#########

الضحايا

الدماء على قارعة النخيل “2”


أعرف.. أن أغلب الجنود كانوا  مكرهين  في بداية الثورة، ولا يعرفون ما حجم الدهاء والخبث اللذين يعمل عليهما نظام الأسد، ولا حتى بعد المجزرة الأولى في درعا، وفي دوما، وحمص.. وهم وقتها يعتقدون أنّ هناك دخلاءَ في سورية، بحسب رواية النظام!

28 / أيار / مايو / 2020


الدماء على قارعة النخيل “2”

 

 

*مع العدالة |  أحمد بغدادي

 

“من حصار حي الجورة في دير الزور 2011 “

(2/4)

***

 

قبل الحاجز بمسافة قصيرة وقف “محمد أبو السيد”، والتفتَ نحوي، وكأنه يريد أن يخبرني عن أمرٍ ما؛ لدقيقة، هكذا، وأنا أنظر إليه من بعيد، وأتفحّص الحاجز بعينين متعبتين وكأنني فريسة أطبقَ ذئبٌ بفكيه على عنقها وأخذت عيناها تخبو رويداً رويداً ..

لاحظتُ حركةً عشوائية عند الحاجز، جنوداً يخرجون، من باب غرفة إسمنتية قريبة من جدار معسكر الطلائع، ويشيرون بسواعدهم بشكل عشوائي؛ للحظة، فكرتُ بالعودة حيث بيت جدي، لكن، شيئاً ما سمّرني في مكاني، وأنا أنظرُ متجمداً نحو الحاجز، والجنود. والغبي الذي يحمل صاروخاً صغيراً في الكيس، سار بخطواتٍ بطيئة تجاه الدبابة، تلك التي كنّا نتصورها تقفُ شامخةً على هضبة الجولان وتوجعُ الصهاينة بصليات نارية لاستعادة أراضينا المحتلة.. لكن، هيهات!

أشحتُ بقلبي نحو اليمين، تجاه الفرات، وغرقتُ في عمقي، ولم أطفُ، لم أصل إلى ضفّة الانتباه  حتى وجدتني أمشي مسرعاً نحو الحاجز، وأنا أتمتم داخلي كمن  يحاكي ظله، وأخذتُ أردّدُ أغنية عراقية للمطربة زهور حسين “زماني ما ضحك وياي مرة“، أذكر هذا الموقف، أكثر من أي شيء.  وحينما  وصلتُ عند الحاجز كان “أبو السيد” يتضاحك مع الجنود، وفعلاً، زمانه يضحك معه! لكن، كيف؟ وهؤلاء يقتلون أبناءنا وأهلنا!

 

 

أعرف.. أن أغلب الجنود كانوا  مكرهين  في بداية الثورة، ولا يعرفون ما حجم الدهاء والخبث اللذين يعمل عليهما نظام الأسد، ولا حتى بعد المجزرة الأولى في درعا، وفي دوما، وحمص.. وهم وقتها يعتقدون أنّ هناك دخلاءَ في سورية، بحسب رواية النظام!

كان هناك ممرٌ ضيق إلى جانب الحاجز، يلاصق الرصيف، وكأنهم يريدون به معبراً للأغنام لا للبشر! وهكذا، فعلاً، فأنا  رأيتُ  ثلاثة  خراف  بقرون ملتوية مربوطة إلى عمود كهرباء جانب الدبابة، نعم، هذي لربما من خراف “بيت السنجار”..!

صاح بي “أبو السيد”.. “تعال، اقترب، هؤلاء يحبون الشعر، وقلتُ لهم إنك شاعر؛ وهذا الشاب من قرى مدينة جبلة يريد قصيدة لحبيبته”.

لم أعره اهتماماً، ومضيتُ حذوهم بعد أن عبرتُ الحاجز وألقيتُ التحية بإيماءة، وكأنني عابرٌ ما، أو أحد الخراف الشاردة بين فوّهة الدبابة وضفة الفرات!

فنهرني أحدُ الجنود بصوتٍ عالٍ، وأضاف إلى تذمره شتيمة طالت الشاعر “سليمان العيسى”. نعم، فهم لم يعرفوا من الشعر في مدارس البعث وجمهورية “حافظ الأسد وديسمه” سوى “قفز الأرنب، وعمي منصور النجار، ودمك الطريقُ..!!”

ليس احتقاراً من شخص سليمان العيسى كإنسان، لكن، هذا ما درج عليه نظام الأسد باستمالة الشعراء، وأنا أكره الشاعر في الذوات التي تُباع للطغاة، وخاصةً المعاصرين، ابتداءً من الجواهري ووصولاً بــ سليمان العيسى وغيرهما من شعراء البلاط.

تبعبتُ رائحة الزيزفون على ضفاف الفرات القريبة، ولم أصغِ للصيحات القادمة من خلفي، حتى سمعتُ خطواتِ هرولة وكلماتٍ لم أفهم منها شيئاً حتى التفتُ لأرى “أبو السيد” يهرول تجاهي وهو يبتسم!

قال لي  ورذاذ  لعابه يتطاير  في وجهي ” لمَ أنتَ خائف؟ هم أغبياء ولم يعرفوا عنك شيئاً سوى أنك موظف جديد في شركة المياه، وأنا جئت وإياك كي أرشدك إلى مركز المضخات؛ لقد كذبتُ عليهم، ولم يكترثوا لأجلك..”

 

“نهر الفرات وقت الغروب” – أنترنت

 

كان الكيس البلاستيكي لمّا يزل في كفّه، وقتها انتبهتُ، فأخذتُ شهيقاً عميقاً، وأضفتُ بتذمّر” حماقتكَ هذه وعدم اكتراثك لخطورة الموقف وأنت تحمل هذه القذيفة أو الصاروخ وتعبر الحاجز، كادت تفضي بنا إلى القتل أو الاعتقال!”

-أشار بظاهر كفّه أمام وجهه وكأنه يطرد ذبابة أو يريد أن يقول لي ” انسَ، ولا تهتم بشيء..”

وصلنا إلى مركز مضخات المياه، وهو مطلٌ على منطقة البغيلية، وقريب من جسر المحلجة، على كتفِ نهر الفرات.. وما هي إلا دقائق من عبورنا الممر الترابي الطويل تجاه غرفة الحارس ( الموظف)، الشخص الذي أعرفه، حتى صاح “أبو السيد” واضعاً  كفّه إلى جانب شدق فمه ” محمد .. محمد .. أبو جاسم، أين أنتَ؟”

خرج محمد من غرفة الحراسة، وبيده بندقية صيد، مرتدياً قميصاً داخلياً أبيضَ، مع بنطال مطوٍ حتى ركبتيه، وهو يجيب مستفسراً ” مَن.. من هناك؟”

فأجبتُ مستدركاً “أبو السيد” قبل أن يتفوّه بكلمة ” زمان يا صاحبي”.. وأنا أفتح ذراعيّ وكأنني أريد استقبال مسافرٍ عزيز، غاب عني دهراً؛ فالمشهد هنا قد انعكسَ، فأنا القادمُ من المجهول حيث الطاغية يتلذذ بلحوم أهالينا في ريف دمشق ودرعا وحمص، والآن، محمد، الشخص الدمث، صاحب القامة المحنية أعدّه المسافر أو الغائب!

 

بعد أن احستينا القهوة وأكلنا بضعاً من الثمار المتساقطة من أشجار الفرات وتذرعنا لبعضنا عن أسباب عدم صيامنا، وتمشينا على الضفّة، أمام نبات البردي والأشواك برفقة نقيق الضفادع وصوت محركات مضخات المياه، التي تدور راقصة مع دوي الانفجارات البعيدة أمام مشاهد الدخان المتصاعد عبر الجزر المائية والقرى القريبة، قلتُ لــ محمد على انفراد حيث كان “أبو السيد” مشغولاً بمكالمة هاتفية بعيداً عن ضوضاء المحركات” يحمل هذا الولد صاروخاً في الكيس، وكاد أن يلقي بي في التهلكة عند الحاجز لولا حظي أو غباء الجنود..”

 

*اندهش بعد أن شهقَ واصفرَّ لونه وأضاف ” ابن الحرام، هذا “العجي” (الصبي) يريد أن يأخذنا وراء الشمس، أو يتسبب بمقتلنا هنا!”

لم يكمل إجابته  ومخاوفه حتى صاح به أن يأتي  إلينا، وما  إن وصل أمامه حتى صفعه صفعتين سريعتين صارخاً في وجهه ” أنتَ حيوان.. هل تظن أن هذه بطولة؟! وكيف باستطاعة هذه القذيفة أن تحميك؟ إنكَ تورّط نفسك وقد تصل الأمور إلى كارثة”.

أخذ الكيس من يده، ودون أن يظهر ” أبو السيد” أية  ردّة فعل، أو أي جواب على صفعه وتوبيخه، أخرج محمد الصاروخ الصغير، وقد كان لونه قريباً من الأحمر وفي مؤخرته قطعة معدنية لولبية، ولم يتجاوز طوله 15 سم تقريباً، وبسرعة، رماه بعيداً في النهر، مسافة عشرين متراً، وهو يتلفّظ بالشتائم والسُباب المترافق بالنزق ورذاذ اللعاب أيضاً …!

 

“من ضفاف الفرات دير الزور” -أنترنت

 

توجهنا إلى غرفة الصديق القريبة من الممر الترابي، بعد أن قلت له إنني أريد النوم، فأنا منهك وعيناي أخذتا بالإطباق من فرط النعاس؛ ولم تمر ساعة تقريباً على غفوتي حتى استيقظتُ فزعاً على أصوات  الرصاص والصرخات القريبة من الغرفة، فنهضتُ مسرعاً لأرى جنوداً يتراكضون عبر الأشجار القريبة من مضخات المياه ويطلقون النار بشكل عشوائي تجاه البعيد…

لم أعرف مالقصة ! إلا أنني أخذتُ أبحثُ عن “محمد” و “أبو السيد”، فلم أرَ أياً منهما، وبحركة لا إرادية تراجعتُ إلى الوراء ببطء،  ودخلتُ الغرفة  لآخذ  حقيبتي  الصغيرة،  واتجهتُ  نحو شجرة  تين  عند الضفة  وتسلقتها حتى آخرها، وأنا أراقبُ الجنود، وسيارات “الجيب واز” تشقُ الطريق الترابي بعشوائية تاركةً خلفها عاصفة من الغبار والأسئلة..!


  


لقراءة الجزء الأول:

الدماء على قارعة النخيل..!

يتبع..