#########

الضحايا

لا شواهد لقبور السوريين


لم يكن لديه خيار فقد أمسك علبته البلاستيكية، وتبول فيها وهو عاجز عن الوقوف لما لحق بأعضائه من جروح وكدمات وربما تكسير، وما أن انتهى حتى انزاح عنه شطرٌ من الألم، وصار نهباً لألم العطش الذي لا يطاق.

17 / نيسان / أبريل / 2021


لا شواهد لقبور السوريين

 

 *مع العدالة | محمد برو 


ليس من السوريين من لم يجرب توديع عزيزٍ عليه، في رحلة النهاية من هذا العالم البائس، فقد عرف السوريون العشرات من مرافئ الموت، التي كانت تنتظرهم وهم يعبرون من بلاد أضحى الموت فيها عالماً مشتهى لمن ينشد الخلاص، أو ينتظرون قدرهم في بلاد يتراقص الموت الأسود فيها على إيقاع الحرب الدائرة، وجولات المصالح المتصارعة.

واليوم ونحن نودع في كل يومٍ صديقاً أو حبيباً في مدن الشتات أو في مدن الحصار السورية حيث يقيم من بقي من السوريين “معارضين ومؤيدين” في مدنهم كرهائن لهذا النظام المتوحش، تختلط علينا المشاعر بين لوعة الفقد وفرحة الخلاص الذي يحمله ذلك الموت.

هناك في مدن خرجت عن سيطرة النظام، يتمتع المحتجزون فيها بحظٍ أوفر في الموارد وسبل الحياة اليومية، رغم الغلاء الكارثي، بينما يظللها الموت عبر القصف المدمر كل حين، وفي مدن أخرى ما تزال ترزح تحت سيطرة النظام وداعميه، حيث يعيش القاطنون بمنجاةٍ نسبيةٍ عن القصف والتدمير، إلا أنهم يعيشون إذلالاً غير مسبوق في تحصيل لقمة العيش، ورغيف الخبز وحبة الدواء، وأبسط مستلزمات الحياة اليومية، بينما تصول عصابات الأمن وميليشيات القتل بشكلٍ يومي في أحيائهم وبيوتهم، فلا يعرفون للأمان طعماً.



صديقنا “أبو سامح” واحد من عشرات آلاف السوريين، الذين عاشوا سني عمرهم وهم يحلمون بما يعيشه أقرانهم ببعض الدويلات العربية. يا له من حلمٍ متواضعٍ هزيل. تم اعتقاله وهو لم يبلغ السابعة عشر من العمر بعد، وعذب عذاباً شديداً طيلة يومٍ كامل، دون أن يعرف سبباً لتعذيبه أو اعتقاله أصلاً. ثم غاب عن وعيه وحين أفاق كان مرمياً في زنزانة مظلمة لا يرى فيها حركة أصابعه. ولم يكن ساعتها يقوى على الحراك لشدة ما ناله من ضرب وتعذيب، لكن ألم احتباس البول في مثانته كان الأشد فتكاً.

بهدوءٍ شديدٍ وحذرٍ، بدأ يحرك أصابعه ليكتشف المكان الذي هو فيه، لم يطل به الأمر فالحيز الذي رمي فيه يمكن ملامسة جدرانه بيده إن هو أطلقها في أي اتجاه، أي أن الزنزانة لم تكن تتجاوز المتر ونصف طولاً وعرضاً! وحين أخذ يتحسس الأرض، لمست كفه علبة بلاستيكية بحجم لترين على وجه التقريب، لكنها فارغة وجافة، وقد فقد أيَّ أملٍ في أن يجد قطرة ماء، يحرر بها لسانه الذي التصق بحلقه، كان يشعر بطعم الدم الجاف والقيح في فمه وبين أسنانه، ولم يكن يستطيع التمييز بين الأشد إيلاما له، الم احتباس البول، أم ألم العطش الحارق في بلعومه.

لم يكن لديه خيار فقد أمسك علبته البلاستيكية، وتبول فيها وهو عاجز عن الوقوف لما لحق بأعضائه من جروح وكدمات وربما تكسير، وما أن انتهى حتى انزاح عنه شطرٌ من الألم، وصار نهباً لألم العطش الذي لا يطاق.

لا يعرف كم ساعة هزئت عقاربها به وهو نائم متقلباً بين الحياة والموت، وكان ينتظر الموت انتظاره للخلاص، لكنه في ساعةٍ من ساعات عربدة الألم خارت قواه، ولم يبق لديه نأمةٌ من أمل، ففزع الى علبته البلاستيكية المملوءة ببوله، وأفرغها في جوفه دفعةً واحدةً، ثم تهالك وغاب عن وعيه مرةً أخرى، وحين أفاق من غيبوبته كان في حجرةٍ بيضاء متسخة، وحوله بضع رجال يرغمونه على شرب أبريق ماء مالحٍ، لحثه على التقيؤ، فقد تسممت أمعاؤه وانتفخ جسده وباتت الحشرجات تنبعث من جوفه الملوث، الأمر الذي دفعهم للمسارعة في إنقاذه، طمعاً بما يمكن أن يعترف به من معلومات لاحقاً.

خرج هذا الفتى من سجنه بعد خمسة عشر سنة، أمضى ثلثيها في سجن تدمر وذاق من أهواله وعذاباته ما تنوء بعرضه آلاف الصفحات، وبقي محتجزاً في مدينته ممنوعاً من السفر، خمسة عشر سنة أخرى، وحين لاحت تباشير الثورة كان في مقدمة من سارعوا ليقدموا العون والخدمة الطبية والإنسانية للضحايا، إلى أن ألجأه المرض وضيق الحال للهجرة القسرية، وهناك تعاورته آلام الغربة والإحساس بالعجز مع مرض السرطان فأنهوا عذابه ومعاناته بعيداً عن بيته ومدينته.

واليوم جاءت نعوته برسالةٍ مقتضبةٍ من صديق تقول: “أبو سامح مات في المشفى منذ نصف ساعة”.

هكذا انتهت رحلة طويلة من القهر والعذاب جاوزت الأربعين عاماً، هذه واحدة من عشرات آلاف قصص الموت قهراً في المنافي التي لا شواهد لقبورنا فيها ولا عناوين. كيف لنا أن نحلم بعدالة أرضية لهؤلاء الضحايا، الذين أمضوا حياتهم بين طغيان المستبدين وقضبان المعتقلات وشقوة مدن الشتات وسطوة الموت.


 


المزيد للكاتب:

السوريون وإرهاب الدولة

ناجٍ من المقصلة لمحمد برّو: حين يصبح الملح حلماً