عقب الانفجار، واستمرار طنين أُذنيّ وكأن سرب نحل يحوم في رأسي، قررتُ التسلل رويداً نحو الضفّة، والسير حذوها حتى أتجاوز معسكر الطلائع
14 / حزيران / يونيو / 2020
*مع العدالة | أحمد بغدادي
“من حصار حي الجورة في دير الزور 2011 “
(3/4)
***
لم أدرِ وقتها ماذا أفعل بعد أن تسلقتُ الشجرة وأنا أراقبُ سيارات الجيش والجنود يطلقون النار بشكل عشوائي تجاه الدغل ــ نحو ضفّة الفرات!
أبو السيد وصديقي محمد قد اختفيا، والعودة من الطريق ذاته الذي جئتُ عبره أنا وأبو السيد المفضي إلى معسكر الطلائع، كي أعودَ إلى حي الجورة، ليست بفكرة جيدة، فالجنود منتشرون، ولا أدري لماذا هذا الاستنفار؛ فهم منذ ساعات كانوا وكأنهم في مقبرة؛ الهدوءُ يضرب أطنابه حتى في مؤخرات أمهات الضباط المسؤولين عنهم في هذا التجمّع العسكري غير الشرعي!
نزلتُ ببطءٍ نحو الأرض، كأنني “ديسم” (دب صغير) قد تورّط وصعدَ على شجرة. وأنا أهبطُ وأعدُّ أنفاسي بحذر، خشية رؤيتي من قبل أحد كلاب المعسكر، سمعتُ صوتَ انفجار كبير، هزّ حتى الفراغ.. نعم، تخيّل إليّ أن الفراغَ عبارة عن شيء ملموس، فتداعت أركانه جرّاء هذا الانفجار.. وتساقطت ثمرات التين وقلبي سقطَ أيضاً قبل جسمي إلى الأرض!
عقب الانفجار، واستمرار طنين أُذنيّ وكأن سرب نحل يحوم في رأسي، قررتُ التسلل رويداً نحو الضفّة، والسير حذوها حتى أتجاوز معسكر الطلائع، لكن، للأسف، بعدما مشيتُ منحنياً مسافة خمسين متراً تقريباً، ظهرت أمامي غرفة مشيّدة من القش والطين، وحيدة، تقفُ كأنها تحرسُ الأبد المتحجّر على شاطئ الفرات، أو أرواحَ من غرقوا عبر السنين!
تبيّن لي أنها غرفة مهجورة، وهي عبارة عن غرفة محركات ضخّ مياه، تقفُ عقبة أمامي، ولا طريق لعبوري سوى أن أسبح كي أتجاوز مكان الخطر، أو أعود أدراجي.
- سبحتُ مسافة طويلة، مع الضفّة، بالقرب من القصب والبردي، لئلا يراني أحدهم، وكأنني قندس، أو سلحفاة ضخمة!
بعد أن خرجتُ من الماء، وأنا أحمل حقيبتي الصغيرة التي كنتُ أحاول أتحاشى أثناء السباحة أن تصاب بالبلل، صاح بي رجلٌ كهل، شيخ، عمره تقريباً 60 سنة، يحمل فأساً، فاقترب مني وأنا أمشي تجاهه، وسألني عن اضطراري للسباحة بلباسي، فأجبته أنني حاولتُ تجاوز منطقة مغلقة على الشاطئ، بالأعشاب وغرف المحركات، وكنتُ خائفاً من استنفار الجنود، فأضاف جملة بعثت الطمأنينة في قلبي ” هؤلاء الخنازير، سوف ينتهون قريباً مع رئيسهم الكلب”.
استرحتُ عنده، في الأرض الزراعية التي يملكها، وشربتُ الشاي، وحدثته عن وجهتي وشأني، حيث شعرتُ أنه يشبه جدي، فأرشدني إلى طريق مختصرة وأنا بصحبته، حتى وصلتُ إلى مشارف حي الجورة، التي تفضي إلى شارع الوادي، فجعلتُ أمشي بحذر بين الأحياء الخاوية، بعدما ودّعته وشكرته، حتى وصلتُ أمام بيت جدي.
“ديرالزور : حي الجورة 25- 3- 2011 خروج مظاهره نصرة لمحافظة درعا”
ظللتُ ساعتين تقريباً، وأنا في انتظار المجهول، حتى جاء خالي برفقةِ صديقه على دراجة نارية؛ تعانقنا، وهو في دهشة وقد تفاجأ بقدومي، فسألته عن أحوال الناس، فلم يضف شيئاً من الذي أعرفه، سوى أنه قال لي ” إن الجيش يتحضّر لاقتحام الحي بشكل واسع، وقد يفضي الأمر إلى مجزرة لا سمح الله”.
دخلنا بيت جدي بعد أن أزاح خالي السلسلة الحديدية والقفل على الباب الخارجي، فكان المنزل شبه مهجور، يزدحم بأوراق الشجر المتساقطة، والسكون يضجُّ فيه، علاوة على أوانٍ بلاستيكية ومعدنية متناثرة هنا وهناك!
قرر خالي أن أذهب وإياه إلى بيت أحد أصدقائه القريب من مدرسة “عدنان عقاب” المطلة على شارع الوادي، فهو يقطن مع أخيه الصغير ، وحين وصلنا إلى هناك، رأيتُ بعض المارة، نعم، كان أغلب الناس يختبئون في بيوتهم، من الذين لم يفرّوا إلى الريف، وخاصةً الشيوخ وبعض الشباب، فلم تتجاوز الساعة وقتها السادسة عصراً، فتعرّفت على الشابين (محمد وحمزة) وأخبرهما خالي أننا سوف نبقى عندهما ريثما تستقر الأمور، فرحّبا بنا، وغادر خالي وصديقه لجلب مخزون من السجائر والمعلبات من صديق لديه مستودع قريب، ولم أتصوّر وقتها أن القادم سوف يكون جحيماً!
بعد يومين ونحن لدى أصدقاء خالي، نترقّب المجهول، ونشاهد الأخبار بين الفينة والأخرى، حينما تأتي الكهرباء التي تنقطع ساعات طويلة في النهار والليل؛ أخبار درعا وحمص، والتقتيل الممنهج والقصف على الأحياء المدنية، واتصالات شهود العيان على قناتي العربية والجزيرة، والنقل المباشر للمظاهرات، بدأ حي الجورة يضجّ كل يوم مساءً بدوريات الأمن والشبيحة، وكأنهم يراقبون شيئاً ما، تزامناً مع صوت انفجارات خفيفة، وأحياناً، ضخمة، تأتي من بعيد.
تواصلتُ مع أهلي على الهاتف الجوال، بعدما عادت “تغطية الشبكة” وجلب خالي لي بطارية عوضاً عن تلك التي خبّأتها تحت الحجر قبل معسكر الطلائع، وعرفتُ أنهم بخير، مع أهالٍ آخرين، وهم بعيدون عن الخطر.
في الأسبوع الأول من شهر رمضان، كانت الأمور تسير بشكل طبيعي، باستثناء قدوم كلاب الأمن وبضع عربات عسكرية تجوب الشوارع، دون أن يفعلوا شيئاً، وعقب رحيلهم، تخرج مظاهرات سريعة بعد صلاة التراويح، لا تتجاوز أعدادها عشرين شخصاً، وأغلبهم من الشباب المراهقين، وكأن الحي أخذت الحياة تعود إليه!
كانت الأحياء الأخرى في مدينة دير الزور تضجّ بالمظاهرات، مثل حي الجبيلة، والحميدية ودوار المدلجي والتموين، والشيخ ياسين، والعرفي، والقصور، وحي العمال… إلا أن حي الجورة كان الهدف الأول للنظام، كونه من الأحياء الأولى التي خرجت ضده، إضافة إلى قربه من قواته العسكرية، ولدى النظام مجاميع عسكرية وحشود على أطرافه.
“دير الزور 2011-7-25. مظاهرات تتجه الى دوار المدلجي”
بعد مرور يومين من الأسبوع الثاني، بدأ الجيش والأمن باقتحام الحي سيراً على الأقدام، ترافقهم بعض السيارات الأمنية، وأخذوا يخلعون الأبواب، ويفتشون داخل البيوت، فاضطررنا للخروج أنا وحمزة ومحمد وخالي نحو شارع آخر، حتى تجاوزوا بيت الآغا، ولحسن الحظ، أنهم لم يدخلوا، إذا قال لهم (للضابط والعناصر) رجل كبير في السن، أن أهل هذا البناء موظفون لدى الدولة، وهم الآن مسافرون إلى الريف، وليس لديهم شباب، كلهم فتيات، هكذا علمنا منه، عندما عدنا متجاوزين دوريات الجيش والأمن عن طريق جامع التوبة، عبر الحارات الفارغة التي خلفه؛ طبعاً كانت أصوات الرصاص قوية بشكل لا يصدق، إضافة إلى نباح كلاب الأسد؛ ونحن نرى من بعيد أناس مدنيين منبطحين على الأرض، وغيرهم بشكل عشوائي تم إطلاق الرصاص عليهم، ورميهم أمام أبواب منازلهم!
علمنا بعدها أنهم من عائلات قاومت النظام بالسلاح في أحياء أخرى، ومنهم قُتل لمجرد أن شخصاً ملثماً مع الجيش وشى بهم واتهمهم بالمشاركة في المظاهرات!
لم يمت وقتها سوى سبعة أشخاص، هذا ما سمعنا به.. أما الذين تم اعتقالهم، فتجاوزوا 14 شخصاً، هذا في اليوم الأول من الاقتحام.. حيث كان نزهة هذا اليوم أمام الأيام القادمة عندما دخل الجيش بالدبابات لاحقاً مقتحماً حي الجورة من بدايته حتى وصل إلى حي القصور والعمال.
لقراءة الجزء الأول والثاني: