في بداية وجودنا داخل سجن تدمر، كان تنفيذ حكم الإعدام بالعسكريين، يتم رمياً بالرصاص، في منطقةٍ قريبة من السجن العسكري في ظاهر صحراء تدمر
26 / حزيران / يونيو / 2020
*مع العدالة | محمد برو
من المعروف أنَّ لحكم الإعدام نصٌّ يصدر وفقه، على النحو التالي: (الإعدام شنقاً حتى الموت). إلّا أن أشياء فظيعةً تصدر عن بعض المجرمين، تخلّد فظاعتَهم ووضاعتَهم ومدى تشرّبهم بالحقد الرخيص، إنها مأساة “عبد الرزاق” الذي كان محكوماً بالإعدام، وقد أُعدم زهاء عشر مرّاتٍ أو يزيد! لقد كان على عداءٍ شخصيٍّ مع شقيق “حافظ الأسد”، قائد قوات سرايا الدفاع “رفعت”.
وكان “رفعت الأسد” مكتمل القماءة في كل تفاصيله، فعلاوةً على غطرسته وروحه النزاعة للقتل وتمكّن الحقد من قلبه بشكلٍ أرعن، تجاه كلّ مَن خالفه، فقد كان يتلذّذ بتعذيب مخالفيه ومعارضيه، وقد صدر الأمرُ عنه، أن يُعدم المقدم “عبد الرزاق” مراتٍ متوالية دون أن يصل إلى حدّ الموت.
في بداية وجودنا داخل سجن تدمر، كان تنفيذ حكم الإعدام بالعسكريين، يتم رمياً بالرصاص، في منطقةٍ قريبة من السجن العسكري في ظاهر صحراء تدمر، وكانوا يصحبون صاحبنا “عبد الرزاق” فتُعصب عيناه، شأنه شأن باقي العسكريين المحضَّرين للقتل في تلك الصبيحة، وبالفعل يتم رميُ الجميع بالرصاص، ويُستثنى وحدَه من الرمي، وهو معصوب العينين لا يعلم سببَ عدم وصول الطلقات النارية إلى صدره كما الآخرين!
وبعد الانتهاء، يأمر العقيد “شمس” رئيس جهاز الشرطة العسكرية أن تتم إعادته ليُعدم لاحقاً مع قائمةٍ تالية، فيعود صاحبُنا وقد وقف على بوابات الموت وودّع حياته، لكن لم يؤذن له بالعبور، فيبقى على حالةِ الانتظار الرهيبة، لا يعرف متى تحين نهايتُه.
في المرة الثالثة، خرج المقدم “عبد الرزاق” وهو على يقينٍ أنه ميتٌ لا محالة، وما هي إلّا ساعاتٍ، حتى عاد متسربلاً بدمه من رأسه حتى أسفل قدميه، لقد كان بين المُساقين إلى ساحة الإعدام العميد الركن “سحبان”، وهو بطلٌ من مدينة “دير الزور” عميداً في الكلية الحربية، وكان رجلاً قويُّ الشكيمة ثابت الجنان، لا يقِيم للموت وزناً، فاقترب منه العقيد “شمس” وكان قد تدرَّب على يديه، حين كان العميد “سحبان” متقدماً عليه حينها، ومعلومٌ أنّ المتقدمين يشرفون على تدريب المستجدّين ويعاملونهم بقسوةٍ مضاعفة، بُغية تشريبهم الروح العسكرية، التي تقوم على تمام الانضباط والطاعة العمياء والخضوع لمن هم أعلى رتبة.
اقترب العميد “شمس” من صاحبنا “سحبان” وسأله:
– هل تتذكرني؟
– بكل تأكيد، أتذكرك وأتذكر ضعفك البادي أيام قدومك إلى الكلية الحربية.
– لماذا كنت تبالغ في قسوتك في تدريبنا؟
– كي نصنع منكم رجالاً.
ويبدو أن العميد “شمس” أحبّ أن تُذكر له مكرُمة، أو أن يُظهر لمتقدّمه العسكري مبلغ سلطته الآن ومدى سطوة أمره، فسأله:
– هل لك مطلبٌ أخيرٌ أحققه لك، قبل أن يطلقوا عليك النار؟
وكما هو معلوم، فإنَّ هذا العرض بتلبيةِ الطلب الأخير للمحكوم بالإعدام، هو عرفٌ جرتْ عليه عادات مَن يملك الأمر، ويُعدُّ هذا من نبْل القاتل وتمكنه من ضحيته.
فأجابه العميد “سحبان” بأنه لا يريد من هذه الحياة التافهة إلّا شيئاً بسيطاً جداً، لكنك لن تستطيع إنجازه!
وكانت هذه العبارة الأخيرة محض تحدٍّ واستخفافٍ بسلطة العميد “شمس”، الذي وجدَ في هذا إهانةً له ولما يتمتع به من سلطات، فأصرَّ على الإفصاح عن هذه الرغبة البسيطة، فما كان من صاحبنا المُقْدم على الموت إلّا أن طلب أن يحضر له كرسياً وطاولةً صغيرة وفنجانَ قهوةٍ يحتسيه قبيل موته، وطلب أن يُرمى بالرصاص وهو يتناول رشفتَه الثالثة من هذا الفنجان.
استهجن العميد “شمس” هذا الطلب، ووجد به عبثاً غير مفهوم، وأمام إصرارِ صاحبنا، أمر العميد “شمس” بتلبية طلب السجين. فأُحضرتْ ركوةُ قهوةٍ من السجن القريب وجيء بكرسيٍّ وطاولة، وجلس العميد “سحبان” على كرسيه وارتشف رشفاته الثلاثة بكلٍ هدوءٍ وهو ينظر إليهم باستخفاف، وعند رشْفته الثالثة تم إطلاق النار عليه كما رغب، وكان مصورُ الفيديو يوثّق هذه اللحظات، التي تُنقل كما جرت العادة إلى القصر الجمهوري في دمشق.
حين انتهوا من رمي الضباط المحكومين بالإعدام، تنبّهوا إلى فداحة الاستخفاف الذي قابلهم به العميد “سحبان”، وأدركوا مقدار التعنيف الذي سيصلهم من القصر الجمهوري، لهذا الفعل غير المدروس، لقد استقبل رصاصَهم وهو يرتشف فنجان قهوة! لم يكن ليخطر ببالنا ونحن نصغي إلى المقدم “عبد الرزاق” وهو يقصّ علينا ما شاهدَه وسمعه بأمّ عينه وأذنيه، أنَّ هناك ازدراءً للجلاد فوق هذا الازدراء، وكيف ثارت ثائرةُ ضباط القصر الجمهوري المشاركين في حفلة الإعدام هذه، على العقيد “شمس” الذي سمح لضحيته أن يُهينهم جميعاً وهو يستقبل الموت بازدراءٍ عزَّ نظيره.
وبتوالي الأيام، علمنا أن جهاز الأمن الخاص بالقصر الجمهوري، قد أبدى غضباً شديداً لما حصل في حقل الرمي مع العميد “سحبان”، وأصدر قراره بوقف إعدام العسكريين رمياً بالرصاص، كما نصّتْ القوانين، والشروع بإعدامهم بحبل المشنقة شأنهم شأن جميع المحكومين بالإعدام.
وكان صاحبنا “عبد الرزاق” يهيئ نفسه كلّ أسبوع لينضم إلى قافلة من سيتم إعدامهم، وحين تنتهي حفلة الإعدام، كانوا يعيدونه إلى مهجعنا، ويتكرر الفعل شهرياً، على مدى أشهرٍ سبعة، يئسَ بعدها من أن يكون فعلاً ممّن سيُعدمون في هذا السجن.
في نهاية عام 1984، وبعد خروج “رفعت الأسد” من سورية، تم إعدام المقدم “عبد الرزاق”، وانتهت بموته صفحةٌ أليمةٌ من التعذيب بالشنق دون بلوغ حدِّ الموت.
مواد شبيهة:
حين أنسانا غازي الجهني رعب سلفه