#########

الضحايا

“مدينة الفرح”.. وضحايا العنف الجنسي


ليست الميليشيات والعصابات والمجموعات المسلحة وحدها من يتحمل جريرة تلك الجريمة، فلولا الدول الكبرى التي ترعاها وتشرف على شراء المعادن النفيسة التي تستخرج منها بحماية تلك الميليشيات لما كانت تلك الجرائم المروعة.

03 / شباط / فبراير / 2021


“مدينة الفرح”.. وضحايا العنف الجنسي

*مع العدالة | محمد برّو 

يعدُّ العنف الجنسي إشكالية واسعة الانتشار، في جمهوريات الخوف، وفي بيئة الحرب والنزاعات المسلحة، حيث يعتبر الاعتداء على النساء وسيلةً لإرهاب مجموع السكان المدنيين، بهدف إجبارهم على الخضوع أو الفرار وترك الأرض، وهذا معروف في معظم الحروب إن لم نقل جميعها.

فقد شهد التاريخ القديم أنواعاً مخزيةً من سبي النساء واستعبادهن، كما عرفت الحروب الحديثة إشكالاتٍ لا تقل فظاعة عن سابقاتها؛ ففي الحرب العالمية الثانية، تعرضت ملايين النساء في أوروبا للاغتصاب، وبقر البطون وقتل الأجنة، واغتصاب القاصرات، وقد يعتبره البعض امتداداً لأعمال النهب التي يحترفها القتلة، كإتمام لجرائمهم أو أهداف لها.



ووفقاً للمؤرخ الأمريكي “وليام هتشكوك” وهو يتحدث عن اغتصاب النساء في برلين، أثناء اجتياح الحلفاء لها بنهاية الحرب العالمية الثانية، (في كثيرٍ من الحالات كانت النساء ضحايا للاغتصاب المتكرر، منهن تعرضن للاغتصاب من 60 إلى 70 مرة، ويُعتقد أن 100 ألف امرأة تعرضن للاغتصاب في برلين، وذلك استناداً لارتفاع معدلات الإجهاض في الأشهر التالية وتقارير المستشفيات المعاصرة للأحداث، مع وفاة ما يقارب 10 آلاف امرأة منهن في أعقاب ذلك، وفيما يتعلق بالاغتصاب في عموم ألمانيا، تُقدر وفيات الإناث بـ240 ألف إجمالياً. يصف المؤرخ العسكري البريطاني “أنتوني بيفور- Antony Beevor ” ذلك بـ”أكبر ظاهرة اغتصاب هائلة في التاريخ”، وخَلُصَ إلى أن ما لا يقل عن 1.4 مليون امرأة اغتصبن، فقط في بروسيا الشرقية وبوميرانيا وسيليزيا وكان الجنود السوفييت يغتصبون الإناث من سن الثامنة إلى الثامنة عشرة).



وتبقى هذه الجريمة مستمرة طالما أنَّ المجرمين بمنأى عن العقاب، وهذا يفضي بالضرورة لتهتك النسيج الاجتماعي في المجتمعات المعتدى عليها، وتبقى النساء الضحايا محل الأذية الأكبر، حيث يجري تطليق أعداد كبيرة منهن، إذ يُنْظر إليهن كخائناتٍ أو حاملاتٍ للعار. أما عن الأزواج أنفسهم، فينتابهم شعور عميق بالخزي.. وفي أغلب الأحيان يكون مقترفو هذه الأعمال من الرجال المسلحين، حيث يتم الاعتداء الجنسي بحضور الأسرة والزوج والأبناء.

في عام 2018 تسلم الطبيب النسائي الكونغولي “دينيس موكويغي – Denis Mukwege” جائزة نوبل للسلام لجهده الكبير، في مواجهة العنف الجسدي والجنسي، كسلاحٍ للحرب في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وكان لهذا البطل عظيم التأثير في نجاة آلاف النساء الكونغوليات من قبضة الميليشيات، وانتشالهن من هاوية اليأس وكره الحياة، لإعادتهن مرة أخرى وقد برئن من عقابيل الاغتصاب المدمرة التي عانين منها، ليكنَّ نساءً فاعلات ومقاومات ومحاربات، يقفن بكل صلابةٍ وعنفوان بوجه موجات العنف الجنسي، الذي ترعاه دولٌ كبرى، لحماية مصالحها في سرقة كنوز البلاد ومعادنها الثمينة.


“صورة تعبيرية”

لقد كان له الفضل الكبير في إنجاز الفيلم الوثائقي الرائع “مدينة السعادة-city of joy” وهو أحد أبطاله، وقد شاركته فيه المسرحية الأمريكية والناشطة التي وهبت حياتها للدفاع عن حقوق المرأة “إيف إنسلر- Eve Ensler” والناشطة الكونغولية “كرستين شولر-Christine Schuler“، التي قصرت حياتها على خدمة هذا المجتمع الشفائي “مدينة الفرح” في محاولة لبناء بيئة تعزز إرادة الحياة وتمنح الأمل ومعنى الحياة لآلاف النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب.

خرَّجت مدينة الفرح هذه إلى الآن، ما يزيد عن 1200 امرأة كنَّ ضحايا للاغتصاب المتكرر، وهي مستمرة في نشاطها بتخريج 180 سيدة سنويا.

تم إنشاء هذه المدينة في العام 2011 في المنطقة الشرقية من جمهورية الكونغو الديموقراطية، هذه التجربة الرائدة والمبهرة في نجاحها، جديرةٌ أن تحتذى وأن تنشأ في البلدان التي تعاني من عسف الحرب والاقتتال المحلي، منظمات أهلية ومؤسسات تعنى بتلك النسوة اللائي يدفعن ضريبة تلك الحرب مرتين، مرةً حين يعتدى عليهن، وأخرى حين يجبرهن المجتمع الذكوري على الصمت، والعيش مع تلك الجريمة التي حملن آثارها.


ليست الميليشيات والعصابات والمجموعات المسلحة وحدها من يتحمل جريرة تلك الجريمة، فلولا الدول الكبرى التي ترعاها وتشرف على شراء المعادن النفيسة التي تستخرج منها بحماية تلك الميليشيات لما كانت تلك الجرائم المروعة.

عشرات وربما مئات البيانات والإدانات صدرت عن هيئات دولية وحقوقية، تساند حقوق النساء المغتصبات، وتدين العنف والجريمة المرتكبة بحقهن، لكن هذا جميعه لا يضع كيلاً من الطحين في قدورهن، ولا يشفي جراحهن ولا يوقف الجريمة المستمرة، طالما أن الحرب الدائرة هنا وهناك تتم برعاية ودعم من قوى عالمية ومحلية، تلتقي مصالحها في إشعال فتيل الحرب للحفاظ على مكاسبها، التي يصعب حصرها، من ثروات باطنية ومعادن وامتيازات وفتح أسواق للسلاح والأدوية والمخدرات وتجارة الأعضاء البشرية وتجارة الجنس وغيرها كثير.


مدينة الفرح مشروعٌ رائدٌ يقدم برامج منظمة ومصاغة بعناية لتوائم الاحتياجات الشخصية للضحايا، وتراعي معايير البيئة المحلية، بانسجامٍ عالٍ بالمعايير العالمية لحقوق المرأة، يبدأ من معالجة الخوف المعشش في نفوس الضحايا، وتمكينهن من الوقوف بجرأة ودون تردد، للحديث عن تجربتهن وتكرار سرد الحكايات، التي تبدد الخوف والإحساس بالخزي، وتعزز فيهن الإحساس بالكرامة الإنسانية التي لا تمس بفعل المعتدي، فالخزي والعار يحمله المعتدي وحده، وليست الضحية.


بعدها يكتسبن مهارات في الدفاع عن النفس وطلب المعونة من المحيط، ثم يكتسبن مهارات في الأعمال التي تجعل منهن سيدات مستقلات اقتصادياً، الأمر الذي يعزز من بناء الثقة بالنفس، فعندما تكون النساء غير قادرات على إعالة أنفسهن مادياً، وعندما يكن فقيرات جداً، يصبحن عرضة بشكل أكبر للعنف الجنسي.

بعدها تتقدم من تجد في نفسها الرغبة والكفاءة، ليكنَّ قائدات يساعدن غيرهن من النساء الناجيات، ويسهمن في تدريبهن، ليصبحن جزءاً مهماً في هذه المؤسسة “مدينة الفرح”.

وباختصار فإن هذا البرنامج يعمل على أربع ركائز: طبية ونفسية وقانونية، واجتماعية اقتصادية.

الملاحظة المهمة، أنَّ من يشرف على هذا البرنامج، نساءٌ ناجيات خضن ذات التجربة وتعرض للاغتصاب، فهنَّ يعرفن تفاصيل المشكلة التي يتحدثن عنها ويعالجنها، كما يقدمن أنموذجاً ناجحاً وعملياً، لتلك الأفكار والطرق التي يتشاركن بها مع الناجيات.


هذا الحديث يدفعنا للتفكير بجديةٌ، في عشرات آلاف النساء السوريات، اللائي اغتصبن في بيوتهن، وعلى الحواجز وفي أقبية المعتقلات، وبإشراف أمني ممنهج، وبعضهن يتعرض للاغتصاب المتكرر طيلة فترة اعتقالهنَّ، التي قد تمتد لسنوات أو أشهر مديدة، ولا تنتهي معاناة المعتقلات اللواتي خرجن سالمات من السجون عند هذا الحدّ، إنما يصبحن عرضةً لقسوة الأهل والمجتمع المحيط الذي يكمل عملية تحطيمهن.


تبقى الإشكالية الأكبر والأهم في علاج هذه المأساة المتكررة والمديدة، أنها منوطة بتغيير أو رحيل النظام الذي يشرف على نشوئها أصلاً، ويحرص على استمرارها؛ وكلُّ علاجٍ سواه ما هو إلّا علاجٌ للعرض دون المساس بالجوهر، كمن يعالج مريض السرطان بجرعات من المسكنات.


“مدينة الفرح” فيلم من إنتاج 2018



 


مواد أخرى للكاتب:

حين أنسانا غازي الجهني رعب سلفه

المعتقلون والتجارب الكيميائية