#########

الضحايا

مخيّم اليرموك.. بين عقدة النظام وهاجس “شارون” 2


عند مدخل مخيم اليرموك كان جيش النظام يقوم بإعدامات واعتقالات دورية، عن طريق شخص يضع قناعاً و يشي بالناس الذين شاركوا في المظاهرات أو لديهم ممارسات وأفكار ضد نظام الأسد.

27 / تشرين أول / أكتوبر / 2018


مخيّم اليرموك.. بين عقدة النظام وهاجس “شارون” 2

 

 _توثيق سيرة الموت والحصار_

الجزء الثاني 

*معاذ حسن 

 

شاع عن مخيم اليرموك الكثير من المقولات التي تبرز هويته المختلفة عن باقي الأماكن . المخيم لا ينام كبقية المناطق الأخرى ، المخيم يعطي دروساً في الحراك السياسي لعواصم ومدن كبرى ، المخيم ذاكرة الفلسطينين المتبقية عن وطنهم . أيضاً في الحرب والحصار أخذ طابعاً مختلفاً عن كافة مناطق سوريا .

بدأت ملامح المخيم بالتشوّه مع أول حادثة عايشتها عام ٢٠١٢  .حين تم إعدام  “عبد الله محمد” بطريقة إجرامية هوليوودية.

كان عبد الله أحد النازحين من الجولان المحتل المنشقين عن جيش النظام ، وبالتالي فهو لايملك بطاقة شخصية، تبعاً لقوانين الخدمة الإلزامية التي لا يسترد فيها العسكري بطاقته الإ عند التسريح .

حدث أنه كان برفقة صديقه “رأفت السيد أحمد” من مواليد إدلب، ليتم إيقافهم من قبل دورية عسكرية أمام مدرسة القدس في شارع عريض يربط منطقة حي التقدم بالحجر الأسود .

يسأل الضابط المسؤول عن البطاقات الشخصية ، يجيبه عبد الله بأنه نسيها في المنزل ، إذا أردتم التحقق تعالوا معي، محاولاً  كسب الوقت والإيحاء بأنه لايوجد ماهو مخالف للقانون . تظهر طائفية الضابط بعبارة : ( إنتو السنة عم تعملو مشاكل كتير ).

لديك ثلاث دقائق لتركض وتختفي من أمامي .

 

ظن عبد الله أنه تحدي من قبل الضابط إذا ما كان يستطيع التواري عن الأنظار في شارع طويل، بمدة قصيرة منحه الضابط إياها ، فيسارع بالركض محاولاً النجاة من مأزق محتوم. وهنا يبتسم الضابط في وجه جنوده ويقول من يستطيع إرداءه قتيلاً أولاً له مني مكافأة خمسمائة ليرة سورية ، لينهال الرصاص على جسد عبد الله و يغادر الحياة.

 

كانت هذه الحادثة من أولى الجرائم التي ارتكبت في ذاك الوقت ، لتتوالى بعدها الأحداث بانتهاكات من هذه الشاكلة ، قبل أن يصبح المخيم منطقة عسكرية تعبث بها الميليشيات العسكرية و مخابرات النظام في الداخل . ناهيك عن قرار تدميره بالمدفعية و الطيران الحربي و كافة الوسائل التي من شأنها دفن المكان وطمس هويته .

هذه الأحداث التي بطبيعة الحال ستخلق الفوضى و تودي بالناس إلى حالات الهلع التي سينتج عنها تصرفات تخدم النظام في خطة عمله .

فعند مدخل مخيم اليرموك كان جيش النظام يقوم بإعدامات و اعتقالات دورية ، عن طريق شخص يضع قناعاً و يشي بالناس الذين شاركوا في المظاهرات أو لديهم ممارسات وأفكار ضد نظام الأسد .

كان هذا الشخص من سكان المنطقة، و هو أحد متعاطي المخدرات ، حيث كان يقوم بهذا العمل مع قوات النظام من أجل جرعات المخدرات التي كان يتقاضها كمكافأة للعمل معهم . كشف عن هوية هذا المقنع المدعو ( أيمن عسكر ) بعد أن تم إعدامه حرقاً عند مدخل اليرموك على أيدي الجماعة نفسها التي كان يعمل معها .

 

هذه الأحداث الموثقة من واقع وقلب مخيم اليرموك  قد تبدو ذات طابع سينمائي، إلا أنها في حقيقة الأمر تعكس العقلية الإجرامية ونظرتها الدونية للبشر و هوية المخيم بشكل خاص . حتى إن أحد الباحثين في ميدان علم النفس ( وهو من سكان مخيم اليرموك)  قد تناول في مقال له دراسة حول القناص الذي كان يتمركز عند المنطقة الفاصلة بين مخيم فلسطين و منطقة التضامن،  حيث كان هذا القناص يستهدف منطقة المؤخرة أو الفخذ من جسد الأشخاص، الذين وقعوا تحت مرمى قناصته ، فهو لا يجهز عليهم بالشكل الكامل، بل يتركهم حتى يصفى دمهم في الطريق ، وكل من يحاول الاقتراب للمساعدة يلقى المصير ذاته .

كل هذه الأحداث كانت بمثابة مقدمة واضحة للمصير الذي سيؤول إليه المخيم فيما بعد . أقصد هنا الفترة التي سبقت حصار المخيم وإعلانه مكاناً للموت .

حين أعلن عن المخيم بأنه منطقة محررة، بحيث أصبح جنوب دمشق بشكل عام تحت سيطرة الجيش الحر وفصائل أخرى كجبهة النصرة و كتائب أكناف بيت المقدس و غيرهم ، تم إغلاق كل الطرق ونشرت القناصة والفرق العسكرية لتصبح منطقة جنوب دمشق برمتها منطقة حرب ، لا يعرف الموت فيما صغيراً أو كبيراً، مقاتلاً أم مدنياً.

استخدم النظام في بداية الأمر طيرانه العسكري و قذائف الهاون ، دون أي تواجد عسكري له على الأرض.

وقع الكثير من الضحايا جراء القصف العشوائي وسويت المباني بالأرض ، فالأماكن الآمنة كانت حكراً على الأقبية أو الخنادق والغرف تحت الأرض التي حفرتها الكتائب المقاتلة في الداخل.

 

لا يمكننا القول بأن كل من تبقى هناك وقتها كان من الفصائل المسلحة أو ممن يعملون معهم ، فقد كان هناك الكثير من المدنيين والطلاب ، حتى أن الطلاب بقيوا هناك فترة طويلة قبل أن يصدر قرار السماح لهم بالمغادرة ليتقدموا إلى امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية ، ليخرجوا من المخيم مرة واحدة و إلى غير رجعة . كانت هذه الفرصة الوحيدة لهؤلاء الأطفال دون سن الثامنة عشرة ليبقوا على قيد الحياة ،أما غيرهم من المدنيين أو الشيوخ والنساء، فلم يحالفهم الحظ بالنجاة، مما لم يخطر ولا حتى في خيالهم من أشكال الموت التي سيتجرعونها فيما بعد، فما بين الموت بقذيفة أو بفعل الجوع حكايات عصية عن الوصف والشعور .

تحدثنا فيما سبق كيف صنع النظام المقدمات الأولى لجرّ المخيم إلى رقعة الموت والخراب هذه ، و بعد إعلان المخيم منطقة حرب محاصرة ، لم يكن أحد على دراية كافية بأيدي النظام الخفية داخل المخيم والمناطق المحاصرة . فقد كان لمخابراته ذراع ضاربة في الداخل، عملت على تشويه وجه الثورة ودب الخلاف بين الفصائل المسلحة ومد النظام بالمعلومات والتفاصيل الدقيقة والجوهرية عن الحراك داخل تلك المناطق .

كان أحد أبرز هذه الوجوه النقيب في الأمن العسكري بيان مزعل ( أبو عمر ). والذي ظهر في فيلم وثائقي أنتجته قناة العربية بعنوان ( خطوط القلب الجنوبية). كان أبو عمر من أهم قيادات الجيش الحر في الداخل ويرأس أكثر الكتائب انتشاراً في جنوب دمشق  ( لواء التوحيد) .

 

حظي هذا الرجل بشعبية كبيرة ، والتف حوله المقاتلون يعملون تحت إدارته .

و بطبيعة الحال كان أبو عمر يعلم أدق التفاصيل ويعرف الجهات وسياسات الجيش الحر و مخططاتهم في التصدي للهجوم و مبادرات القتال، كذلك كافة الكتائب المقاتلة و أفرادها.

بقي أبو عمر فترة طويلة مابين منطقة الحجر الأسود ومخيم اليرموك كمقرات لقيادات الجيش الحر ، إضافة لعلاقاته مع باقي قيادات الجيش الحر في باقي جنوب دمشق من مناطق  مثل( يلدا ،ببيلا، سبينة وحجيرة ) و غيرها .

 

لكن في نهاية المطاف وبعد انتهاء مهمة بيان مزعل ماذا كانت النتائج :

قام هذا الضابط الجاسوس بتسليم مناطق جنوبية من دمشق مثل يلدا و سبينة وغيرها عن طريق سحب قوات الجيش الحر والكتائب المتواجدة هناك، بحيث يقصف النظام بطيرانه الحربي و تدخل قواته دون مقاومة تذكر ، إضافة إلى افتعاله للخلافات التي قامت بين الفصائل المسلحة وخاصة كتائب أحرار الشام على مناطق النفوذ و استرتيجيات القيادة . و الحديث يطول عن تسريب المعلومات و التخلص من كوادر و أشخاص فاعلين في الثورة ضد نظام الأسد .

خرج بيان مزعل بعد فترة تقارب العام والنصف بعد إتمام مهمته بنجاح ليعود على رأس عمله في فرع الأمن العسكري كأحد رجالات النظام الفاعلين الأوفياء.

 

في حقيقة الأمر، إن الباحث في توثيق الأحداث و متابعة الوقائع و الانتهاكات ، لا يخفى عليه بأن ذهنية المافيا حاضرة في أدق التفاصيل ، أما العقلية الإجرامية فقد فاقت خيالات الكتاب في صناعة أفلام الحروب و الجريمة .

 

أما عن اليرموك و الذي يحمل اسم مخيم، بمعنى أنه أصغر حجماً من أن يحدث فيه كل هذا ، فقد نال حصة كبيرة من الانتهاكات والجرائم والوقائع التي تعكس أحداثها صراعاً يشبه تلك الملاحم التاريخية التي قرأنا عنها أو وصلتنا كأساطير .

.

.

مخيّم اليرموك.. بين عقدة النظام وهاجس “شارون” 1