#########

الضحايا

من “اليعربية” إلى لبنان ودمشق: فرع 248 اغتصاب وقتل وابتزاز المعتقلات!


أنزلونا بعد ساعة من الرحلة، في حقلٍ واسع، تتوسطه "فيلا" – بناء فخم! بأحجار قرميدية، أقرب إلى لون دمِ زوجي، أو تلك الدماء التي سالت من جسمي عقب اغتصابي!

30 / حزيران / يونيو / 2019


من “اليعربية” إلى لبنان ودمشق: فرع 248 اغتصاب وقتل وابتزاز المعتقلات!

 

2/2
***
 *آشين العلي – مع العدالة

 

 

أم وليد تلك السيدة التي كانت تروي قصّتها بألم وحسرة؛ استدارت نصف استدارة إلى جهة الحائط المكتظ بالصور والزينة والأشغال اليدوية، وأشارت بسبابتها نحو صورةٍ فوق جهاز التلفاز، وقالت لي متحشرجة: “هذه صورة خالد، عندما كان يخدم في الجيش، هذا الجيش الذي يقتلنا الآن، ويوزّع لحومنا وجباتٍ دسمةً للقنوات الإعلامية كل يوم، كعربون صداقة ووفاء لإسرائيل!”.

لم أجبها، لكن حاولتُ مواساتها بعيوني، وطلبتُ منها أن تكمل ما حدث بعد أن وصلت إلى بيروت للقاء الخاطفين وتخليص زوجها خالد.

–  أضافت أم وليد وهي تهزّ رأسها: حسناً، لقد كنتُ خائفةً أن أقع في ذات المأزق، وهذا ما حدث بالفعل!

بعد أن طلب مني أحد الأشخاص الخاطفين التوجّه إلى منطقة “الرابية”، بدوري طلبتُ من سائق التاكسي ذلك؛ فنهرني بصوته اللبناني الرخو قائلاً: (شو عم نلعب يا عمي)!

توسلتُ إليه، ولم أستطع أن أقول له شئياً عن قصتي؛ لكنني أجبته بأنني سوف أعطيه ما يريد من نقود ثمن هذه الرحلة التي تشبه وجهه المجعّد.

توجهنا إلى منطقة “الرابية” التي لا أعرف عنها شيئاً كما لبنان، وأنا أتفرّس وجوه العابرين وأحدّقُ في الشوارع والأرصفة والسماء، وأدعو ربي سائلةً إياه أن يلطف بنا.

بعد أن وصلنا إلى الرابية، قلتُ لسائق التاكسي سوف أبقى معك ريثما يأتي أحد من أقربائي ليأخذني. كنتُ خائفة جداً، وقلت إن بقي معي، هذا أضمن. لكنه لم يرضَ، وقال لي إنه على عجلة، وعلي الانتظار عند الرصيف كي يأتي من يأتي ليأخذني.

  • ترجلتُ عن السيارة، بعد أن أخذ مني مبلغاً باهظاً لم أفاوضه عليه، على ما أذكر كان 50 دولاراً.

وهكذا، وأنا أنتظر مع محاولات الاتصال والرسائل؛ وبعد ساعة من ذلك، أجابني أحدهم قائلاً لي: ” هل أنت تلك المرأة التي تقفُ وتحمل في يدها كيساً أبيضَ؟

  • لقد كانوا هناك، في ذات العنوان، أمام “سوبر ماركت” وبناء شاهق!

أجبتُ بنعم، وأنا أرتجف. وقلتُ أين أنتم؟

جاءني بعد دقائق صوتٌ من خلفي، مع لكزةٍ على كتفي: مرحبا، أنتِ أم وليد؟

قلتُ على الفور: نعم، أين خالد زوجي؟

وما هي إلا ثوانٍ حتى وجدتُ نفسي ملقاةً على الأرض، مع الصرخات والشتائم النابية والضرب، و(الكلبشة) _ الأصفاد، تسوّر معصميّ!

غبتُ عن الوعي، وكنتُ أشعرُ بين الفينة والأخرى أنني في حافلة، وصوت أبواق السيارات يمخرُ قلبي، وضحكاتٌ حولي مقزّزة، وأنا مشوّشة!

استيقظتُ لأجدَ نفسي في غرفة شبه مظلمة، وكأنها مستودع، حيث إن هنالك نافذة في أعلى الجدار، صغيرة، وكنت أسمع عبرها أصوات السيارات، وخطوات الناس وكلامهم الخفيض!

 


  • صرتُ أصرخُ بأعلى صوتي، وأبكي وأتوسل، لكن لا جدوى؛ لم يسمعني من في السماء، لكي يجيبني من في الأرض!

فُتحَ بابٌ قريب من الغرفة، بعد وقتٍ قصير من صراخي، وكنت أسمعُ همساً، ومن ثم شتائم، ومن ثم صوت خطوات تقترب نحو مكان تواجدي. بعدها دخل إلى الغرفة شخصٌ يشبه الثور، لا بل إنه أكبر من الثور، ويحمل في يده ذات الكيس الذي كنت أحمل فيه بعض الطعام والعصائر؛ عندها، تذكرتُ وصرختُ أين حقيبتي وأين زوجي؟

فأجاب شخصٌ جاء بعد ذاك الثور الآدمي: حقيبتك… ها؟  تلك التي فيها أموال لتمويل الإرهاب؟

فسقطتُ أرضاً وأنا أتوسل إليهما، لا … جئتُ كما تريدون كي أستعيد زوجي خالد.

وما هي إلا دقائق بعد أن خرجا، ثم عادا، مع ثلاثة أشخاصٍ آخرين وضعوا على عينيّ قماشة كي لا أرى شيئاً، وأنا أحاول مقاومتهم تارةً، وأتوسل إليهم تارة أخرى؛ لكنهم كانوا مثل الذئاب التي تتجمّعُ على فريسة!

اقتادوني عبر أدراج، وهم صامتون، وأنا أتوسل إليهم؛ وهم يصعدون بي حتى سمعتُ صوت فتح باب، ومن ثم أصوات أخرى، عرفت أنني في الشارع، فأخذتُ أستنجد، لكن لا جدوى للمرة الألف!

وبعد فينة، فتح باب سيارة ركنت إلى جانبنا، وأدخلوني بعدها فيها عنوةً، بعد الضرب والركل. وهكذا، وأنا أسمعهم يقولون: سوف تذهبين إلى زوجك يا عاهرة!!!

 

  • ففرحتُ، وبقيتُ خائفة كوني أعرف أنني في مجهول كما زوجي!

ظلّت الحافلة تسيرُ حوالي ثلاث ساعات تقريباً، وكل فترة تقفُ، لدقائق، ومن ثم تنطلق؛ وأنا أسمع الأبواب تنفتح، إضافةً إلى حوارات سريعة، قريبة من الحافلة مع أشخاص مجهولين!

كنتُ أسألهم إلى أين نحن ذاهبون؟ فلم يجبني أحدٌ منهم، إلا بعد تكرار الأسئلة كثيراً: ” أنتِ الآن سوف تعودين إلى وطنكِ …. سوريا الأسد!

  • شعرتُ برغبةٍ في التبوّل، لا أدري لماذا! هل كان ذلك من الخوف، أم لأنهم ذكروا اسم” الأسد”؟!

 

بعد ساعة من الصمت سادت الأجواء، ونحن نمضي في السيارة، أزالوا عن عيني تلك القماشة، وكأنني ولدتُ من جديد؛ هو ذات شعور الطفل حينما يفتح عينيه للحياة، لكنني رأيتُ الشوارع الدمشقية، والعلم السوري الموضوع على صدور الجنود، والبنادق، والحواجز؛ إضافةً إلى سماعي لصوت زوجي خالد في داخلي يناديني!

  • لم أولد من جديد! بل إنني الآن على مشارف الهلاك، هكذا كنتُ أشعرُ بكل يقين، كما ذاك الشعور بالتبوّل حينما ذكروا اسم “الأسد”!

سمعتُ عبر الأحاديث التي دارت بينهم وبين أشخاص آخرين على الهاتف المحمول بأن عليهم التوجّه إلى منطقة “كفرسوسة”. لم أفهم شيئاً ولم أدرك معنى “كفرسوسة”، إلا عقبَ خروجي بأعجوبة من هناك.

 

*دخلت أم وليد بنوبةِ بكاء هستيرية، فحاولتُ أن أضمها إلى صدري وأستفسرَ عن سببِ ذلك، لكنها دفعتني بأصابعها، وقامت لتشرب الماء وتغسل وجهها، وأنا أتبعها مخافةَ أن تسقطَ أو تفقد الوعي.

عادتْ وجلست إلى جانبي، وكأنها تريد الالتصاق بي مثل طفلةٍ خائفة من (الساحرة) التي في قصص الأطفال، وأكملت سرد تجربتها المريرة:

 

  • جروني من شعري، عند مدخل بناء بعد أن دخلت السيارة في منطقة تكتظ بالحواجز والجنود والأسلحة، بعضهم كان يرتدي الزيَّ العسكري، والآخرون كانوا مدنيين لكنهم يحملون أسلحة ويضعون الجعب على صدورهم.

حاولت استعادة حجابي من السيارة لكنهم رفضوا، وهم يشتمون الله والإسلام والحجاب، والعرعور!

وعلاوةً على ذلك، صاح شخصٌ من الذين أمسكوا بمرفقي لشخصٍ آخر على بوابة البناء: (تعال، استلم هي العرعورية الشاوية الإرهابية!!!).

  • “عرعورية… وشاوية، وإرهابية؟! كم هذا السجعُ يحملُ بين طياته قروناً من الحقدِ الطائفي خزّنه “كلب الأمة العربية حافظ الأسد وأسياده!”.

أدخلوني مع الركل والسُباب، والضحكات التي أشعرُ بلعابها القذر إلى الآن يسيل على جسمي!

تلقيتُ صفعة مباغتة من ضابطٍ يقفُ عند باب حديدي في أول البناء؛ جاءت على أذني، وحتى هذه اللحظة أسمعُ صفيرها يركضُ في دماغي!

في غرفة مليئة بالأسلحة علاوة على صور “بشار الأسد وأبيه حافظ”، أجلسوني على الأرض، بالقربِ من تختٍ معدني، بعد أن فكّوا قيدي، وبدأ الركل والشتم والصراخ من جديد. وأنا أتوسل، وأبكي وأقع، وأقفُ تارةً، وأقعُ مراتٍ كثيرة بين أحذيتهم الغليظة مثل قلوبهم.

مرةً أخرى جرّوني من شعري، في الممر الرطب، وأنزلوني عبر الدرج كأنهم يسحلون جثة، أو صندوق خردوات تصدر عنه أصوات مزعجة، لكنها، كانت أصوات عظامي وارتطام ركبتي وجمجمتي بدرج المبنى!

 

ألقوا بي في زنزانة ضيقة، لا يتسنى للمرء أن يمدّ داخلها ساقه، إضافةً إلى ذلك، رائحتها أقل بشاعة من وجود عائلة الأسد على الكرة الأرضية!

وهكذا، بقيتُ أنام من تعبي وأصحو من الكوابيس، وكنتُ أظن نفسي أحلم، وأن كل هذا غير موجود، لكن الحقيقة سافلة أكثر من قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة!

لم أستطع التخيّل أنني سوف أنجو، لكنني كنت أشعرُ بأن شيئاً داخلي يدفعني للحياة: –أولادي، وزوجي، والثورة التي في الخارج، نعم، كنتُ أتخيّل أن الجيش الحر سوف يقتحم المكان ويخلصني أنا وخالد، ويعدم القتلة والمجرمين في الساحات، أمام العالم أجمع! لكنها، كانت أحلاماً، لا أكثر، ولم تكن حقيقة تشبه الحقيقة التي تحيق بي الآن!

 

على ما أعتقد بقيت ما يقرب من ثمانية أيام، دون أن يعذبني أحد أو يضربني بشكل ممنهج، لكن الشتائم والركلات تأتي مع وجبات الطعام، أو الخروج إلى المراحيض مع نسوة أخريات كنّ بحالاتٍ أكثر سوءاً من حالتي؛ وحينما كنت أهمُّ بالاستفسار من إحداهن عن مكان تواجدنا، أجد ركلةً في ظهري قد سددت إليّ، وكأن بغلاً مذعوراً يوسم “صكّ” الفزع على عدوٍ اقتربَ منه!

 

أخيراً بعد همساتٍ مع سيدة كبيرة كانت قريبة مني، قالت لي: ” نحن في فرع 248”!

 

  • هل يوجد في سورية 248 فرعاً… هكذا قلتُ في داخلي!!

 

نقلوني بعد ذلك إلى مهجع كبير، يحتوي على أكثر من 60 امرأة وفتاة، وأيضاً هنالك ما يقرب من 13 طفلة وسبعة أطفال، أعمارهم تتراوح بين سنتين وعشر سنوات! لم أبقَ فيه إلا لساعات فقط، ومن ثم أخرجوني لتبدأ المجزرة…!

 

وضعوا على عيني قماشة وكبّلوني بالأصفاد البلاستيكية، التي كانت تضيقُ على معصميَّ وكأنها سكين تقطعُ أوردتي! ورموا بي في مكان مجهول؛ وبعد 15 دقيقة تقريباً، وأنا أدعو الله وأتوسل إلى الأنبياء والأقطاب الأربعة: ” عبد القادر الجيلاني وإبراهيم الدسوقي وأحمد البدوي وأحمد الرفاعي “؛ دخل المكان أكثر من شخص، وأخذوا ينزعون عني ملابسي ويضحكون، وأنا أدفعهم بقدميّ وأتوسل إليهم… ومن خلال الشدّ والركل والصفعات، سقطت القماشة عن عيني، ورأيت أوجههم، وأشداقهم؛ كأنهم ضباع، بأنياب مهذبة، وناصعة تماماً لنهش لحمي!

 

  • اغتصبوني أولاد الزانيات!

استفقتُ وأنا أرتجف، لأجد جسمي يكتظ بالكدمات والجروح، وأنا ملقاة في الغرفة ذاتها التي كانت تزدحم بصور “بشار وحافظ” والأسلحة ورائحة الخسّة والدناءة والموت!

 

  • يبدو أنهم نقلوني بعد ذلك إليها، لسبب ما… وقد عرفته بعد ذلك.
  • فهل دعائي لله والأنبياء جاء الردّ عليه باغتصابي؟!، هل ذلك عدلٌ؟ هل الأقطاب الأربعة هم الذين اغتصبوني؟!

 

بعد فترة وجيزة، دخل الضابط الذي صفعني عند مدخل البناء، وقال لي ” يا ابنتي، اعترفي، النكران لن ينفعك”!

  • ابنتك؟! … لقد كان ذئباً لطيفاً، يحاول أن يلعبَ دور الخروف!

لم يحققوا معي بتاتاً، فقط عذبوني واغتصبوني، والآن يقول لي ” اعترفي!”

 

بعد مشادة في الكلام بينه وبين شخص آخر يرتدي اللباس المدني، جاء بعد دقائق من دخول هذا الضابط، حول إرسالي إلى “فرع المخابرات الجوية” من عدم ذلك، بحسب ما كنت أسمع منهما، وأنا صامتة، وكنت أتحاشى الدعاء أو التوسل لأي نبي أو إله؛ رفع الضابط سماعة الهاتف وضغط “زراً” واحداً فقط، وهنا ظننته يتصل ببشار الأسد، كونه هو (الواحد، والإله المُقدّس)، لدى هؤلاء العبيد، ولديه رقم هاتف مميّز!

 

قال بعد أن أجاب الذي في الطرف الآخر: ” جيبو الكلب خالد”…

  • خالد!، ها …خالد … زوجي؛ تلعثمتُ، وحاولتُ القفز إلى الضابط كي أقبّل “بسطاره” العسكري، لكن ركلة سريعة جاءت من بغلٍ حانق، أردت بي جانباً، مثل كيس الدقيق الذي كنتُ أرمي به إلى جانب “التنور” في قريتنا صباحاً قبل البدء بإعداد الخبز لأولادي!

 

حاولت أن أشرح للضابط والبغل الآخر الذي ركلني، حيث كان يجلسُ على مقعد خشبي قرب نافذة الغرفة ويدخّن بشراهة، أنني بريئة وزوجي، وأنهم قاموا باغتصابي، لكنهما لم يستمعا إلي، بل أخذا يصرخان في وجهي” بأن لا يوجد لدينا من يغتصب، واتهمني “البغل” بصيغة الجمع -أنتم جماعة الإمارة الإسلامية والعرعور والجيش الحر، من يغتصب النساء ويقتل الجنود ويفجّر السيارات المفخخة في المدنيين!”

 

عقب ذلك بـ 10 دقائق تقريباً، دخل شخصٌ يرتدي الزيّ المدني وألقى التحية على الضابط، وقال: ” سيدي، الإرهابي خالد هنا”.

  • ازدررت ريقي وكأني أبلع خنجراً مثلّماً!

 

قال الضابط بعد أن وقف وبدأ يلفُّ أطراف بزّته العسكرية عن ساعديه:” أَدْخل ابن الكلب”.

دخل خالد… لم أعرفه!، كان متورماً؛ ووجنتاه لونهما أزرق، وساعداه متورمتان؛ هذا ليس زوجي! لكنني عرفته بعد لحظة من خلال قميصه الذي رتقته ذات يوم من جهة الأكمام، برقعة -علامة تجارية بيضاء تعود لشركة “أديداس Adidas ” الرياضية!  

وهنا بدأت رياضة الموت! … إما عليّ الاعتراف كما يقول الضابط: إن زوجي سبقني للبنان كي يقوم بتفجيرات هناك، ومن ثم ينتقل إلى سورية، وأنا ألحق به لأدعمه بالمال السعودي والقطري، أو سوف نقتلكما معاً!

 

  • لم أعِ ما يقوله هذا المجنون؟! … أية تفجيرات أو أي لبنان وسورية وقطر والسعودية، وهل هذا هو الواقع الآن المحتّم علينا أن نُقتلَ قد جاء عن طريق أبناء (جلدتنا) … السوريين أنفسهم! أَيْ (حماة الديار عليكم سلام؟!)

كان خالد يئنّ بشدّة، ولا يستطيع الكلام، حتى أزالوا عن عينيه القماشة، هي ذاتها التي وضعوها على أعين ملايين السوريين والعرب لعقود طويلة!

وحينما أدار خالد رأسه يميناً وشمالا، ونحو الأعلى، كي يرى من يقابله، حيث كانت عيناه غائصتين في محجريهما؛ كان الضابط يشير نحوي بيده، واضعاً سبابة الكفّ الأخرى على شفتيه، محذراً بأن لا أنطق بأي حرف!

 

  • صرخَ خالد…. صرخةً أيقظت كل من قُتِلوا في هذا الفرع؛ … 248!

فنهال عليه الجنود من خلفه بالضرب والركل؛ وأنا ركضتُ نحوه أحاول الدفاع عنه، لكنهم طرحوني أرضاً وقاموا بركلي وجَلدي بالكرابيج “السياط”، وأنا أصرخ، وهو يردّدُ اسمي، ويسأل عن الأولاد: ” مين جابك لهون؟، وين الولاد؟، شو صاير يا ربي !! … يا لله يا الله“.

 

وفجأة، دون سابق إنذار، جرّني أحدهم جانباً من قدميْ، وأوقفوا زوجي، وأنا أنظر حولي، ونحوه، وهو يتحاملُ كي يقف بمساعدة هؤلاء الوحوش… كان يشبه الوردة الذابلة، لا توجد أعصاب، ولا أوتار تشد قامته؛ وعنقه تنحني إلى الأسفل. سار الشخص الذي كان يجلسُ جانباً وهو يشاهد كل شيء، فرمى بسيجارته، وأخذ يصفّق براحتيه، وأخرج عبر خصره مسدساً، وضعه بين كتفِ خالد وعنقه، أي في “الترقوة”، وأطلقَ ثلاث رصاصات متتالية، وكانت الرابعة في سقف الغرفة، وهو يقول للضابط: ” ما قلنالك خلينا ناخدو عالجويّة، هونيك بيعيش قليل بس بيعترف كثير!؟“.

 

  • تجمّدتُ، لم أستطع الكلام، ولا الصراخ، ولا البكاء، أو الرؤية… فقدتُ الوعي، بعد أن تقيّأتُ لسببٍ مجهول!

وجدتُ نفسي بعد فترة، وكأنني نمتُ دهراً، مربوطةً إلى سرير من كاحليّ، وحولي أَسرّةٌ كثيرة، وممرضات، وأطباء يركلون المرضى والجرحى، ويشتمونهم! وكانت رائحة الأدوية والدماء تفوح في كل مكان! لم أستطع الحراك، ولا الكلام، كنتُ أتذكر تلك اللحظات، والصداع يأكل رأسي، والموت يتحسسُ شفتيّ بسبابةٍ تشبه تلك السبابة التي ضغطت على زناد المسدس لتقتل خالد زوجي!

 

  • أين أنا الآن، أين الله؟ أين سورية، والثورة، والجيش الحرّ… أين أولادي وزوجي ؟!

 

 حوالي الساعة الخامسة فجراً، وكنتُ قد عرفت الوقت من خلال ساعة (عقارب) على الحائط، داخلها صورة لـ “باسل وبشار وحافظ! – فعلاً، كانوا كلهم: -عقارب!، دخلت ممرضة قبيحة برفقة جندي… شعرتُ بأنها “عزرائيل”! لا أدري لماذا هذا الشعور انتابني، رغم أنني كنتُ لا أريد الهروب من الموت، بل أستعجله، حيث إن نهايتي باتت وشيكة على ما أعتقد!

فكّ الجنديُ قيودي، وأيضاً قيودَ أكثر من فتاةٍ حذوي، واقتادونا خارج الغرفة الكبيرة. داخلَ بهوٍ طويل مشينا حتى وصلنا إلى مخرج ينبعثُ منه الضوء قليلاً؛ ظننته لوهلة، ذات الفجر الذي يبزغُ في قريتنا؟ لكن، لا… فائدة من الظنّ والأحلام، والخيال، والحقيقة!

 

وقفنا جانباً إلى جدار من “السيراميك” على هيئة مربعات، تشبه مربعات الشطرنج، لكنها فارغة من القلعة والفيل والحصان… فقط جنود بيادق، ووزير وملك، يجلسان خارج الرقعة، ينتظران الضحايا من كلا الطرفين!

نحن فقط الضحايا! فالجنود البيادق الذين يدافعون عن الملك، هم ضحايا لدى أمهاتهم، ووقود رخيص يستخدمانه الملك والوزير للتدفئة قبل وبعد أن تشتدَ العاصفة!

صاحوا بنا بأنْ تقدموا، وسار إلى جانبنا الجندي والممرضة القبيحة، حتى وصلنا إلى سيارة عسكرية كبيرة، كنت أعرف اسمها سابقاً عن طريق أحاديث زوجي وصوره في الجيش، إنها، “زيل” الروسية، ذات الشوادر القماشية السميكة، والمقدمة التي تشبه رأس “جمال عبد الناصر”، صاحب نظرية الوحدة العربية التافهة!

 

صعدنا إليها، وكان في صندوقها الخلفي جنود، ونساء أخريات. انطلقت سيارة “الوحدة العربية” نحو المجهول! وطيلة الطريق، يرمي الجنود -الحرّاس البيادق، في أوجهنا أعقاب السجائر مع السُباب والتحقير، ونحن دون همسٍ، نخاف أن نصدرَ أي صوت أمام هؤلاء -الصهاينة!

 

أنزلونا بعد ساعة من الرحلة، في حقلٍ واسع، تتوسطه “فيلا” – بناء فخم! بأحجار قرميدية، أقرب إلى لون دمِ زوجي، أو تلك الدماء التي سالت من جسمي عقب اغتصابي!

قالوا لنا سوف تعملون هنا لمدة أيام، والتي تحاول الهروب، سوف (نقوّصها) أي يطلقوا علينا النار، ولكن ليس في الترقوة!

جاء من بعيد رجلٌ ذو كرشٍ متدلية أكثر من خرطوم فيل الشطرنج الحقيقي في الغابات؛ يعتمر قبعة، ويضع نظارات واقية من الشمس، وكأنه تعوّد على ظلام الأقبية…!

 

صرخ بالجنود” تعووو يا حيوانات، وجيبو الحيوانات معكين“.

وبدأت المحاضرة:

  • قسمٌ يعمل في تنظيف البناء، والآخر يزيل أكياس البلاستيك عن سور الأرض الزراعية؛ أما النساء إلى الداخل معي، حتى نرى ماذا سوف يفعلن!

 

في منتصف الليل بعد أن قمنا بتنظيف مطابخ سيادة (العميد) كما كان يناديه الجنود، ولم نعرف اسمه قطعاً، لكنه كان بشعاً ذا شاربين كثّين ورأس حليقة، جاء أحدُ الجنود إلينا، نحن النساء في الداخل، وطلب مني ومن اثنتين أخريين الخروج نحو الحديقة بعد الاغتسال وارتداء (فساتين) جديدة كان قد جلبها معه!

لم نعِ ما يقول! لكنه أصرّ على ذلك وهو يصوّب البندقية نحو صدورنا؟!

فوافقت الفتاة التي تصغرنا سنّاً وهي تقول له: ” كما تريد، اذهب وسوف نأتي بعد نصف ساعة”.

 

قبل أن تمضي الــ” نصف ساعة” … سمعنا أصوات إطلاق نار وانفجارات عنيفة؛ فهرعنا إلى الغرف الداخلية، خوفاً من المجهول.

لقد اقتحمت كتيبة من الجيش الحر المكان، هكذا عرفنا فيما بعد، حيث تم أخذنا إلى مقراتهم المتواجدة في بساتين “المعضمية”.

 

  • ولأكثر من ثلاثة أسابيع ونحنُ نسير مع عناصر الجيش الحر ضمن طرق تهريب نحو ريف درعا إلى بادية حمص، ومن ثم دير الزور، حتى وصلتُ أنا إلى القامشلي، لا أحمل لأولادي شيئاً سوى دهرٍ من الحزن وانتظار مؤلم كي أعرف أين دفنوا زوجي، وأين “ياسر” الذي اتهموه بتسليم خالد للنظام السوري!

 


لقراءة الجزء الأول: 

من “اليعربية” إلى لبنان ودمشق: فرع 248 اغتصاب وقتل وابتزاز المعتقلات!