اشتهر نظام الأسد على مدار فترة حكمه باستخدامه للجريمة السياسية . التي لم يسلم منها حتى أبرز قادته ورموز حكمه إذا مازاحوا عن الخط المرسوم ، أو حل عليهم الغضب.
09 / أيلول / سبتمبر / 2018
*معاذ حسن
تفضح التركيبة السكانية في سوريا حقيقة عدم تجانس المجتمع. فهناك عشرات المجتمعات الصغيرة التي تحمل عقليات متفاوتة في الأيديولوجيا و آليات مختلفة في سبل العيش .حيث يستند التوزع الديموغرافي لسوريا في غالبيته على أساس عرقي طائفي مذهبي . و هذا بدوره يلقي الضوء حول الآلية التي تعامل بها نظام الأسد في حكم سوريا ؛ فالأنظمة الحاكمة تقوم على عدة مدارس سياسية وذهنيات مختلفة في إدارة الدول، ولكن بالضرورة يجب عليها فهم المنظومة الاجتماعية والتركيبة السكانية للدولة ووضع مخططات للتعامل معها لتثبيت حكمها وإخضاعها للسيطرة .
أيضاً نحن لسنا بصدد سرد كيف وصل نظام الأسد إلى الحكم وكيف تعامل مع بنية وعقلية المجتمع السائدة ، الأمر الذي كتب عنه الكثير ودارت حوله الحوارات والمنتديات ، لكن الذي يهمنا في هذا الشأن هو كيف عزز نظام الأسد إنشطار المجتمع وعزلته بتكريسه للتوزع الديمغرافي القائم على أساس عرقي وطائفي ، لابل ذهب إلى أبعد من ذلك بزرع الخلافات والنعرات بين المجتمعات الصغيرة المتجاورة كإحدى أهم النقاط التي يرتكز عليها في سياسته تجاه الشأن الداخلي ، نستطيع أن نقرأ هذه السمة للنظام في الأحداث التي دارت بين الدروز و البدو عام ٢٠٠٢ ، أيضا في أحداث القامشلي ٢٠٠٤ بين الأكراد وبعض العشائر العربية ، وهناك الكثير من الأحداث المشابهة.
ويذهب نظام الأسد في هذه العقلية إلى استراتيجيات أبعد في توطيد حكمه ، فيجعل من نائب رئيس الجمهورية سنياً ، وأبرز قادته العسكريين من الطائفة العلوية ، و يولي الأكراد المناصب الدينية وما إلى ذلك بالتعامل مع كافة جوانب الحياة السياسية و الاقتصادية والاجتماعية، على خلفية تلك العقلية التي تذهب بمفهوم الدولة إلى أسفل السافلين ، ويحل مكانها نظام المافيا و ذهنية العصابة.
اشتهر نظام الأسد على مدار فترة حكمه باستخدامه للجريمة السياسية . التي لم يسلم منها حتى أبرز قادته ورموز حكمه إذا مازاحوا عن الخط المرسوم ، أو حل عليهم الغضب. ناهيك عن رموز وقيادات في بلدان أخرى طالتهم جرائم الأسد السياسية.
لانريد الاسترسال في التفاصيل وذكر الأمثلة التي أصبحت بحكم البديهيات لدى الكثيرين.
تتعامل هذه الذهنية المافيوية في حكمها للبلاد على أساس الجريمة ، والمقصود بالجريمة هنا تلك الآليات التي يستخدمها النظام في إدارته للبلاد على أساس دستوري وشرعي . بمعنى أو بآخر نستطيع القول :
((المافيا على هيئة السلطة)).
- – وضع المنهاج التربوي والتعليم (تدجين العقول واستعبادها).
- – إدارة اقتصاد البلاد (السرقات- إعدام مفهوم الدخل الوطني وميزانية الدولة).
- – خدمة العلم الإلزامية (تحويل جيش البلاد إلى ميليشيا عسكرية تخدم بقاء النظام).
- -الحياة السياسية (إلغاؤها بالمعنى الحرفي الدقيق للكلمة).
- – الحياة الاجتماعية (ترسيخها على أساس المحسوبيات والانتماءات).
وحين نقول ذهنية المافيا، نقصد تماماً أعمالها وإدارتها للجريمة، فليس من الغريب أن تكون تجارة الممنوعات والمخدرات بأيدي أحد أفرع الأمن لدى النظام ( فرع مكافحة المخدرات ) هو من يدير ترويجها ومبيعاتها ويطارد هذه الآفة في نفس الوقت تحت مسمى الدولة والقانون .
كل تلك الجرائم تحتاج الخوض في التفاصيل من بحوث وشرح موسع لاحقاً، من أجل التوثيق لما سوف يخدم مفهوم العدالة الانتقالية فيما بعد.
يعتمد النظام القائم على تطبيق النظرية الوظيفية في حكمه للبلاد، وهي إحدى المدارس السياسية الأربع المعتمدة في علم السياسة ، الميكافيلية ، الوظيفية ، الأداتية ، البراغماتية.
أحد أهم المبادئ المعتمدة في النظرية الوظيفية هو إدارة الصراع بمعنى أن يبقي النظام على كتلة من الخلافات والإشكاليات القائمة في المجتمع، دون أن يسعى نهائياً إلى حلها، بل إدارتها والحفاظ على بقائها . وقد تأخذ هذه الصراعات والخلافات أشكالاً مختلفة، سياسية كانت أم مادية أو حتى اجتماعية.
اعتماد النظام على هذه الاستراتيجية كان واضحاً تماماً مع بدء انطلاق الثورة السورية، التي أصبحت بفعل هذه الاستراتيجية فيما بعد متشرذمة، فاقدة للبوصلة ، أعباؤها أكبر من مشروعها. الأمر الذي استفاد منه نظام الأسد بسبب طبيعة سوريا الديموغرافية، وتكريسه لجملة الانتماءات العرقية والطائفية على حساب المجتمع المتجانس.
-حيث عمل على أخذ صورة حامي الأقليات في نفس الوقت الذي كان فيه يعمل إلى إفزاعهم وترعيبهم: أسلمة الثورة ، تغذية النزاعات والخلافات الموجودة في المجتمع ككل.. إضافة إلى الكثير من الأساليب التي تحمل ذهنية المافيا وسلوك العصابة.
تناولت العديد من الدراسات النفسية والأكاديمية عقلية المافيا ، خصائصها وسماتها، سنذكر بعضها بشكل سريع بغرض إسقاطها على نظام الأسد، والتيقّن تماماً بحتمية وجوب العدالة الانتقالية وليس الانتقال السياسي أو تداول السلطة فحسب.
-إن عقلية المافيا في الأصل تقوم على نظام عائلي يحمي مصالح مادية معنوية لبنية عائلية، تتقوى عبر المصاهرة وتوزيع المهام والمناصب ، هذه الخاصية لدى عائلة الأسد مفضوحة للعيان.
– هناك خاصية أخرى تتكرر بشكل مريب في السيرة الذاتية لشخصيات عُدّت الأبرز في تاريخ المافيا العالمية، وهي الجذور الفقيرة التي يندرج منها بشار الأسد وعائلته. ونحن لسنا بصدد ما هو تأثير هذه الخاصية في تشكل العقلية المافيوية ، حيث قدّم علم النفس وبعض العلوم الأخرى عدة تفسيرات دون أن يساء الفهم باعتبار ظاهرة الفقر سبب لعقل الجريمة والتشوهات الاجتماعية، حيث إن تأثيرها يختلف بحسب الفروق الفردية، فقد تنتج هذه الظاهرة أو تكون محفزاً لكثير من العلماء والمبدعين.
– خاصية السلوك المعادي للمجتمع؛ تتجلى هذه الخاصية في عدد الأشخاص الذين يعلنون عن حجم الترهيب والتنكيل والتعذيب الذي تعرضوا له من طرف أشخاص يعملون اليوم في حقل السياسة بعقلية مافيوية، وسجون الأسد تشهد اليوم على مئات الآلاف من هذه الحالات ، عداك عن الذين قضوا تحت التعذيب دون محاكمات حتى.
– العمل وفق طريقة أخطبوطية؛ بمعنى أن تكون لدى المافيا ارتباطات كثيرة عبر شبكة من العلاقات المعقدة التي تضمن له قضاء المآرب والمصالح بسرية ودقة، كارتباط أحد المجرمين بشخصية سياسية مرموقة، هذا المثال تفوح رائحته كثيراً في نظام الأسد.
المال والثروة؛ من المعيب في هذه الخاصية تحديداً أن نفسر المفسّر من زاوية كيف استباح نظام الأسد خيرات وثروات سوريا . بل ذهب الكثيرون إلى أبعد من ذلك في استساغة وقبول عبارة ( سوريا الأسد) ونسب البلاد إلى هذه العائلة.
هناك العديد من الخصائص والسمات التي تم وضعها في دراسة وفهم منظومة المافيا نجدها واضحة في نظام الأسد وآلية عمله . أيضاً من الضروري جداً أن نأتي عليها بشكل توثيقي وعلمي كخطوة أساسية للبحث في تطبيق العدالة الانتقالية ( معوقاتها، مقوماتها ، أهدافها، أساليب وآليات تنفيذها). وهذا بالضرورة يقتضي تشريح نظام الأسد ووضعه تحت المجهر لاستنباط الآليات في التعامل مع المخلفات والتشوهات التي كرسها طوال فترة حكمه، ومن جهة أخرى الإحاطة الكاملة بعوامل بقائه وزواله من خلال دراسة الظروف المحيطة والمناخ السياسي العالمي.
أيضاً بما يخصّ العدالة الانتقالية في سوريا، والتي موضوعها نظام الأسد وقياداته بالدرجة الأولى ، كيف هو شكل المحاكمة وماهي نقاط القوة كي تصبح وجوداً فاعلاً على أرض الواقع لتأتي الخطوات التالية فيما بعد، والتي تتعلق بإرساء الصلح و نقل الحقيقة ، إصلاح المؤسسات وكافة البرامج التي تقوم عليها العدالة الانتقالية .
لقد تناولنا في مادة سابقة جملة من الفوارق بين الدول المختلفة التي نجحت فيها تجربة العدالة الانتقالية، من ناحية آلياتها والسياق الذي طبقت وتحققت فيه، وهذا من شأنه أن يوضح لنا أن لسوريا أيضاً تجربتها الخاصة، وآلياتها المختلفة، وإن كان الجوهر ذاته، والأهداف واحدة في مساعدة الشعوب على الانتقال من المرحلة الدموية وانتهاكات حقوق الإنسان، إلى حقبة إنسانية جديدة ودولة ديمقراطية قائمة على المواطنة و اتخاذ تدابير وقائية تحول دون وقوع مثل تلك الانتهاكات في المستقبل .
فمن شأن جميع الحركات الثورية في العالم أن تنتج قوى سياسية تحاكم رموز الفساد في النظام السابق وتعلن حربها( القانونية) على أعداء الثورة، وهذا نتاج طبيعي في سياق الثورات، أما في سوريا، فسيأخذ شكلاً معقداً جداً نتيجة للعبث في حراك الثورة و تشرذمها .
هذا أساساً إن نجحت في الإطاحة بنظام الأسد دون تدخلات أو مطابخ خارجية . ومن جهة أخرى، لمّا نزل أمام عدة أسئلة تحوم حول تطبيق مفهوم العدالة الانتقالية في سوريا .
في نهاية المطاف، ومع تشابك التعقيدات في المشهد السوري، تبقى العدالة الانتقالية مخرجاً لحقبة زمنية سوداء في تاريخ سوريا ، لكن أيضاً مابين الفكرة والتطبيق لهذا المفهوم، ثمة مسافة لابد لنا من قطعها.
فالفكرة دون قوة تحملها تبقى مجرد يوتوبيا، والقوة دون فكرة تقودها تبقى مجرد هيجان موْتور.
مواد ذات صلة: