#########

آراء

متطلبات تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا وأبعادها


وجود الفساد والمحسوبية كعصب رئيس في الجسم القضائي منذ بداية صعود النظام إلى رأس هرم السلطة وحتى الآن، ومحاكمة شريحة كبيرة وواسعة من المعارضين له في محاكم تنفِّذ سياسته القمعية المطلقة

28 / آب / أغسطس / 2018


متطلبات تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا وأبعادها

 

*عمار حسين الحاج  

 

عند خوضنا في كل ما حدث ويحدث حتى اللحظة في سوريا، نجد أنّ النظام السوري مسؤول عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان (القتل، الاعتقال، الاختفاء القسري، مصادر الممتلكات، التهجير الجماعي و.. و..!). هذه الانتهاكات التي حدثت بعد إعلان الشعب السوري عن استحقاقاته بالحرية والعدالة الإنسانية في ثورته العظيمة .

 

ولا يمكننا الحديث عن تطبيق أي إجراء خاص بالعدالة الانتقالية في سوريا، مع وجود هذا النظام القاتل، واتساع الهوة الكبيرة بين المجتمع والقانون، إضافةً إلى وجود إرث كبير من انتهاكات النظام السوري، لم يُحاسب عليها في ثمانينيات القرن الماضي، مثل ( مجزرة حماه وحلب، ومجزرة سجن تدمر، والإحصاء الاستثنائي للمكون الكردي )؛ كل هذا جعل الإيمان والثقة بقدرة أجهزة الدولة تحت سيطرة النظام السوري على تحقيق العدالة، شبه مستحيل، إذا لم نقل مستحيلاً بالمطلق، فوجود الفساد والمحسوبية كعصب رئيس في الجسم القضائي منذ بداية صعود النظام إلى رأس هرم السلطة وحتى الآن، ومحاكمة شريحة كبيرة وواسعة من المعارضين له في محاكم تنفِّذ سياسته القمعية المطلقة، أفقد القضاء في سوريا استقلاليته وشفافيته، التي يجب أن يكون عليها أي جسم قضائي، هذا بالإضافة إلى عدم قدرة المعارضة في كل مناطق سيطرتها على إنشاء بديل قضائي وأمني، يحقق في الحد الأدنى حماية المواطنين من الجرائم وارتكاب انتهاكات بحقوقهم، وتحقيق منظومة قضائية شفافة ونزيهة وغير مؤدلجة، ووضع العدالة الانتقالية أمام معوقات كبيرة، أهمها غياب الإرادة السياسية للنظام السوري، في الانتقال السلمي والحقيقي للسلطة، في ظل رفضه وعدم رضوخه للقرارات الأممية ومجلس الأمن، المُتخذة في سبيل تحقيق الانتقال السياسي السلمي للسلطة. حيث إنَّ النظام استخدم كافة مؤسسات الدولة في قمع ثورة الشعب السوري المطالبة بالحرية والكرامة .

 

وعدم قدرة كل أطراف الصراع في سوريا، والتي تشمل الفصائل المعارضة للنظام السوري، على إحكام السيطرة أمنياً على مناطق سيطرتها العسكرية، بسبب تورط أغلب هذه الفصائل في العديد من الانتهاكات، مثل الاعتقالات التعسفية، والتعذيب، والقتل خارج إطار القانون، أدى إلى سوء الجهاز القضائي في سوريا، في مناطق سيطرة النظام وفي المناطق التي تسيطر عليها المعارضة .

 

هذا بالإضافة إلى حجم الكارثة الإنسانية بسبب التزايد الكبير والتصاعدي في سنوات الثورة وحتى اللحظة، بأعداد المهجّرين من مناطقهم، والنازحين، واللاجئين إلى كل دول العالم، بحثاً عن الأمان، فضلاً عن المعتقلين والمختفين قسرياً، مع عدم وجود مجتمع مدني في سوريا كهيئات ومنظمات يعول عليه، في إرساء السلم الأهلي، ووضع حدّ للنزاع في سوريا.

 

ومن المعوقات أيضاً، ما تواجهه المنظمات والهيئات القانونية والحقوقية، ولجان تقصي الحقائق الدولية، المعنية برصد وتوثيق الانتهاكات لحقوق الإنسان، وجرائم الحرب، من صعوبات كبيرة في البحث والتوثيق، وكتابة تقاريرها، المعتمدة من المنظمات السياسية الفاعلة في المجتمع الدولي، بسبب منعها وعدم منحها التراخيص من قبل النظام السوري، وعدم قبوله دخولها إلى مناطق سيطرته، مع تكذيب أي تقرير يصدر عن كل هذه المنظمات .

 

وفي ذات الإطار، فإن المجتمع الدولي بهيئاته الأممية ومجلس الأمن، لم يستطع استصدار أي قرار ملزم لتنفيذه من قبل النظام السوري، وهذا ما دفعهُ إلى الاستمرار في نهجه العنفي  بارتكاب كافة صنوف الانتهاكات، ما جعل هناك تبايناً أيضاً واختلافاً في تقنيات البحث والتحقيق في جرائم النظام، مع عدم الدفع والعمل من قبل المنظمات الدولية لوضع نهج تقني موحّد ملائم لفهم جرائمه، للتفريق بين الجريمة العادية، لأشخاص، وبين الجريمة المنظّمة التي تتم بتخطيط وبناء على قرارات سياسية، لأسباب سياسية بحتة، وإلباسها ألبسة طائفية، أو عرقية، وتتم بواسطة كيانات رسمية حكومية، أو أشخاص لهم نفوذ في الصف الأول للسلطة .

 

وتأتي هشاشة المجتمع المدني في سوريا، وتبعية كافة المؤسسات والمنظمات المدنية والحكومية، لسياسة النظام الدكتاتورية، بعد سنوات طويلة من القمع، فلم يكن من المقنع الاعتماد عليها في رفع مستوى الوعي الفكري والإنساني، والحقوقي، لدى المواطنين، للالتزام بالقوانين، وعدم الانزلاق في تأجيج الصراع مرة جديدة ولأسباب جديدة.

 

وهذا ما يجعل فهم المجتمع السوري، المركب من مجتمعات صغيرة، تختلف من حيث الموروث الثقافي، والعادات والتقاليد، والأعراف، وهنا يجب أولاً للبدء بالبحث عن آليات حقيقية لتطبيق العدالة الانتقالية، الاعتراف بتعدد البنى الاجتماعية، وهذا ما يقودنا لفهم أشكال الانتهاكات، واختلاف الانتهاكات بين كل منطقة وأخرى، فانتهاك ( التغيير السكاني القسري، وقضية استملاك ومصادرة الممتلكات الخاصة بالسكان) في حمص وريف دمشق مثلاً ، يختلف نسبياً مع ما حدث ويحدث في حلب، ودير الزور، وهذا الانتهاك الذي استخدمه النظام، لتغيير التركيبة السكَّانية لأهداف سياسية بوسائل وأدوات وتطبيق ( طائفي ) بامتياز، وأيضاً يجب الأخذ بالاعتبار خصوصية العودة في التاريخ، لتوثيق بدء ارتكاب الانتهاك في كل منطقة على حدة،

 

مثلاً ( مجزرة حماه وحلب وجسر الشغور) في الثمانينيات، وهذا ما يساهم في طي صفحة الماضي بعد البحث فيها وعلاجها وفقاً لأدوات العدالة الانتقالية .

 

وهكذا، يتحتم على القيادات الاجتماعية، وذوي الاختصاصات الحقوقية، والطبية، والتاريخية، وعلم النفس، دراسة هذه الاختلافات بين المناطق السورية، دراسةً دقيقةً وموضوعية، ووضع الخطط الكفيلة بإطلاق المصالحات الوطنية الفاعلة بين مكونات المجتمع السوري، وجبر الضرر المناسب والعادل، وكل هذا يساهم في ترسيخ العدالة الانتقالية المتينة، والمرجوة لإعادة الاستقرار إلى سوريا .

 

فالمدخل الرئيس والممكن حالياً لتطبيق حقيقي وشامل لآليات العدالة الانتقالية، هو التوثيق، أي توثيق هوية الضحايا، نوع ودرجة الانتهاك الذي تعرضوا له، ومحاولة تحديد الجناة، توثيقاً علمياً احترافياً، مع الاستفادة من كل التوثيقات السابقة، وجمع هذه البيانات والمعلومات في خزَّانٍ واحد، تحت إشراف لجان وقوى ذات قبول عند أغلب القوى السياسية والاجتماعية المحيطة والفاعلة في الشأن السوري.  حيث إنَّ هذا التوثيق يعيد الثقة للمجتمع السوري، بآليات التوثيق، ما يجعله يفسح المجال لتوثيق انتهاكات لم يكن قد وثّقها من قبل، ويمكن أن تكون أشد خطورة من الانتهاكات الموثقة، وبنفس الإطار، فالتوثيق يضمن عدم فقدان هذه الوثائق، أو فقدان قيمتها المادية والقانونية، لذلك يجب حفظها بالطرق القانونية الدولية والمحلية، لضمان عدم فقدانها للمصداقية القانونية أمام القضاء المحلي والدولي، وبالتالي، هو حفظ لحقوق المواطنين من ضياعها بحجة فوضى الحرب .

 

 

وبعد أن يتم التوصل إلى حل سياسي شامل في سوريا، وإلى اتفاقية سلام بين جميع الأطراف المتنازعة، وتشكيل جسم سياسي يقود المرحلة الانتقالية، ( مثلاً.. هيئة الحكم الانتقالي)، يأتي دور لجان تطبيق العدالة الانتقالية، في الحفاظ على مؤسسات الدولة، ( الجيش ، الأمن ، القضاء ) وإعادة هيكلتها لتكون قادرة على تطبيق القانون في كل الجغرافيا السورية، وهذا ما يتحتم على القيادة السياسية الانتقالية أن تقوم بإجراءات إصلاحية واسعة وفاعلة، لتحقيق العدالة القضائية والسياسية، وبالتالي الاقتصادية، وفق جدول زمني محدد وإسعافي، وخصوصاً في المناطق الأكثر تضرراً من الحرب.

 

وأهم أولويات إجراءات هيئة الحكم الانتقالية، هي وقف العمل بالدستور الحالي، وإلغاء المحاكم الاستثنائية، وقانون إحداث محكمة قضايا الإرهاب في دمشق، وبالتوازي أيضاً إلغاء العمل بالمحاكم المحدثة في مناطق سيطرة المعارضة، وإلغاء أو وقف العمل بكل القوانين التي تتعارض مع سير المرحلة الانتقالية، وذلك عبر صياغة إعلان دستوري يتناسب مع متطلبات المرحلة الجديدة، التي ترتكز على إصلاح  وإعادة  هيكلة المؤسسات، وتفعيل لجان وهيئات تطبيق العدالة الانتقالية، والتي من واجبها، إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين، والمعتقلين على خلفية الثورة، منذ 15/3/2011 ، من كل السجون، وإنشاء محكمة خاصة بجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والانتهاكات لحقوق الإنسان، وفق القانون المحلي والدولي القضائي، وملاحقة والقبض على الجناة. وتشكيل لجان المصالحة الوطنية والسلم الأهلي، من أجل ضمان قيام المصالحات الفعلية، ومنع وقوع حوادث انتقامية، لإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري، وإنشاء صندوق مالي، للعمل على جبر ضرر الضحايا الموثقين مادياً، ومعنوياً (عبر توثيق الأشخاص الذين ضحوا بأنفسهم وممتلكاتهم في سبيل تحقيق الحرية والكرامة للمجتمع السوري، وتخليد ذكراهم، بالوسائل الممكنة ).

 

في ختام القول عن إمكانية إيجاد آليات حقيقة لتطبيق العدالة الانتقالية في سوريا، ولجعل سوريا مكاناً آمناً ومناسباً للعيش فيه، بحرية وكرامة، وحفاظاً على إنسانية المجتمع السوري، لا يمكن تحقيق كل ذلك من دون الحديث عن عدالة تجعلنا نثق بشكل كامل بمحاسبة نظام الأسد،  كرأس الهرم، مع  شركائه الفعليين،  والبارزين  في السلطة،  المسؤولين  عن  جرائم  حرب، وجرائم ضد الإنسانية، من أفظع الجرائم التي ارتكبت في التاريخ، وفي غياب وتعطيل دولي للقرارات التي من شأنها محاكمة الأسد وشركائه، بسبب ( الفيتو الروسي والصيني )، وهكذا لا يبقى سوى خيار واحد، هو محاكمة أطراف النظام في محكمة سورية، تُنشئها الحكومة السورية الجديدة، وتعتبر اللبنة الأساسية في أي مشروع للمصالحة، وتحقيق السلم الأهلي، وتطبيق العدالة الانتقالية في سوريا .

 

 

مقالات ذات صلة :

1ــ  مخاوف حول العدالة الانتقالية في سوريا

2 ــ العدالة الانتقالية السورية، ومحاولات الأسد في الإفلات

.

.