#########

الضحايا

– “أبو حسن” يكسر بيتاً لـ “طَرَفة”


سيبقى "أبو حسن" بين أيدي الجلادين، يصرخ من ألمه، إلى أن اختفى الصوت وتوقفت السياط، ونادى الرقيبُ ليخرج أربعة حقراء يحملوا هذا الكلب إلى المهجع

13 / تموز / يوليو / 2020


– “أبو حسن” يكسر بيتاً لـ “طَرَفة”

*مع العدالة | محمد برو

 

كانت حلاقة الذقن –دائماً- فصلاً مختلفاً وأسبوعياً من التعذيب، حيث يخرج السجناء إلى الساحة، عشرةً تلو عشرة، فيصطفّون إلى جدار الساحة، وظهورُهم للجدار، ووجوهُهم مكشوفة، ورؤوسهم إلى الأعلى، والجميع مغمَض العينين. والويل كلُّ الويل، لمن يَرفُّ جفنيه أو يفتح عينيه ولو بسهوٍ منه، فسرعان ما يصرخ الحلاقُ، وهو سجينٌ قضائيّ، لينادي الجلادين، مخْبِراً إياهم بما جنَاه هذا المسكين، فيُكمِلون حلاقةَ ذقنه على عجلٍ، ثم يتلقّفه الجلادون ليذيقوه فنونَ تعذيبهم وآخرَ ما تمخّضتْ عنه نفوسُهم الكريهة، ثم يدخل مَن أتمَّ حلاقتَه إلى المهجع وقد بسطَ كلتا كفّيه تحت ذقنه، ليمنع دمَه المتقاطرَ من هذه الحلاقة الباريسية أن يلوّث الأرض، أو ضاغطاً بكلتا يديه على جرحٍ بليغٍ أحدثتْه موس الحلّاق، الذي يضرب الوجوهَ بشفرته وكأنهم أعجازُ نخلٍ خاوية!

 

في داخل المهجع، يقوم فريقٌ من الخدمة المتطوّعة بتلقّي العائدين، وقد وُضع في وسط الغرفة الأولى وعاءٌ بلاستيكي يتم سكْبُ الماء عنده، ليغسل العائدون وجوهَهم من أثر الحلاقة، وهذا فقط لمن نجا من أيّ جرح، أما الآخرون فيدخلون إلى البخشة (الحمام)، ليغسلوا ما سال من وجوههم من دماء، ويقف قبالتهم المنسّق فينادي باستمرار: (اللي فيه دم لهناك -أي للحمام- واللي ما فيه دم لهنا -أي للوسط-).

 

 

كانت عبارة (ما فيه دم) في ثقافتنا السورية، تعني الفاقدَ للمروءة أو النخوة، أمّا هنا، فقد اكتسبَ اللفظُ المجازيُّ معنىً على الحقيقة.

 

أما “أبو حسن”، ذلك الرجل المثقّف المفوّه الوجيه، الذي يحفظ من الشعرِ وأعلامِ السياسة وعواصمِ الدول وأسماءِ الأحزاب -الأوروبيةِ منها والعربية- الشيءَ الكثيرَ الكثير، وهو خريجُ كلية الأدبِ الإنكليزي وأشهرُ مَن كان يقدّم المحافل والاجتماعات في ريف ادلب، هذا الرجل أصيب بالفصام عند أول حفلة تعذيبٍ تلقّاها في فرع الأمن، وكان يجمع إلى هذا كله طيبةً غامرةً وحسّاً عالياً بالطرافة والنكتة الحاضرة، إضافةً لجسدٍ عظيم الخلقة، يتجاوز وزنه المائة وستين كيلوغرام.

 

وفي هذا اليوم المشهود، كان صديقنا “أبو حسن” واقفاً وظهره للجدار، رافعاً رأسه وعيناه مغمضتان، وأصوات السياط تلعلع في الساحة، وقلب صديقنا يتقافز بين ركبتيه، وكلُّه أملٌ أن ينادوا سريعاً: (الجميع إلى المهجع)، فينجو من تعذيبٍ منتظَر.

صرخ الرقيبُ آمرُ الساحة بصوتٍ، خالَه صديقُنا ذلكَ النداءَ المأمول إلى المهجع، فتحرّكَ نصفَ خطوةٍ سريعةٍ للأمام، وما أن فتح عينيه حتى أدركَ لحظتَها أنه أخطأ بسماعه، وكان الرقيبُ أمامَه مباشرةً، ولعِظَمِ هامةِ صديقنا “أبي حسن”، فقد أجفلَ الرقيبُ واعتراه الفزع لهذه الحركة المفاجئة، وظنّ أنَّ السجين يريد أن يُطْبق عليه بجثّته العظيمة! فأخذ خطوةً سريعةً للخلف، خطوةً فضحتْ بجلاءٍ مقدار الرعب الذي اعتراه، الأمر الذي وضع قدره أمام شركائه ومرؤوسيه، فلم يملكوا أنفسهم من الضحك.

 

كل هذا جرى في ثانيةٍ أو ثانيتين، وبقي صديقنا “أبو حسن” متجمّداً في مكانه، كأنه رمحٌ انغرسَ في الرمل، فما كان من هذا الرقيب المفضوح ارتباكُه، إلّا أن صرخ بالجموع: (إلى المهجع)، مستبقياً “أبا حسن” لينال منه ما يمسح به عارَه، ويطفئ أوارَ غضبه.

 

تمدّدَ “أبو حسن” بجثّته العظيمة، واجتمع الجلّادون ليردّوا الاعتبار لرقيبهم، وخلع الرقيبُ سترتَه العسكرية، ليكون مرناً وقادراً بشكلٍ أكبر على الجَلد بالسوط، وانهالوا بسياطهم ضرباً وفتكاً بجسد “أبي حسن”.

 

  • لك الله يا “أبا حسن”، اجتمعوا عليك كالذئاب الضارية، وجلسنا القرفصاء في مهجعنا، نبكي وندعو لك بالتخفيف..

 

نصف ساعةٍ من التعذيب المستمر لضحيةٍ واحدة، يصل صراخُها إلى أقصى مدينة تدمر، نصف ساعةٍ يصعب تخيُّلها، فهي ألف وثمانمائة ثانيةٍ طويلةٍ، تحمل كلُّ ثانيةٍ منها سياطَ خمسة جلّادين لا يفترون.

 

سيبقى “أبو حسن” بين أيدي الجلادين، يصرخ من ألمه، إلى أن اختفى الصوت وتوقفت السياط، ونادى الرقيبُ ليخرج أربعة حقراء يحملوا هذا الكلب إلى المهجع.

 

يقفز أربعةٌ قادرون على حمل “أبي حسن” المسكين، وهو أشبه بجثةٍ هامدةٍ مضرّجةٍ بدمائها، يضعونه على أرض المهجع الاسمنتية السوداء، وهو عبارةٌ عن ذبيحةٍ ملتحفةٍ بدمائها، ووجهُه تلوّنَ من أثر الضرب، بين أسودٍ وأزرق وأحمر قانٍ، وقد تورّمَ وجهه، فلا يمكن للناظر معرفة صاحبِ الوجه!

وانبرى بعضنا لغسلِ وجهه، ومسْحِ ما ظهرَ من جروحه، وهو يتنفس لاهثاً، ما بين شهيقٍ وزفيرٍ دمويٍّ، يخرج من بين أسنانه.

 

مرَّت بضعٌ وعشرون دقيقة، والمهجعُ بأفراده جميعاً واجمون، وألسنتُهم تلهج بالدعاء والصلاة، والعيونُ مسمّرةٌ إلى وجه أخينا “أبي حسن”، حين تحركتْ جفونُه بألمٍ شديد، وافترَّ فمُه المدمّى عن ابتسامةٍ واسعةٍ تبعتْها ضحكةٌ طويلةٌ، فأُسقط في يدنا. ماذا جرى للرجل؟

سأله أقربُ الممسكين برأسه: ماذا هناك يا “أبا حسن”؟

 

هزّ رأسَه منتشياً بما جرى، لقد طلب منه الرقيبُ أثناء التعذيب، أن يقول بيتاً من الشعر، فذكر له “أبو حسن” بيتاً لـ “طَرَفة بن العبد”:

 

ستُبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً  ويأتيك بالأخبار مَن لم تُزَوِّدِ

 

لكنه لوطأة التعذيب كسرَ البيت سهواً غير عامدٍ، فقال (ما كنت تجهل) بدلاً من (ما كنت جاهلاً)، ولم ينتبه الرقيبُ إلى هذا الكسر!

 

واعتبرَ “أبو حسن” أنَّ هذه التمريرة، تشبه إلى حدّ كبيرٍ، تمريرةَ اللاعبِ كرتَه بين رجلي خصمه!

 


 

مواد شبيهة:

حين أنسانا غازي الجهني رعب سلفه

المعتقلون والتجارب الكيميائية