في ذاك اليوم لم أذكر إلّا أطفالي "ضحكاتهم، أصواتهم، مشاجراتهم الطفولية، تفاصيلهم كاملةً تمرّ كشريط فيديو أتابعه، أتحدث بسرعة الضوء عنهم، أبكي تارةً وأضحك تارةً حين أذكر ضحكاتهم.
05 / تشرين أول / أكتوبر / 2018
تكمل عائدة الحاج يوسف، الملقبة بزينة، روايتها المرعبة عن طريقة معاملة نظام الزسد للسوريات في السجون…
غاب عيد الأم عن سوريا منذ اندلاع الثورة ضد نظام الأسد المجرم مطلع العام 2011، وباتت الأمهات السوريات مفجوعاتٍ موجوعات بأبنائهنّ المُعتقلين في سجون الإجرام والمُصابين والشهداء والمفقودين
في مُعتقلات الأسد الإجرامية، فتحوّل يوم الواحد والعشرين من آذار “عيد الأم” إلى نذير شؤمٍ لدى الأمهات المُعتقلات المُلفقات بحقهنّ تُهماً “زوراً وبهتاناً” حكمها الإعدام.
سابقاً كنت أستعد للاحتفال بهذا اليوم “الرمزي” بتحضير الهدايا والحلويات والعصائر والزينة وغيرها من مُستلزمات طقوس الاحتفال، وكذلك الأمر كان أطفالي الثلاثة يُقلّدونني بكيفية احتفالي بأمّي حتى يحتفلون معي بذات الطريقة.
أمّا في عيد الأم 2017 وفي سجن “عدرا” المركزي بتّنا في السجن نتمنى الموت على أن يمرّ بنا العيد، كنت جالسةً على سريري الذي تعود ملكيته للسيدة المُعتقلة “سميرة . ن”، وهي فتاةٌ كانت تنزل سابقاً في “جناح القتل” وُضعت مُؤخراً في “جناح الإرهاب” لتنقل أخبار السيدات المُعتقلات للعقيد مدير السجن، أعطتني سريرها الذي كانت تمنع لمسه من أيّة سيدة مُعتقلة أخرى بعد أن رأتني، حسب كلامها، المرأة القوية المُتماسكة عكس الأخريات.
في ذاك اليوم لم أذكر إلّا أطفالي “ضحكاتهم، أصواتهم، مشاجراتهم الطفولية، تفاصيلهم كاملةً تمرّ كشريط فيديو أتابعه، أتحدث بسرعة الضوء عنهم، أبكي تارةً وأضحك تارةً حين أذكر ضحكاتهم.
كُلّ مياه الكافور التي كانوا يضعونها لنا في طعامنا وشرابنا لنفقد مشاعرنا كانت تُنسينا بعض الشيء عمن هم خارج السجن، لكنّ أعشابهم القذرة لم تُجدِ نفعاً بنسيان أطفالي، بالرغم من أمنياتي حينها بفقدان ذاكرتي أو تغدر بي غيبوبةً ما أو أغادر هذه الحياة غير العادلة، أمنياتي ألا أرى شمس يوم العيد.
كالمعتاد في الساعة التاسعة والنصف كما كُلّ مساءٍ في فندق “عدرا للإرهاب” علينا الاصطفاف كالخراف لغاية التفقّد من قبل السجّان الوحش وحاشيته، تُذاع أسماؤنا لتُطفأ الأنوار بعد نصف ساعة، بدأنا ليلتنا برهبة غريبة، لا سمر، لا أحاديث، كُلّ السيّدات المُعتقلات نيامٌ والدموع تملأ وجوههم، كم دعوت الله ألا أستيقظ، لكنّي لم أنم قط.
في السابعة صباحاً ذاك السجّان الهمجّي الّذي يفتقد لأدنى حدود الإنسانية شغّل الأغاني، ولإغاظتنا كانت الأغنية الأولى “ست الحبايب”، حينها كُنّا كالأموات الأحياء غارقين في شلالات دموعنا، مرّ الوحش بمهجعنا ضارباً الأبواب بقدميه صارخاً “على الجميع الاستيقاظ، سيادة العقيد بده يحتفل بعيد الأم”، سحبت قدمي لأنهض قائلةً بسخرية “ليش سيادتوا عنده أم” فضحكت جميع السيدات.
نهضنا جميعاً وقدّمنا “المُعايدة” للخالة “أمّ محمد” أكبر السيدات المُعتقلات في قسمنا، تبلغ من العمر 70 عاماً، وهي مُقعدة لا تستطيع السير، أوقفوها مع ابنتيها بسبب الكتم الجنائي عن ابنها الشاب، يا لها من تهمة، ويا لها من امرأة سيّئة، لقد كتمت معلومات حول ابنها عن النظام حتى لا يُقتاد لجيش الإجرام ويُشارك في قتل الأبرياء من أبناء وطنه !!
تلاها تقديم “المُعايدة” للخالة أم إياد” البالغة من عمرها 55 عاماً، موقوفة في السجن بسبب مكالمة هاتفية أجرتها مع ابنها المناوئ للنظام حتى تطمئن عليه، تباً كم هي تستحق الإعدام من قبل نظام الإجرام !!
الأمّهات توّاقون لأبنائهنّ والفتيات الصغيرات توّاقون لأحضان أمهاتهنّ، لكنّ ذلك ما همَ بالسجّان المُستمر باحتفاله بوضع الأغاني المُعبرة عن ذكرى “عيد الأم” شيئاً.
أتى موعد الثلاثة دقائق المُخصّصة للهاتف، ثلاثة دقائق هل تكفي؟ ثلاثة دقائق ماذا نقول فيها؟ ثلاثة دقائق أهي كافية للتعبير عن اشتياقي لأطفالي المحرومين مني والمحرومة منهم منذ أربعة شهور؟ هل تكفي لأكلّم أحدهم فقط؟
ألو، ابنتي الأكبر “هنا” أول المُجيبين على الهاتف، “وينك ماما قومي تعالي، أنتي بالسجن جوى وأنا بالسجن هون بدونك، ما عندي رفيقة غيرك يا ماما”، التزمت الصمت، ورمت الهاتف باكيةً، فحدّثني ابني غالب “يامو لا تخافي نحن مناح وقويين متل ما عودتينا، بس بنتك وبتعرفيها لا تردي ع كلامها، بس تنتبهي لصحتك وطلعي من السجن بخير وسلامة”، مُقدّماً الهاتف لابني الأصغر “مصطفى” ذي العشرة أعوام الذي يحب الغناء وبدأ يُغنّي “قولي لأبوكي وإمك، ينسوا قصة أولاد عمك، أنتي بس زهرة حياتي، ومحدا غيري بيشمك”، لم أنطق حرفاً واحداً خلال الدقائق الثلاثة، كم كنت أودّ إخبارهم بمدى اشتياقي لهم.
عدت إلى غرفتي ناظرةً إلى تلك الوجوه الحزينة الشاحبة الباكية، ونهضن جميعاً إليّ ليسمعوا ما أحدّثهم “مصطفى غنى لي وغالب كبر وصار رجال وحامل همّي، بس هنا عم تبكي بدها مني اطلع من السجن”، وكُل من حولي بدأ البكاء لبكائي، وفتاة من درعا في عمر 23 عاما أيضاً مُتّهمة بقضايا إرهاب، تحتضنني باكيةً قائلةً “معهم حق ماما عايدة، بحبك ماما عايدة”.
انتهى ذاك الكابوس مُخلّفاً في أطراف قدميّ ويديّ ووجهي أوراماً غير معروفة، وصحوت في اليوم التالي بمستشفى 601 العسكري في منطقة “المزة” وسط العاصمة دمشق.
.
.
المصدر: زمان الوصل