دخلت إلى الغرفة الأخيرة باتجاه اليسار برفقة عسكري شاب، كان يرافق القاضي الذي على الطاولة مساعد وكاتب متجهم الوجه، ذو بشرة داكنة ولهجة حوارنية. سألني بعضاً من الأسئلة، ثم قال لي محاكمتك ليست عندنا ستحولين إلى محكمة قضايا الإرهاب.
21 / تشرين أول / أكتوبر / 2018
الجزء الثالث
ياسمينا البنشي
يوم تلو الآخر وأنا أنتظر دوري في حفلة العذاب والاستجواب. بعد أسبوعين كاملين نادى المساعد على اسمي، بدأ قلبي يخفق سريعاً حين توجهت بصحبته إلى باب المصعد. نزلنا نحو الطابق الأرضي، ثم وضع غطاءً على رأسي قبل أن نخرج من البناء! هو ليس متديّناً على أيّة حال، لقد أخفى شعري كي لا يتعرف عليّ أحد من العساكر فيخبر عائلتي.
وصلنا إلى أمام الغرفة التي يجلس فيها (أحمد عليا). وقفت قليلاً في انتظار دخولي لأسجل بياناتي قبل التحقيق. يطلق المعتقلون على المساحة الملاصقة لغرفته اسم: ساحة السيرك (لتنوّع فنون التعذيب فيها)، فهي تصخب بالأصوات التي تصل إلى السماء من شدة التعذيب، وكنت أسمعها دون أن أرى أصحابها “يا الله يا الله” مناجاة المعتقلين التي ترن وتئن في أرجاء المساحة – الساحة الكبيرة جداً، وأنا أرتجف من الخوف. نادى عليّ المساعد لتسجيل اسمي قبل الذهاب للتحقيق؛كانت غرفة “شرشبيل” مليئة بالمصادرات (بطانيات- دواء- قطع كهربائية- ملابس…) لا مكان للوقوف بداخلها، أُمرت بالصعود إلى مبني التحقيق برفقة عنصرآخر.
صعدنا، ومررنا بممشى طويل تتوزع عن يمينه ويساره المكاتب والغرف، وعلى جانبيه يقف المعتقلون الشبّان معصوبو الأعين، يتجهون نحو الحائط ورائحة القيح والدماء تفوح من أجسادهم.. وضعوني داخل غرفة فيها مكتبان وثلاثة محققين، الأول كان يحقق مع رجل سبعيني داخل الغرفة، كان المسنُّ راكعاً على الأرض ويلبس قميصه الداخلي برأسه، سمعته يقول أنه من كفر زيتا بريف حماه، عندما بدأ المحقق باستجوابه عن ابنه أحمد؛ فيقول المسنّ لا أعرف يا سيدي… ثم ينهال عليه بالضرب بعصا غليظة مدببة على رأسه، إلى أن يسيل الدم، فيأمره بمسح الأرض التي تلوثت بدمائه دون أن يرفع رأسه .
أما المحقق الثاني فكان يقوم باستجواب شاب يافع، لم يبلغ السابعة عشر من عمره، عبر شباك الغرفة الواسع المطلّ على الممشى، كان الشاب نحيلاً، غضّ الجسد لا يقوى على تحمل “الكابل الرباعي” من يد المحقق، ولم ينتظر إلا بضع دقائق ليقوم بضرب الشاب على رأسه وأكتافه حتى سقط على الأرض مغمياً ولم يقوَ بعدها على الوقوف، ثم طلب من أحد العناصر سحبه وجلب معتقل آخر.
كان نصيبي مع المحقق الثالث، أمرني بالجلوس على كرسي مكسور في زاوية الغرفة، لم أكن معصوبة العينين حينها، وبعد أن شتمني بما لم أسمعه قط في حياتي، بدأ باستجوابي، لم أستطع سماع أسئلته من شدة صراخ المسنّ، فالتفكير يصبح صعباً في تلك اللحظات. عند أول سؤال أجبت: بنعم، لم أعد آبه، أريد أن ينتهي ما أراه أو تعمى عيناي عن رؤية رجل أتخيله أبي وشاب أتصوره أخي وهم يتعذبان أمامي حتى الموت؛ كلّ ما تكلم المحقق كلمة أقول نعم أنا فعلت… نعم أنا كل ما ذكرت، لدرجة لو أنه طلب مني الاعتراف بأني من فجر خلية الأزمة، لقلت نعم، أنا قمت بذلك. كان التعذيب النفسي بالنسبة إلي أشدّ ألماً من التعذيب الجسدي.
بعد الانتهاء قال لي “أحسنتِ… لم تتعبيني بالاعترافات” كان الجميع قد انتهى، أردت أن أعرف من أين هو، فلهجته لم تكن غريبة عني، وكنت أسمعها عادة من أصدقاء أبي القدامى، فقمت بسؤاله: هل أنت من ريف مدينة جبلة؟ فأجابني بدهشة نعم وكيف عرفتي؟ كذبت عليه وقلت بأن لي أقارب من جهة أمي ينحدرون من قرية مجاورة.
انتهى التحقيق وطُلب من أحد ألعناصر إعادتي إلى مبنى الفرع 215 ، حيث إن التحقيق كان في فرع الأمن العسكري 291، وأثناء عودتي خلال الممشى كنت أسترق النظر نحو المعتقلين قبل عودتهم إلى مهاجعهم. أذهلني كتف أحد المعتقلين المتفسخ. ديدان صغيرة بيضاء تتحرك فوقه! عدت إلى مهجعي مصدومة من هول ما رأيت، لم يطل انتظاري أكثر من يومين حتى طُلب مني أن أستعدّ للمغادرة دون أن أعرف وجهتي.
بعد أن أتممت كافة إجراءات المغادرة نزلت الدرجات المقابلة لغرفة (أحمد عليا) باتجاه الحافلة وإذ بسيارة من نوع “فان” بابها الخلفي مفتوح، تحمل جثث معتقلين مكدّسة فوق بعضها البعض، معظمها عار. لم أستطع أن أتمالك نفسي ورحت أصرخ الله أكبر، وبدأ عنصر الأمن بضربي على وجهي وهو يقول وجهك بالأرض يا ……
صعدنا إلى الحافلة أنا وثلاثة عشر شاباً، دون أن تعصب أعيننا. قال لنا عناصر الأمن المسلحون: أنتم اليوم ولدتم من جديد، سيطلق سراحكم ولا تعودوا إلى ما فعلتوه سابقاً، كنت أسمع تنهيدات الشبان وحمدهم لله، كنت أشعر بفرحتم وابتسامتهم دون أن أراهم، لم يكونوا يعرفوا بعد أن عناصر الأمن الذين أقلونا كانوا يكذبون علينا كي لا نقوم بأية حركة في شوارع دمشق قد تثير حفيظة الناس أو نفكر بالصراخ أو الاستغاثة.
ذهبنا جميعاً إلى القضاء العسكري بمنطقة المزة، كان الممشى العريض بين المكاتب يعج بالمعتقلين الذين ينتظرون دورهم للعرض على القضاة، فهناك يحدد نوع المحاكمة إما عسكرية أو ميدانية عسكرية أو إرهاب.
دخلت إلى الغرفة الأخيرة باتجاه اليسار برفقة عسكري شاب، كان يرافق القاضي الذي على الطاولة مساعد وكاتب متجهم الوجه، ذو بشرة داكنة ولهجة حوارنية. سألني بعضاً من الأسئلة، ثم قال لي محاكمتك ليست عندنا ستحولين إلى محكمة قضايا الإرهاب.
خرجت تاركة خلفي من رافقوني إلى ذلك المكان والذين كانوا يحلمون بلحظة الحرية لألمحهم أثناء خروجي في مكان كبير يكتظون فيه مع الكثير من المعتقلين. أقسم لقد كُدّس في ذلك المكان وفي تلك الساعة أكثر من ألف معتقل.
نُقلت وحيدة مع أشيائي التي صادرها عناصر النظام إلى مخفر ركن الدين لأكتشف أن النساء اللواتي غادرن قبل أيام من الفرع، كن ينتظرن داخل غرفة صغيرة في ذلك المخفر. هنا يبدأ الكشف عن مصير المعتقلات اللائي اختفين طوال المدة السابقة، حيث إنه من المستحيل الوصول لأي معتقلة داخل تلك الأقبية.
المساعد أبو عبدو (مسؤول المخفر) كان يسمح للمعتقلات بالاتصال من هاتفه الخليوي مقابل مبالغ مالية كبيرة، يتم إرسالها من ذوي المعتقلات؛ لم يكن لديّ من أطمئنه عني في دمشق، فأهلي متوفين، وشقيقي معتقل قبلي منذ عام ونصف، وأخي الآخر كان في مصر… لكني كنت أتوق لسماع صوته، ثمّ إنّ من بين الأشياء الموجودة في مصادراتي، ساعة سويسرية ثمينة. استدعاني أبو عبدو ليفاوضني عليها مقابل مكالمة هاتفية، لم أستطع رفض ذلك العرض، فطمأنة أخي الذي أصيب بأزمة قلبية بعد اعتقالي، كانت تساوي عندي كنوز الدنيا وما فيها. استطعت الاتصال بشقيقي دقيقة واحدة فقط، لكنها كانت كافية لتعيد له الأمل والعافية بعد عودتي من حالة الاختفاء القسري في أقبية المخابرات السورية.
من لم يكن لديها مصادرات أو أهل يأتون لها بالنقود… يقوم أبو عبدو بابتتزاها جنسياً مقابل مكالمة قصيرة مع أهلها الفقراء أو وجبة طعام شهية.
لم تكن غرفة المخفر العفنة التي تم ايداعنا في داخلها أقل قذارة من مهاجع الأفرع التي مررت بها. كانت الغرفة أصغر من أن تتسع لست معتقلات، لا تدخلها الشمس، طعامنا عبارة عن خبز مقدد متعفن لا تأكله الجرذان التي تزورنا ليلاً باحثة عن الطعام، فقط من تملك النقود تسطيع أن تشتري الأكل وتطعمنا.
بعد ثلاثة أيام نقلنا جميعا إلى مخفر كفرسوسة، ما عدا المعتقلة “صفاء غرة ” التي أضاع عناصر الأمن هويتها أثناء تواجدها في فرع الحرس الجمهوري. مهجعنا في كفرسوسة كان كبيراً جداً، لا تدخله الشمس أيضاً، في داخله أكثر من خمسين موقوفة من جنسيات متعددة، فلبينيات، وصوماليات، وجزائريات…. وبتهم مختلفة. هذه المرة المكان يتسع للنوم ، والطعام يمكننا أكله، كنا خمس معتقلات بتهمة الإرهاب فقط، وكل ثلاثة أيام تأتي مجموعة من المعتقلات الجديدات من باقي الأفرع إلى أن أصبح عددنا ثماني عشر معتقلة.
في اليوم الثامن من إيداعنا طلب منا الملازم أن نستعد للمغادرة باتجاه سجن عدرا، بعد أن اكتمل الجنزير (هو مصطلح يقال بعد اكتمال عدد محدد من المعتقلات أو المعتقلين، ملأت السعادة جزءاً كبيراً من المعتقلات لأنهنّ يعلمن أنه في ذلك السجن يمكنهنّ رؤية أهلهنّ من خلال الزيارات.
رحلة الشقاء المجهولة إلى فرع الموت “215” الجزء الأول
رحلة الشقاء المجهولة إلى فرع الموت “215” الجزء الثاني