهم لأنهم لم يملكوا قوة للصراخ، كانوا أقرب إلى الموت منه إلى الحياة.
دخلا في نهاية الممر إلى غرفة، تم عصب عينيها مرة أخرى، فشعرت أن شخصاً آخر دخل الغرفة، ثم راح يصرخ ويشتم سمر بشرفها وأهلها وينعتها بالخائنة.
بعد ذلك دخل شخص آخر أمر المحقق بنزع العصابة عن عينيها وكمّ فمها بدل ذلك، كي لا يسمع صراخها.
وبدون أي شعور بالإنسانية بدأ الثلاثة بضربها ضربًا لا يمت لأدنى درجات الإنسانية بصلّة.
كل رجل منهم كان يحمل كبلًا غليظًا يهوي به على جسد سمر. وعندما كانت تقع على الأرض يقومون بركلها بأرجلهم بكل ما أوتوا من قوة؛ وتذكر أنها غابت عن الوعي أكثر مرات عديدة من شدة العذاب، لكنهم في كل مرة تفقد وعيها، كانوا يرشون الماء البارد عليها، فتصحو ويتابعون وحشيتهم.
تمنت سمر وبشدة أن يتوقف قلبها.. أرادت الموت لحظتها، لم تصدق أنها طيلة فترة حياتها كانت تعيش في بلد واحد مع هؤلاء الوحوش.
فتحت سمر عينيها فوجدت نفسها وحيدة في غرفة كبيرة كانت كل نقطة في جسمها تضج بالألم.
كانت ملقاة على ظهرها، لم تكن تستطيع الحركة فقط بالكاد تستطيع أن تفتح عينيها و تجول بنظرها في الغرفة.
قرأت عبارة واحدة كتبت عدة مرات بالدم هي (حرية) وكتبوها أيضاً بالإنكليزية ( freedom).. أرض الغرفة مليئة بالدماء.. بعض الدماء قديمة وبعضها حديث العهد.
وأيضًا كانت دماء سمر النازفة تسيل على أرض تلك الغرفة.
كانت الشمس قد بدأت تغيب والجو يزداد برودة، وهي لم تشرب الماء أو تتناول الطعام منذ أكثر من يوم كامل. فجأة دخل ثلاثة رجال إلى الغرفة.. سحبوها إلى مكان آخر يوجد فيه برميل مليء بالماء.
رموا سمر في البرميل وبدأوا بإغراقها، وكلما شارفت على الاختناق، كانوا يرفعون رأسها حتى تلتقط ما بقي من أنفاسها؛ وفي اللحظة التي يرفعون رأسها يقومون بضربها على رأسها وجسدها بالكبل، تم تكرار هذه العملية عشرات المرات!
وفي كل مرة كانت سمر تتمنى أن تفشل في التقاط أنفاسها حتى تنتهي من هذا العذاب، لكن الحياة لا ترضى أن تفارقها.
رفعوا جسدها المنهك النازف من البرميل ثم قاموا بصلبها على عمود أخذ شكل الصليب، كان الهواء باردًا وثيابها مبللة بالماء.. كل جسمها كان يرتجف، ولم يقف الأمر عند ذلك، فقد تابع هؤلاء المتوحشون ضربها بكل قوة بالسياط من رأسها حتى أسفل قدميها.
في تلك اللحظة لم تعد سمر تقوى على الصراخ. بدأت تبحث بداخلها عن الصرخة الأخيرة التي ستريح روحها من هذا الجسد الذي بدا عاجزًا عن احتمال كل هذا الألم.
أغمي عليها ولم تصحُ إلا وهي ممددة في نفس الغرفة التي اقتادوها منها.
بعد أقل من ساعة، دخل إلى الغرفة رجل يرتدي بذلة أنيقة.. نادى أحد الحراس فقام بتعصيب عينيها وفمها واقتادها إلى خارج المبنى.
بعد أن استمر المسير لأكثر من ربع ساعة، شعرت سمر بخوف شديد لكونها امرأة و يملك هؤلاء الشبيحة أساليب تؤذي الإنسان أكثر من الضرب والتعذيب.
دخلوا إلى غرفة وجلست على كرسي ثم نزعوا العصابة لترى مكتبًا فارهاً يجلس وراءه شخص كانت قد شاهدته في إحدى الفيديوهات بحكم عملها كناشطة ثورية..
إنه العميد “فضل الله ميكائيل” رئيس معتقل ( دير شميل)، وهو ضابط في المخابرات الجوية..
أما الرجل الذي يرتدي البذلة الرسمية فكان يدعى “فاطر إبراهيم” رئيس قسم التحقيق في دير شميل
قال فضل الله: اعطوني جوال الناشطة حتى نرى ما فيه..
قام بفتح جوال سمر وبدأ باستعراض الأغاني، وجميعها كانت أغانٍ ثورية ضد نظام الأسد وتدعو إلى إسقاطه، ومن بينها أغاني “إبراهيم القاشوش” الذي انتزع حنجرته النظام ورمى جثته في “العاصي”.
ابتسم العميد ابتسامة خبيثة وقال: مالك وما لهذه الأفعال؟ لماذا لا تهتمين بحياتك؟ الحياة جميلة.
ثم قال لها: أنا لا يهمني ما تفعلين لكن انظري إلى هؤلاء الشباب.. هم غاضبون منك!
نظرت سمر إلى يمينها فرأت ثلاثة شباب مسلحين وإلى يسارها أيضا ثلاثة.. كانت نظراتهم تقطر غيظًا وغضبًا. ثم راح العميد يشرح لها ما يستطيع هؤلاء فعله. ومجرد تخيل ما يستطيع هؤلاء المجرمون فعله كان يثير الرعب والخوف في نفسها.
قال لها : هل تعلمين أنك مدللة هنا؟ أنت مسجونة في قسم الرجال، هل تريدين الذهاب إلى قسم النساء؟ ثم ضحك بخبث.
أمر العميد بعدها بإخراج سمر من الغرفة وإعادتها إلى المبنى الذي كانت فيه.
دخل أربعة من المجموعة التي شاهدتها في مكتب العميد فضل الله، ثم بدأت حفلة من التعذيب (السريالي) لينتهك كل نقطة في جسدها وروحها.. فأظهروا كل البهيمية التي يتمتعون بها لتنال من إنسانية وكرامة سمر.
استمرت رحلة العذاب لساعات طويلة.. ربما ثلاث أو أربع ساعات. ولا تذكر سمر متى ذهب القتلة لأنها لم تصحُ إلا في اليوم التالي.
فتحت عينيها على صراخ التعذيب.. ولا صراخ في دير شميل يعلو فوق صراخ المعذبين.
عند الظهيرة جاؤوا بوجبة طعام، وكانت عبارة عن قطعة بطاطا مسلوقة رموها على أرض الغرفة فوق الدماء.. لكن، وبعد ثلاثة أيام من الجوع كان لابد من أكلها.
- مشاهدات داخل زنازين الموت:
في فترة بعد الظهيرة دخل فاطر إبراهيم وأمر باقتياد سمر إلى إحدى الزنازين. كانت مليئة بالشباب من بينهم العديد من المسنين، وكانوا أشباه عراة..
تذكر أنها شاهدت شابًا ضرب بآلة حادة في فخذيه وأسفل ساقيه، كانت عظامه ظاهرة من خلال هذا التقطيع.. كان يئن بألم، فقام فاطر بالدعس فوق جراحه، إلا أن الأنين بقي مستمراً بصوت خافت دون أن يعلو.. وقتها أدركت سمر بأنه يحتضر.
اليوم، وبعد مرور تلك السنوات، لا تستطيع سمر نسيان وجه ذلك الشاب، ولم تنس أنينه الذي ما يزال يحفر ذاكرتها. كان فاطر يقول لها: نستطيع أن نفعل بك أكثر من هذا!
رأت أيضاً شابًا قاموا بحرقه بواسطة مدفأة كهربائية كما دلّت الخطوط المحفورة على جسده. كان الجسد محروقاً على دفعات متتالية حتى اهترأ الجلد واللحم..
لم تكن تعلم إن كان الشاب ميتًا أو على قيد الحياة، فلم يكن يتحرك، ولم تسمع له صوتاً. مازالت تتذكر لون جسده الأسود من شدة الحرق.
شاهدت شابًا آخر قاموا بتقطيع أصابعه، وربما في فترات متتالية وليس دفعة واحدة؛ كان شابًا يافعًا لم يبلغ العشرين.
في إحدى ليالي سجنها سمعت صوت صراخ، كانت سمر تعرف صاحبه؛ هو واحد من شباب مدينتها، وهو من الذين عملوا في إدخال المواد الطبية إلى أحياء حمص المحاصرة.
وضعوا لهذا المسكين الكثير من (السرنك) والأدوية في “مؤخرته”؛ كان ما يزال على قيد الحياة عندما أطلق صرخته الأخيرة.. وكانت عبارة عن شتيمة لبشار الأسد، أثلجت صدر كل من سمعها في المعتقل.. أطلقها ثم التحق بشهداء التعذيب.
وفي إحدى المرات، سمعت سمر أحد الجلادين يقول للضابط المسؤول: سيدي.. لقد قمنا بوضع كل الفلاشات في “مؤخرة” الناشط (فلان)..
قال له الضابط : وهل فطس؟
أجاب الجلاد : نعم سيدي فطس..
حاولت سمر كثيراً أن تتذكر اسم ذلك الناشط لكنها لم تستطع..
ذات يوم، أفصح لها أحد المعتقلين القديمين بأن من يموت ينزلونه إلى قبو تحت المبنى حيث يتم نقل الجثث بشكل جماعي إلى مكان مجهول.
ومما رأته أيضاً كان شابًا قد تم تحطيم عظام ساقيه بالكامل، بدت ساقاه أشبه بالجثة المتصلة بجسده المحتضر. كان يسند ظهره على الحائط وهو ينظر نحو ساقيه المرمية أمامه وهي مهشّمة بالكامل.
وتوجد الكثير من المشاهد المرعبة التي لم تستطع تذكرها، وربما هي تقصّدت عدم العودة لتذكّرها أملاً في طرد تلك الكوابيس الموحشة من جوفها.
- أسماء بوجوه قبيحة:
خلال رحلة عذاب سمر من منزلها إلى معتقل دير شميل استطاعت معرفة أسماء بعض المسؤولين عن هذه الجرائم البربرية وهم:
1_ العميد فضل الله ميكائيل :
ضابط في المخابرات الجوية من أبناء بلدة “الربيعة” التابعة لحماة، وهو من أسس معتقل دير شميل السرّي، الذي كان الهدف من تأسيسه تأجيج الشعور الطائفي. وكل جريمة تم ارتكابها في هذا المعتقل تمت بأمر من فضل الله ميكائيل بصورة مباشرة.
2_ فاطر إبراهيم: ضابط في المخابرات الجوية ورئيس قسم التحقيق في معتقل دير شميل؛ يعتبر اليد اليمنى لفضل ميكائيل والرجل الثاني في ترتيب الإجرام. يعمل حاليًا في محكمة الإرهاب بدمشق.
3_ موفق ونوس: ضابط في المخابرات الجوية، يعمل محققا في المعتقل، وهو من عذب وأشرف على تعذيب مئات المعتقلين و بينهم سمر؛ بل وقام بابتزازها ماليًا بعد الإفراج عنها، إذ أجبرها على دفع مبلغ مالي، وقدره مئة ألف ليرة سورية شهرياً، وإلا سيعود لاعتقالها ثانية.
ولعل أكثر ما يثير الحزن والاستهجان يتمثل في أن هذا المجرم، موفق ونوس، ورغم ارتكابه لكل تلك الجرائم، يعيش حاليًا في ألمانيا بعد حصوله على اللجوء السياسي فيها!
4_ المحقق أحمد الأحمد : محقق أيضاً في المعتقل، ويتبع لإدارة المخابرات الجوية، وهو من مدينة جبلة التابعة لمحافظة اللاذقية. قام بتصفية الكثير من المعتقلين في دير شميل.
5_ الضابط محسن (كنيته مجهولة لسمر): ضابط في المخابرات الجوية، يعمل محققًا أيضاً، وهو مسؤول عن الكثير من عمليات الخطف التي طالت مدنيين من طوائف أخرى بهدف قتلهم، لتأجيج الاحتقان الطائفي.. بأوامر مباشرة من فضل الله ميكائيل.
6_ أبو بشار ورد (اسمه الصريح مجهول أيضاً): أحد عناصر الدفاع الوطني في مدينة سلمية، ارتبط اسمه بعمليات اعتقال طالت ناشطين و مثقفين و تعذيبهم.
7_ علي وردة: أحد منتسبي ميليشيا الدفاع الوطني في مدينة سلمية. قام بقمع المظاهرات وقاد عمليات دهم واعتقال لكثير من ناشطي السلمية.
والحال، فقد بقيت سمر خمسة أيام في الغرفة المنفردة، وكانت جلسات التعذيب تتم بمعدل جلستين في اليوم طيلة تلك الأيام. تم نقلها بعد ذلك إلى غرفة أخرى فيها معتقلين ذكور، وكانت سمر المرأة الوحيدة بينهم.
“لم تتجاوز الأحاديث التي كانت تتم بين أولئك المعتقلين مواضيع التعذيب والموت” تقول سمر، وتتابع: “ولم يكونوا يملكون أي أمل بالخروج من ذلك الجحيم”.
كلما جاءت فرقة التعذيب لتأخذ أحدهم، يفقد الباقون الأمل في رؤيته ثانية؛ وكثيرا ما صدق حدسهم، فالعديد منهم خرجوا دون عودة!
كان أغلب المعتقلين من المدنيين الذين لم يشاركوا بالحراك الثوري، وإنما تم اعتقالهم على حواجز تابعة للجيش أو الدفاع الوطني (الشبيحة)، وكان الهدف من ذلك إما لطلب فدية من أهلهم أو لإثارة النزعة الطائفية في المنطقة، وهذا ما كان يعمل عليه النظام السوري منذ اليوم الأول للحراك الشعبي السلمي في السلمية، وفي جميع أرجاء سوريا.
بعد مرور ثمانية عشر يوماً من الاعتقال، دخل أحد العناصر، وبعد تكبيل يدي سمر قام بجرّها خارج المبنى.. لتفاجأ بتواجد ما يقارب عشرين شاباً، كان فضل ميكائيل قد جمعهم، ثم راح يتحدث بمجرد انضمام سمر إليهم، فأخذ يعدد مناقب حافظ الأسد وابنه بشار، وعظمتهما، وكيف أن المعتقلين خونة للوطن.
وما إن خلُص ميكائيل من خطابه (الوطني الحماسي) حتى صاح السجان بالمجتمعين أن اهتفوا بحياة الرئيس؛ وبانكسار منقطع النظير راحوا يصيحون: “عاش الأسد.. عاش الأسد”.
بعد رحلة الرعب تلك، في (رحاب) مسلخ دير شميل، تم إخراج سمر من المعتقل وإعادتها إلى سلمية؛ لتتابع رحلة التهديد والابتزاز التي ذكرناها آنفاً، ما دعاها في نهاية الأمر إلى حزم أمرها ومغادرة (سوريا الأسد).
هربت سمر خارج البلاد لتحطّ الرحال، بعد رحلة عذاب ثالثة، في دولة أوروبية، مثلها مثل مئات الآلاف من السوريين، إلا أنها لا تزال تعاني آثار ذلك الاعتقال المؤلم حتى اللحظة؛ لا سيما وأنها اضطرت لإجراء العديد من العمليات الجراحية والتجميلية لترمم ما تحطّم من جسدها جراء التعذيب؛ إلا أن أثر الحطام النفسي لا يمكن ترميمه مهما طالت السنون.
وفي مغتربها القسري، تؤكّد سمر مراراً وتكراراً على أن الموت أرحم، بشكل لا يوصف، من الاعتقال في سجون الأسد. فالموت يعتبر خاتمة الألم لصاحبه، ويتقبّله من يحيطون بصاحبه بمجرد مرور أيام قليلة، أما الاعتقال فهو ألم ووجع مستمر لصاحبه ولكل المحيطين به.
وقبل أن ننهي حديثنا معها، تتساءل سمر باستهجان: كيف يطلبون من السوريين العودة؟ وكيف يعود البعض منهم، وإلى أين؟
ثم تجيب هي: “إن هذا النظام الوحشي، وطغمته الحاكمة، لن يتوانوا للحظة عن قتل كل سوري يطالب بأدنى درجات الحرية والعدالة الاجتماعية”.
ختاماً، إن معتقل دير شميل من بين عشرات المعتقلات السرّية غير المسجلة لدى منظمة حقوق الإنسان وباقي المنظمات الأممية. وهو غير معروف لدى الكثير من الذين عملوا في الشأن السوري، ولا يعرفه إلا من اعتقل بداخله وخرج منه حياً.
وتقدّر إحدى الإحصاءات غير الرسمية، ومنها ما تم الحصول عليه من أهالي المعتقلين في حماة وريفها، أن هذا المعتقل ضمّ خلال سنوات الثورة أكثر من 4500 معتقلاً، بينهم ما يقرب من 1200 امرأة، منهن نساء كنّ يتعرّضن للاغتصاب بشكل يومي ثم تتم تصفيتهن.
ولعدم تخيّل مدى حجم التعذيب والانتهاكات الإنسانية المرتكبة داخل المعتقلات إلا ممّن عايشها، فإن أقصى ما تتمناه سمر هو العمل بشكل جدي على ملف المعتقلين السوريين جميعاً، وإطلاق سراحهم وإنهاء عذاباتهم اليومية؛ والكشف عن مصير آلاف المفقودين داخل هذه المعتقلات، ومنها معتقل معسكر الشبيبة في دير شميل.
“ولا يمكن تحقيق العدالة المستقبلية بدون إطلاق سراح الأحياء، ومحاسبة المجرمين القتلة وعرضهم على المحاكم الدولية لينالوا جزاءهم؛ فلعل ذلك يسعد أرواح من قضوا تحت آلة التعذيب، ويريح نفوس من بقي حياً” بهذه الكلمات تختتم سمر اللقاء.. وبدمعتين.
مواد ذات صلة:
مجزرة اللطامنة: ربيع الدّم عام 2012