مرّت الساعات طويلةً ثقيلةً بطيئةً، قبل أن يصدر الرقيب أمره، كي نحمل صديقنا وندخل به إلى المهجع، وكان واضحاً لنا أنهم يريدون منا أن نشهد موته بيننا، وهو ينزف من كل جزءٍ في جسده الفتيّ المحطّم
28 / نيسان / أبريل / 2020
*مع العدالة| محمد برو
كثيراً ما سألت نفسي وأنا أتابع وأتجرّع أصنافَ شتى من التعذيب، على أيدي هؤلاء الذين بقيتْ أرواحهم بريئةً من كل فضيلة، مِن كل ما يمتّ إلى الإنسانية بصِلة، من ذرة خيرٍ أو شفقة.
من أين يأتي هؤلاء الوحوش، أو مَن نسمّيهم “مجازاً” وحوشاً؟ والحقيقة إنها الإنسانية في وجه قذرٍ من أوجه تجلّياتها السلطوية.
وكعادتها تنتصب الذاكرة الغنية، لتُخرج من ثنايا الماضي صوراً عجزتْ الأيام عن طمْسها. كيف كان يتحوّل السجانُ الذي وفَد حديثاً إلى سجن تدمر، مِن كائنٍ مندهشٍ من هوْل ما يراه وما تزال بقايا تكوينه البشريّ حاضرةً ولو بشكل مقتضب، إلى مجرمٍ متمادٍ في إجرامه ومتلذّذٍ به؟
مع العلم أنهم كانوا ينتقونه أصلاً من أقذر الأشخاص وأكثرِهم عدوانيةً وأحطّهم أخلاقاً، الأمر الذي يسهّل عليهم عملية تحويله من محضِ إنسانٍ إلى كائنٍ مشوّهٍ يتلذّذ بتعذيب الآخرين.
كانت الواقعة في الشهر الثالث من العام 1982، في الأسبوع الأول منه. حين دخل “هوشابا” -كما كان أصدقاؤه يخاطبونه- إلى سجن تدمر، وكنا نلاحظ دهشته وهو يشهد مجموعةً لا تتعدّى عشرة جلادين وهم ينكّلون بأفراد مهجعنا الذين يتجاوز عددهم مئة وسبعين ضحية، بطرق تعجز الأبالسةُ عن الإتيان بمثلها، دون أن نأتي بأي ردّة فعلٍ أو اعتراض، سوى صراخنا الذي كان يطاول عنانَ السماء.
لم يكن يعلم أن أية ردة فعلٍ تصدر عن أحدِنا، ستعامَل كتمرّدٍ جماعيّ، وسيكون ردّهم مزيداً من التعذيب الذي يتعدّى حدود الخيال، بحيث يبدو الموت إزاءه مجرّد لعب أطفال.
أسبوع مضى، قبل أن يطلبوا من “هوشابا” أن يمسك كرباجاً مصنوعاً من المطاط القاسي، الذي تنتظم في وسطه حزمةٌ من الأسلاك الفولاذية، ويضرب به ضرباتٍ بسيطةً على الجدار، بحيث تنشأ ألفة غريبةٌ بينه وبين هذه الأداة القذرة، التي كانت تفتك بجلودنا صباح مساء على مدى سنوات طوال.
في الأسبوع الثالث، قاموا بتدريب “هوشابا” على الضرب الاحترافي بالكرباج، وصار يضرب بقسوةٍ وعنفٍ شديدين، وكنا نشعر بتلذّذه في إتقان هذا الفعل، الذي كان مندهشاً منه منذ أسابيع ثلاثة.
وكان الأسبوع الرابع أسبوعَ التكريس، حيث سيُكرّس “هوشابا” جلاداً (دراكوليّاً) لا يرتوي من رائحة الدماء، وتثيره كما تمتّعُه رؤيةُ الوجوه والأطراف نازفةً مهشمةً بفعل الضرب الوحشيّ الذي يمارسه بحقّنا كلَّ يوم.
جرت العادة في كل وقائع التعذيب في سجن تدمر، أن يؤمَر السجناء بإغماض الأعين وإطراق الرؤوس أرضاً، إلا في هذا اليوم الموعود، حيث يشدّد الرقيبُ الآمرُ في الساحة، أن نرفع رؤوسنا وننظر أمامنا:
– (ارفع راسك.. وفتّح عيونك.. وطّلع قدامك).
كنا نعرف ما الذي يريدون منا أن نراه، لتوثّقه قلوبُنا حفّراً في تضاريس الذاكرة. بدأت حفلة التعذيب تلك في الساعة الحادية عشرة، عندما أخرجونا إلى ساحة التعذيب، بعد أن أجبرونا على خلع ملابسنا (الكلّ بالشورت).
وبدأت السياط والكابلات “تلعلع” في أرجاء الساحة، وعلى جلودنا العارية تُحفر وقائعُ لن يقهرها النسيان.
وآمرُ الساحة -وهو الرقيب الذي يعطي الأوامر والإيعازات للمعتقلين- يهتف:
– منبطحاً.. تابع زحفاً
جاثياً.. تابع رمَلاً
منبطحاً.. مستلقياً.. جاثياً
اليدان على الرؤوس
تابع مشياً على “ركبك”
منبطحاً..
تابع زحفاً على الأكواع، إلى أن تسيل الدماء.
“صورة لسجن تدمر من الداخل” – أنترنت
والويل لمن يتخلّف. كنا نسحج أكواعنا بعنفٍ على الأرض الإسمنتيّة السوداء كيما تنزف عنوةً، أو ربما ينزف أحدهم بغزارةٍ، فيأخذ زميله الذي يزحف إلى جانبه بعضاً من دمه النازف، فيمسح به كوعَه كي ينجو من التهديد.
طال التعذيب ساعةً، كانوا خلالها يبرعون في التفنّن بألوان فريدةٍ من طرق التعذيب التي لم نألفْها قطّ، وكان “هوشابا” يعذّب صديقنا “أحمد طوير” الذي لم يتجاوز الثامنة عشر من العمر بعد، وهو فتى من محافظة إدلب. ولشدة التعذيب وقسوته لم يطقْ صديقنا صبراً، ففرّ بيديه كي لا يصيبه كرباجٌ كان يهوي بكل روحٍ حاقدة، ففوّتَ على جلاده متعة الجَلد، فاستشاط غضبُ “هوشابا” الذي كان يبحث عن ضحيته أصلاً.
وبصرخة من الرقيب الآمر، توقّف التعذيب الجماعي، وطُلب منّا أن نقف إلى جانب الجدار ووجوهنا إلى الساحة، وأن نواصل النظر أمامنا لنشهدَ كل تفصيلٍ همجيٍّ.
وتحلّق الجلادون حول جسد “أحمد” الفتى الصغير، ذاك الجسد الذي غابت تفاصيله لكثرة ما غطّتْه الدماء وتشقّقت منه الأطراف، وتركوا متعة الجَلد للجلاد “هوشابا” منفرداً.
ساعة أخرى مضت و”هوشابا” يواصل جَلد “أحمد”، إلى أن ينهكه التعب، فيشرب القليل من الماء ويجفّف عرقه الغزير بقبعته الكتانية، ويعاود الجلد تارةً بالكرباج المطاطي، وتارةً بالكبل الرباعي مسلّخ الأطراف، الأمر الذي يُكسبه قدرةً استثنائيةً على تسليخ الجلد وتقطيعه، وتارةً بعصا غليظة يقارب طولها المتر أو يزيد.
لم تبْقَ عظمةٌ في جسد “أحمد” إلّا وأصابها الكسرُ أو الرضّ؛ وجهُه مغطّى بدماء تنزف من حاجبه المشقوق ومن إحدى أُذنيه، كفّاه الغضّتان مشوّهتان من كثرة الجراح التي نالتهما، وهو يحاول أن يدرأ بعض الضربات التي كانت تنهال على وجهه.
كنا نرقب، بألمٍ تعجز الكلمات عن وصفه، كيف يتمادى المجرم في قتل صديقنا، وهو بفعله يقتل كلّ واحدٍ منا. لقد بلغ منه الإعياء مبلغه، وصار لهاثُه أقرب إلى عواء وحشٍ جريح، وأدرك الرقيب آمرُ الساحة أن يديه كلَّتا عن الضرب بتلك الأدوات، فأومأ برأسه لأحد مساعديه، فقدّم إلى القاتل عبوةً من التنك، تلك التي يعبّأ فيها الزيت عادةً، وقد مُلِئ نصفها بالإسمنت والحجارة، فكان يحملها بكلتا يديه إلى الأعلى، ويرمي بها صدرَ ضحيته أو ظهره، وكنا نسمع صوت العظام تتكسر، وقد فقدَ “أحمد” القدرة على الصراخ، فكانت أنّاته العميقة تنبعث من حنجرته، التي ما تنفكُّ تُخرج مع الأنين دماً أسوداً.
مرّت الساعات طويلةً ثقيلةً بطيئةً، قبل أن يصدر الرقيب أمره، كي نحمل صديقنا وندخل به إلى المهجع، وكان واضحاً لنا أنهم يريدون منا أن نشهد موته بيننا، وهو ينزف من كل جزءٍ في جسده الفتيّ المحطّم.
دخلنا إلى المهجع، ونحن نحمله شهيداً حيّاً على أكتافنا، وهناك تحلّقنا حول جسد “أحمد” وهو ينازع الموت، الذي كنّا نعدّه أكبرَ رحمةٍ يتلقّاها في هذه الساعة. لم يكن هناك من شيءٍ نفعله، خلا أن نغسل جروحه ونضغط على مواضع النزف المتعدّدة فيها، ونصلّي طلباً لموتٍ عاجلٍ يُوقف ذلك الألم الرهيب.
لم نكن نقوى على النظر إلى وجهه المهشّم، وقد خرجت عينه اليسرى من موضعها، وشُقَ جانبٌ من وجهه كاشفاً عن عظم فكه، وتدلّتْ نصف أُذنه التي مزّقتْها ضربةٌ من عصا غليظة، وخرج لسانه أزرقَ ضخماً من كثرة ما عضّ عليه وهو يتقلّب في حمأة التعذيب.
بقينا ساعاتٍ قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وسط دموعنا ودعائنا، وكان الحرس يطلّ كلَ ساعةٍ متسائلاً ببراءةٍ قذرة: (ألمْ يمُتْ صاحبكم بعد)؟
وحين أخبرنا الحارسَ بموته، أجاب بأنهم يعرفون، وتركوه إلى المساء مسجّى في وسط المهجع، ملفوفاً ببطانية عسكرية، حملوه بها في المساء إلى حفرةٍ في الصحراء خارج السجن، حيث انتهى حال المئات، بل الألوف، من أصدقائنا.
هكذا يصنعون الجلاد، الذي سيكون من الغد وحشاً ضارياً، يمتّعه مشهد الدم النازف من الوجوه والأطراف، ويطرب لصرخات المعذّبين وهو يجلدهم، ويتفنّن في رسم أقسى صورةٍ للرعب على وجوه ضحاياه.
- لقد صنعوا اليوم الأُلوف منهم، وأطلقوهم في مدننا مسوخاً ضاريةً، لا يرتوون من الدم.
سأحكي يوماً ما، أننا خرجنا من ذلك السجن الرهيب، واستقبلنا الحياة بإرادةٍ قويةٍ.
بينما بقي “هوشابا” مسخاً قذراً، شبهة إنسانٍ يعيش في كوابيس سوداء من مستنقعات الدم وصراخ ضحاياه.
مواد شبيهة:
حين أنسانا غازي الجهني رعب سلفه