#########

الضحايا

رحلة الشقاء المجهولة إلى فرع الموت “215”


سيدة من غوطة دمشق اسمها عائدة العابد وممرضة من مدينة المعضمية بريف دمشق، كانت تعمل في مشفى المواساة، اُعتقلت نتيجة تقرير كيدي من إحدى موظفات المشفى.

02 / تشرين أول / أكتوبر / 2018


رحلة الشقاء المجهولة إلى فرع الموت “215”

 

الجزء الثاني

*ياسمينا البنشي

 

بدأت الرحلة في الصباح الباكر باتجاه حمص، بحافلة مُسيجة متوسطة الحجم، معدّة خصيصاً للمعتقلين. كنت الأنثى الوحيدة فيها، وكان معي 14 معتقلاً خرجوا جميعاً من فرع الأمن العسكري، بالإضافة الى أماناتنا التي كانت معنا أو التي تمّ مصادرتها.

 

توجهنا الى فرع الشرطة العسكرية بحمص حيث وصلنا إليه قبل الظهر بقليل، وهناك تم وضعي بمكان احتجاز أشبه بقبر كبير، رائحته كريهة، لا شمس فيه ولا هواء. التقيت في تلك الغرفة بطبيبة من حلب تبلغ قرابة السبعين من عمرها. كانت معتقلة في فرع الأمن العسكري بحلب بتهمة تقديم الدواء للناشطين.

 

بقينا هنالك لساعات، وبعد العصر أخرجونا من غرفة الاحتجاز وبدأوا بتجميع الرجال بشاحنة كبيرة. كانوا يمرون أمامنا مطأطئي الرأس، مكبلين بجنازير بأيديهم وأقدامهم. كانت السياط تُضرب على أجسادهم من الجانبين والشتائم تنهال عليهم وجميعهم يعاني من جروح وتقرحاتٍ في جسده.

 كان عددهم يفوق السبعين، لم أكن أتخيل كيف ستسعهم تلك الشاحنة المغلقة التي لا تحتوي سوى على شباك صغير مسيج بحجم كفي اليد!

بعد أن انتهوا من الرجال، جاء دوري أنا والطبيبة السبعينية بعد أن كبلوا معصميّ وهي أيضاً بقيد حديدي ثقيل، لنصعد على ذات الشاحنة بقسم صغير تم اقتطاعه من الشاحنة أشبه بمنفردة صغيرة، يوجد بها فتحة صغيرة جداً؛ كدنا نختنق من الحر وضيق المكان، كنت أخشى على الطبيبة من الموت، فهي تعاني من مرض الربو كما أخبرتني.

 

 لا أعرف كيف وصلنا إلى فرع الشرطة العسكرية بدمشق مساءً، حيث إن الطريق الذي كان يستغرق في الأحوال الطبيعية ساعتين، قد استغرق في رحلتنا أكثر من خمس ساعات.

 

كنا نسمع صوت الرصاص والقذائف طيلة الطريق. نزلنا أنا والطبيبة أولا،ً فدخلنا لمبنى الفرع الكبير، إلى أحد المكاتب. كانت المنطقة خالية من أي شيء، وكأنها منطقة صحراوية. داخل المكتب بدأ أحد العساكر يسألنا من أي مناطق نحن، وإذ هو من مدينة حلب ومن سكان نفس الحي الذي تقطنه الطبيبة، طلبت منه الاتصال بأحد أبنائها لتطمئنه أنها على قيد الحياة بعد انقطاع أخبارها طوال مدة اعتقالها؛ بعد حوالي الساعة، نادى أحد العناصر باسمي وأمرني أن أرافقه الى إحدى العربات.. ودعت الطبيبة وتوجهت إلى سيارة كبيرة. كنت المعتقلة الوحيدة فيها، كان بداخلها اثنان من العناصر.. طريق مظلم، لم أستطع أن أرى شيئاً، وبعد أقل من ساعة بدأنا ندخل شوارع دمشق. لم ارَ شوارع مضيئة منذ مدة. حواجز كثيرة كنا نمر عليها بسرعة، وما إن اقتربنا من الفرع، أمرني أحد العناصر بالنظر إلى الأرض وعدم الالتفات، وإلا سيضربني بالسوط. مررنا على ثلاثة حواجز، طال وقت التفتيش عندها، ثم دخلنا إلى منطقة أمنية بها أبنية عديدة، (علمت لاحقاً أنها المربع الأمني بكفرسوسة). نزلت من العربة أمام ساحة كبيرة، اصطف أمامها أكثر من عشر درجات نارية، كان بجوارها غرفة صغيرة ملاصقة لمبنى صغير، يبدو أنّ به قبو تفوح منه رائحة كريهة، لم أشمها في حياتي، مازالت عالقة في أنفي حتى اليوم.

 

 بقيت واقفة في مكاني خائفة، لا أعرف أين سيأخذونني؛ وما هي إلا دقائق، وصلت حافلة كبيرة، كانت تقلّ معتقلين ذكوراً، بدأوا انزالهم نحو ذلك القبو الذي كانت تفوح منه الرائحة الكريهة، وهم يضرونهم بكابل حديدي رباعي، وهؤلاء المعتقلون جميعهم حفاةٌ، عراة، لا يرتدون سوى سراويل داخلية. بعد إدخال آخر معتقل، صاح بي سجان خمسيني قبيح، ضخم الجثة (اسمه أحمد عليا من قرى مدينة جبلة الساحلية وملقب بشرشبيل)؛ أمرني بالتوجه معه إلى غرفة مجاورة للقبو، ملأى  بصناديق خضار وفاكهة، وطلب مني خلع ملابسي، فأصبت بالصدمة والذهول، ولم أطعه، وبدأ بالصراخ، ثم قام بتفتيشي عارية. وبعد أن انتهى من التفتيش، خرج من الغرفة وطلب من أحد العناصر مرافقتي. كان الوقت قد يقارب الساعة الواحدة صباحاً. مشينا أنا وذلك العنصر حوالي ثلاث دقائق، إلى أن وصلنا أمام مبنى كبير، ركبنا فيه مصعداً، وطلب مني أن أبقي نظري في الأرض، كي لا أرى إلى أي طابق سنصعد…

 

 لم أكن وقتها ألتفت إلى شيء، كنت في حال صدمة من طريقة التفتيش التي اُستقبلت بها.

وصلت إلى طابق كبير، فأمام المصعد كان هنالك مكاتب. ثم توجهنا يساراً، ستارة بحجم بابين كان خلفها بابٌ حديدي كباب السجن، دخلت به حيث استقبلني مساعد في الأمن كان يجلس وراء مكتب. قام بتسجيل بياناتي، ثم طلب مني أن أدخل إلى المهجع المجاور.

مهجع المعتقلات اللاتي ما زلن مستيقظات، 16 معتقلة في ذلك اليوم، اثنتان منهن كانتا معي، وصلتا قبلي من فرع الأمن العسكري باللاذقية.

معتقلات من شتى المدن والمناطق، أقدمهنّ “دعاء محمد من جبل الزاوية في ادلب”، قضيتها شائكة، ومعقدة، كانت قد أمضت أكثر من عام ونصف في ذلك الفرع القذر، وهنا علمت أنني في الفرع الأسوأ سمعة، فرع الموت، الفرع 215.

معتقلة أخرى أمضت أكثر من ستة أشهر داخل الفرع، تجمعها قرابة بالوزير عمران الزعبي، اسمها روعة (عادة لا تطول مدة الاعتقال في الأفرع أكثر من 60 يوماً، قانوناً، ومن يتجاوز هذه المدة، تكون قضيته معقدة أو سيتم تحويله إلى محكمة الميدان العسكرية). معتقلة أخرى طالت فترة احتجازها في الفرع (مها عويّد) نازحة من القنيطرة، كانت مريضة سرطان المري، ولا تتلقى أي دواء داخل الفرع، بل تلقت أقسى أنواع التعذيب حسب ما روت داخل الفرع 220 (فرع سعسع)، حيث قام عناصر الأمن بوضعها على الكرسي الألماني، إلى أن طق ظهرها وفقدت العادة الشهرية من بعدها، كان لون قدميها قاتم جداً، من شدة احتباس الدم فيهما، نتيجة ما تعرضت له.

 سيدة من غوطة دمشق اسمها عائدة العابد وممرضة من مدينة المعضمية بريف دمشق، كانت تعمل في مشفى المواساة، اُعتقلت نتيجة تقرير كيدي من إحدى موظفات المشفى.

 

علمت من باقي المعتقلات أننا في الطابق السادس، كما يوجد في ذلك الطابق 13 مهجعاً أو غرفة احتجاز وحمام، مهجعان للإناث، إحداهما كبير نوعاً ما، (المهجع الذي كنت فيه) ورقمه 13 وآخر صغير، وكان لأجل فصل كل من كانتا في قضية واحدة كي لا يجتمعان سَوِيّاً ، ورقمه 6.

أما باقي المهاجع، فكانت للرجال، وكان الحمام العام مواجهاً تماماً لمهجعنا، ومن خلال الشبك السفلي للباب، كنت أراقب ليلاً من كان يدخل لأستطيع التعرف على بعض المعتقلين، الذين كان بعضهم يتحدث بلهجات عربية (مصرية وتونسية)، وبعضهم من الشبان السوريين. أما ما لفت انتباهي، هو وجود رجلين مسنين، كانا معتقلين منذ الثمانينات.

 

كان المهجع بمساحة 6 ضرب 3 أمتار، لا تدخله الشمس مطلقاً، تعشش الرطوبة في جدرانه ويسرح القمل فيه من كل صوب. أما الطعام فكان عبارة عن بطاطا نصف مسلوقة صباحاً، وبرغل مسلوق على الغداء، لا يمكن تناوله بعد أن تشتم رائحته العفنة.

الحمام كان يتألف من ثلاث كبائن وثلاث مغاسل، ومكان للاستحمام، وشباك كبير مُسيج لا يسمح بالوقوف عليه، لأنه كان يطل على ساحة توسطها تمثال للأسد الأب، كما أنه يطل باتجاه اليسار على فندق الشيراتون.

بعد وصولي إلى الفرع بخمسة أيام قدمت شابة مسيحية إلى الفرع ليلاً، (تمّ الافراج عنها بعد ساعتين، لأنها تعتبر من الأقليات)، وأخبرتنا عن أهوال ما جرى خلال ضرب الكيماوي على الغوطة، وبدأت تتحدث عن الأرقام الكبيرة للذين استشهدوا أثناء ذلك القصف، وخاصة الأطفال، (مؤكد أننا كنا مقطوعين عن العالم الخارجي ولا ندري ما يحصل)، وأثناء الحديث عن الغوطة، كانت عائدة تسترق السمع ونحن نخالها نائمة؛ وما هي إلا دقائق، حتى بدأت بالصراخ “أولادي… أهلي… لقد ماتوا” كانت عائدة زوجة شهيد وأم لطفلين، ظلّوا عند أهلها في الغوطة الشرقية، أُصيبت السيدة باختلاج وبدأ جسدها بالتشنج. كنا نحاول فتح فمها كي لا تبتلع لسانها (هكذا طلبت منا الممرضة التي كانت معتقلة معنا).

 

نجحنا في تهدئتها للمرة الأولى، لكن عندما عادت لها الحالة مرة أخرى، لم نستطع عمل شيء، لم يكن باستطاعتنا حتى مسكها،فطلبنا من مساعد الأمن المناوب إخراجها من أجل مساعدتها أو إعطائها بعض الدواء.

 بعد حوالي النصف ساعة أعاد عنصر الأمن (عائدة) إلى المهجع برفقة عنصرٍ آخر ، محمولةً في بطانية، وقال أحدهم “أعطيناها دواءً لترتاح”. فعلاً كانت فاقدة الوعي تماماً، حتى ظننا لوهلة أنها ميتة.

 بعد نومٍ طويل عادت عائدة للحالة، ولم نستطع السيطرة عليها أيضاً، وطلبنا من مساعد الأمن الآخر مساعدتها، لكن في هذه المرة عادت عائدة مشياً على قدميها بخطوات بطيئة، وجهها متورم وآثار أظافر قد غرست في رقبتها، دفعها العنصر بعنفٍ داخل المهجع، وقال لنا “في المرة القادمة لا نخرجها… دعوها تموت هنا ثم أخبرونا لنحضر البطانية”؛ كانوا يخرجوها من حالة الاختلاج بالضرب على وجهها ورأسها وبخنقها من رقبتها. طلبت منّا بصوتٍ محشرج أن لا نخرجها إليهم مرة أخرى. تعهدنا أن نجتمع لمساعدتها مهما حصل. تحسنت صحة عائدة قليلاً، بعد أيام تمّ تحويلها إلى سجن عدرا، أغلب الظن أنه قد أُخلى سبيلها بسبب وضعها الصحي، حيث بقيت في سجن عدرا حوالي شهر عُرضت بعدها على القضاء ومن ثمّ  أخلي سبيلها.

 

علمت بعد خروجي من المعتقل ونقلاً عن أحد أبناء منطقتها، أن والدها وولدها الأصغر قضيا بمجزرة الكيماوي، (كما كان إحساسها وقلبها يقولان لها)، واختفت عائدة وولدها الذي نجا ولم يعد أحد يعلم مكانهما.

 

 

اقرأ الجزء الأول