كنا نسمع هذا الهراء من إذاعة النظام الحاكم في دمشق، ونحن في معتقلات وطننا سورية، نحشر ما يقارب المائتي معتقل في مهجع، لا تساوي مساحته نصف مساحة المهجع الإسرائيلي، الذي سجن فيه أشقاؤنا الفلسطينيون، ولا يوجد في هذا المهجع سريرٌ واحد، يا للمفارقة العجيبة.
07 / كانون أول / ديسمبر / 2020
*مع العدالة | محمد برّو
في الساحة السادسة من سجن تدمر، وهي الساحة التي شهدت وعلى مدار عشر سنين، بين عامي “1980-1990” إعدام آلاف الشباب والرجال شنقاً، وقدراً أقل ممن لاقى مصرعه في حلبات التعذيب النيرونية، في هذه الساحة جرت العادة المتقطعة أن تصدح الميكرفونات بصوت عالٍ، وهي تبث نشرة الأخبار اليومية في تمام الساعة الثانية وربع من ظهيرة كل يوم.
في ظهيرة يومٍ منسيٍ من عام “1983” كان الخبر الرئيسي حول وجود سبعةٍ وستين أسيرٍ فلسطينيٍّ في سجون الاحتلال الغاشم، في مهجع لا يحوي سوى ثلاثة وستين سريراً، الأمر الذي سيدفع أربع أسرى للنوم على فراش أرضي، وأنَّ سبعة عشر أسيراً منهم قد مضى عليهم شهران شمسيان دون أن يقدموا إلى محاكمة، أو يعين لهم محامي دفاع، أو يسمح لأهليهم بزيارتهم!!
كنا نسمع هذا الهراء من إذاعة النظام الحاكم في دمشق، ونحن في معتقلات وطننا سورية، نحشر ما يقارب المائتي معتقل في مهجع، لا تساوي مساحته نصف مساحة المهجع الإسرائيلي، الذي سجن فيه أشقاؤنا الفلسطينيون، ولا يوجد في هذا المهجع سريرٌ واحد، يا للمفارقة العجيبة.
كنا نسمع ضاحكين وقد مضى على اعتقال معظمنا ثلاث سنوات، دون أن يقدم معظمنا لمحاكمة ولو صورية، ولم تكن محاكمنا طيلة عشرين سنة تقبل بوجود محامي واحد، فقد كانت محاكم ميدانية، القاضي العسكري فيها يمثل المحقق والقاضي والجلاد، الذي يشرف على تنفيذ أحكام الإعدام، ومن تم حكمه مؤبد أو براءة، أو عدد من السنوات بينهما، عليه انتظار المجهول، ليصدر سيد البلاد عفواً يشمل معظم المجرمين القضائيين، وحفنةً ومن المعتقلين المعارضين.
وعلى سبيل المثال، فقد أمضى معتقلو حزب العمل الشيوعي، أعواماً طويلة قبل أن يأذن النظام بإحالتهم لمحكمة أمن الدولة العليا عام “1991” .
في الساحة السادسة مرةً أخرى، وفي جولة التفقد اليومية في أحد الأيام الغائمة من عام “1997” وثب الشاب الحموي “علي” من موضعه بشكلٍ مفاجئ، وطلب من الرقيب الذي أتمّ إجراءات التفقد، أن يتكلم معه فانقض الجلادون عليه ورموه أرضاً، وهم يتناوبون على ركله وجلده جراء هذه الجرأة الغير مألوفة في سجن تدمر.
بعد دقائق وبإشارةٍ من يد الرقيب، توقفوا عن ضربه وطُلب منه أن يتحدث بشكلٍ سريع، فلم يضيع صاحبنا فرصته وأخبر الرقيب أن المحاكم توقفت منذ أكثر من عام، وأنه معتقلٌ منذ عام “1976” ولم تتم محاكمته بعد، سمع الرقيب شكوى صديقنا عليّ دون أن ينبس بشفة، لكن عيونه لم تخف دهشتها، واحدٌ وعشرون سنة رهن الاعتقال ولم يطلب للمحاكم بعد!
بإشارة من يده أعاد الرقيب صاحب الشكوى إلى مكانه في الصف وأمرنا بالدخول، إلى المهجع جريا تحت مقارع الحديد والكابلات النحاسية التي تفتك بالجلود.
خاب سهم صديقنا صاحب الشكوى بعد أن أمضى شهرين منتظراً أن تلقى شكواه أذناً صاغية، ولكن هيهات، أعاد الكرة وتلقى ما يليق به من صفعات وركلات، لكن أمام إصراره أن ترفع الشكوى لمدير السجن، لبّى الرقيب المتفقد طلبه، وكتب شكواه واسمه ورقم مهجعه في دفتر الملاحظات اليومية، وما هي إلا بضع أسابيع حتى طفق المنادون يمرون بالمهاجع، ليسجلوا أسماء من لم تتم محاكمته بعد، وكانت الحصيلة تزيد عن مئة وستين منسياً أو يزيدون قليلاً.
بعد شهرين على وجه التقريب، سمع صوت الحوامة التي تنقل هيئة المحكمة الميدانية، من دمشق إلى سجن تدمر صباحاً، ونودي على المنسيين، وماهي إلّا ساعة حتى نقلوا إلى الساحة الأولى، حيث تنعقد المحكمة في حجرةٍ وضيعةٍ يساق إليها المتهم، ليسمع تهمته والحكم المهور سلفاً بختم وزير الدفاع.
لم تمض أكثر من ساعتين، حتى عاد الجميع إلى مهاجعهم تحت وقع السياط، لقد تمت محاكماتهم جميعاً، ثلاثة ممن أعرف لم تكن لهم مستندات أو مذكرات اتهام بحقهم، فما كان من هيئة المحكمة إلّا أن نظَمت لهم إفادات، تؤكد مشاركتهم بأعمال تخريبية قبيل تاريخ اعتقالهم، وتم إلزامهم بالتوقيع عليها دون نقاش، وبلغوا أحكاما هي أقل بسنوات من المدة التي أمضوها داخل جدران هذا المعتقل.
أمّا صاحبنا “عليّ” فلم يتمالك الرائد “سليمان الخطيب” قاضي المحكمة الميدانية في تدمر، من ابداء دهشته الشديدة مما ناله، فعند التحري عن أوراق المعتقل وتتبع مساراتها، انتهى بهم المطاف إلى مذكرة إخلاء سبيل صادرة من إدارة المخابرات العامة وتنتظر توقيع وزير الدفاع عام “1977” تشمل أربعة عشر معتقلاً حموياً، ثبتت براءتهم، متهمين زوراً بالتعاون مع تيار “مروان حديد”، لكنَّ هذه المذكرة بقيت منسيةً في أحد أدراج مكتب الوزير طيلة عشرين سنة.
ما أن تثبَّتت هيئة المحكمة من صحة مذكرة اخلاء السبيل، حتى رفعت توصيتها بتنفيذها على الفور، وما هي إلا سنة ونصف حتى نودي على اسم صاحبنا ليتم إخلاء سبيله أخيراً.
قبل إطلاق سراحه تم الاعتذار منه شفهياً، فعاد من فوره إلى مدينته حماة، وهناك لم يجد فيها أحداً من أسرته أو أقاربه، فقد تمت إبادتهم جميعاً في حي الكيلانية الذي سويت جميع بيوته بالأرض في مجازر حماة عام “1982” فطوبى للمنسيين.
مواد شبيهة:
حين أنسانا غازي الجهني رعب سلفه