#########

الضحايا

كتاب “سجن صيدنايا خلال الثورة السورية”: شهادة خلدون منصور


كان الضرب يتم بكل أساليب التعذيب الموجودة بين أيدي السجانين؛ بالدولاب أو بالعصا الكهربائية أو بالهراوات أو بمواسير المياه البلاستيكية الخضراء. وفي المرحلة الأخيرة أضافوا إلى ذلك بورية الحديد التي كانوا يسمونها "أم كامل".

06 / آب / أغسطس / 2020


كتاب “سجن صيدنايا خلال الثورة السورية”: شهادة خلدون منصور

*المصدر: رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا 

 

الاعتقال والتحقيق

 

في السابعة صباحاً من يوم 5 كانون الأول 2011 تم اعتقالي من القطعة العسكرية التي كنت أخدم فيها. أخذوني إلى الفرع 293 حيث عرضت على رئيس قسم التحقيق في الساعة الحادية عشرة ليلاً من اليوم نفسه. واجهوني بشخص مدني كانوا قد وجدوا رقم موبايلي في هاتفه الخليوي وسألوه ماذا تعرف عن الملازم أول خلدون فقال إنني كنت أتعامل معهم وأجتمع بهم وأساعدهم في التخطيط لعمليات ضد ضباط من الطائفة العلوية من الذين شاركوا في اقتحام قطنا ومارسوا أثناء ذلك انتهاكات في حق السكان.

أنكرت ذلك تماماً. وفي الثانية صباحاً أخذوني إلى غرفة كانت تحوي حوالي 15 عنصراً من المخابرات العسكرية. وبعد دقائق جاء المحقق وقال أتى الأمر باعتقالك من رئيس الشعبة. نزع الرتب من على كتفيّ. كلبشوني ووضعوا لي عصابة العين (الطميشة) وأنزلوني إلى المنفردة. أخذوني إلى التحقيق بعد أسبوع وضربوني بالدولاب ولكني لم أعترف بشيء.

بعد أن ظللت في المنفردة خمسة عشر يوماً حولوني إلى مهجع جماعي. ثم نقلوني إلى الفرع 248 الذي بقيت في إحدى منفرداته حوالي أسبوع نقلوني بعده إلى سجن صيدنايا الذي دخلته في 20 كانون الثاني 2012. هنا يبدأ فيلم الرعب في الحقيقة. فقد استنتجنا أن ما يحدث في الأفرع الأمنية من تعذيب يعدّ بسيطاً بالقياس إلى ما سنتعرض له.

 

إلى سجن صيدنايا

عندما أخرجونا من الفرع 248 سلمونا الأغراض الشخصية التي كانت مع كل منا عند اعتقاله، والتي يسمونها “الأمانات”. كلبشونا وطمشونا ووضعونا في سيارة كبيرة مغلقة (براد). لم نكن نعرف وجهتنا بالطبع، لكنني استرقت النظر عندما وصلنا فعرفت أننا وصلنا إلى سجن صيدنايا الذي سبق لي أن اعتُقلت فيه عام 2008 ولكن في البناء الأبيض.

فتح عناصر الشرطة العسكرية باب السيارة وكنت جالساً قربه. لم يضعوا درجاً أو سلّماً لنزولنا بل كانوا يمسكون الواحد منا ويلقونه على الأرض وكأننا غنم. وأثناء ذلك كانوا يشتموننا بأعراضنا من أمهات وأخوات وزوجات. بعد أن أنزلونا أمرونا بالاستلقاء على بطوننا بوضعية منبطحاً، وكانت أيادينا مكلبشة خلف ظهورنا وعيوننا مطمشة. أخذوا أسماءنا وهم يضربوننا. ثم أدخلونا إلى المبنى الأحمر فأنزلونا طابقاً أو اثنين تحت الأرض. هناك نزعوا الكلبشات عن أيادينا مع بقاء الطماشات وأمرونا بخلع ثيابنا. لم نتوقع أن علينا التخلي عن ملابسنا الداخلية أيضاً لكنهم أمرونا بذلك.

 

 

وزعونا على المنفردات التي كان الوضع فيها مأساوياً للغاية. هناك حنفية لكن المياه لا تصل إليها والصرف الصحي لا يعمل. بعد أن أمضينا هكذا مدة 30-35 يوماً أصعدونا إلى مهاجع حيث كنا حوالي 35-40 شخصاً في المهجع الذي لا يحوي سوى بطانيات عسكرية، ثلاث منها للواحد عموماً. بقيت هنا حوالي سنتين ونصف.

 

في المهجع

عند توزيع الطعام كانوا يخلطون أنواع الأكل معاً، فيضعون الفطور والغداء والعشاء في “قصعة” واحدة سوياً. وفي أغلب الأحيان كانوا يفرغون الطعام على بلاط المهجع لنأكله، وأحياناً كانوا يرمونه في المرحاض كي لا نتمكن من تناوله.

أثناء توزيع الطعام يطلب المساعد أو الرقيب المسؤول عن الجناح من رؤساء المهاجع أن يُخرجوا المخالفين لدى كل واحد منهم. يقع رئيس المهجع، وهو من السجناء، بين نارين؛ فإما أن يُبلغ عن بعض زملائه فينجو، أو أن يقول إن أحداً لم يخالف فيتلقى هو الضرب نيابة عن أفراد المهجع كلهم.

كان الضرب يتم بكل أساليب التعذيب الموجودة بين أيدي السجانين؛ بالدولاب أو بالعصا الكهربائية أو بالهراوات أو بمواسير المياه البلاستيكية الخضراء. وفي المرحلة الأخيرة أضافوا إلى ذلك بورية الحديد التي كانوا يسمونها “أم كامل”.

 

في إحدى المرات تعرضت للضرب بها. ناداني السجن فاستجبت طبعاً. كانت الوضعية التي يطلبونها في هذه الحالة أن تضع يديك على عينيك وتحني رأسك إلى الأسفل. قال “هل تعرف أم كامل؟” قلت: “لا” فقال: “ستتعرف إليها الآن”. ضربني بالأنبوب المعدني ضربة واحدة على رأسي ففتحت عينيّ لا إرادياً ولم أر سوى السواد. هربت إلى داخل المهجع لأندس بين زملائي فصار يشتمني ولحقني فضربني ضربة ثانية على عمودي الفقري. وقعت أرضاً وأحسست بالشلل في نصفي الأسفل لمدة 10-20 ثانية. صرت أبكي وقلت بشكل عفوي: “يا رب… والله ما ساوينا شي لهيك” فقال لي: “عم تسأل ربك؟ ربك موجود عندنا تحت بالزنزانة” وضربني الثالثة على عضلة كتفي الأيمن. كان زملائي واقفين ووجوههم إلى الجدار كالعادة، إذ يمنع أن ترى السجانين، ومن يلاحظون أنه رأى أحداً منهم كانوا يقتلعون عينيه ويعيدونه. وصلت إليهم وهويت أرضاً بينما كان السجان يخرج. أغمي عليّ لربع ساعة تقريباً. عندما صحوت طلبت من زملائي أن يوقفوني على قدميّ لأتأكد إن كنت سليماً أو أصبت بالشلل. كنت أبكي وصار الجميع يبكون معي. أسندوني فتمكنت من الوقوف والحمد لله.


في مرة أخرى كسروا لي أحد أضلاعي. بعد العقوبة تقدم مني أحد العساكر وضربني على طرفي الأيسر. ظللت مريضاً بعدها حوالي 45 يوماً. خلال هذه المدة لم أسلم منهم. حتى لو كان أحد أعضائك مكسوراً ستتعرض للصفع والركل والشتم.

أثناء وجودنا في السجن كنا نملك الأمل بالله أن الثورة ستنتصر وأننا سنخرج، رغم وجود بعض الضعفاء. فعلى سبيل المثال كان أحد زملائنا في المهجع يجلس في الزاوية ويردد دوماً: “خلص… راحت علينا. رح يصير فينا متل جماعة الإخوان المسلمين وما عاد نطلع بحياتنا. بكرة رح يصفونا، وبكرة بدهن يعدمونا”. كان هذا محبطاً جداً.


الموت والقتل

من الذين ماتوا معنا ابن دورتي الضابط أيهم قنزوعة من ريف اللاذقية، وقد توفي بسبب المرض. استيقظنا صباحاً فوجدناه مصاباً بالحمى والدم يسيل من أنفه وعينيه محمرتين. وبالمرض نفسه مات شاب يدعى خضر القاسم من تلكلخ. وقتل النقيب القاضي نايف فيصل الرفاعي من درعا.

كنت أحب الرفاعي لأنه كان متفائلاً، كان يردد: “بدنا نطلع وبدنا نسقّطه للحيوان”. بعد الزيارة الأخيرة له من زوجته كان في وضعية جاثياً المعتادة ويداه على عينيه فضربه أحد العساكر على معدته من الأعلى. عندما دخل إلى المهجع كان منهكاً. جلس على الأرض وصار يقول: “قتلوني… قتلوني ولاد الكلب”. في اليوم الثالث كنا نتناول وجبة الفطور عندما طلب أن يذهب إلى الحمام. حاولت مساعدته فهوى بين يديّ. فحصه شاب يعرف قليلاً بالطب فقال إنه استشهد رحمه الله.

غسلناه ولففناه ببطانية. عندما أتى السجان في اليوم التالي سأل: “شبه هادا ولاك عرصة؟”، فقد كانوا يطلقون على رئيس المهجع “عرصة المهجع”. فأجابه: “مات”. عاود السجان السؤال: “مات وإلا فطس؟” فأجاب: “فطس”. قال: “لا تكونوا أنتو قتلتوه ولاك؟” فأجاب رئيس المهجع: “لأ سيدي، هو مات لحاله”. قال السجان: “طيب ماشي… اشحطه وزتّه برّه”.

 

جناح الجحيم

كنا في الجناح (ج) الذي كانوا يطلقون عليه “جناح الجحيم”، ولم يكن هذا الوصف مجانباً للحقيقة. فمثلاً كان ممنوعاً أن تحتفظ بأي ملابس سوى التي ترتديها. ومرت علينا ثلاثة أشهر دون ماء في الخزان الذي كان خرباً. كانوا يدخلون لنا عشرين ليتراً من الماء في اليوم، وكنا حوالي أربعين شخصاً.

 

كان العذاب النفسي أشد من التعذيب الجسدي. فمثلاً كان أحد العساكر يأتي ويفتح الطاقة التي في الباب (الشرّاقة)، وهنا كان علينا وفق التعليمات أن نتوجه فوراً إلى صدر المهجع بوضعية جاثياً ويضع كل منا يديه على عينيه ووجهه إلى الجدار. يمنع أن تنظر إلى الخلف ويمنع نهائياً أن ترى السجان. كان يفتح الشراقة متى شاء ويشتمنا بأمهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا. كنا نتمنى أن يدخل فيضربنا ولا نسمع هذا الكلام.

 

من أقذر العقوبات التي كنا نتعرض لها أن ينتقوا أي اثنين ويأمرونهما فيقفان متقابلين وبيد كل منهما “شحاطة” عليه أن يضرب زميله بها على وجهه. كان القصد من مثل هذه العقوبة الإذلال. أنت هنا مجرد رقم.

في المرحلة الأخيرة من سجننا كانت تجري إعدامات بطريقة غير مباشرة؛ كأن يضربوا المعتقل ضربات قاتلة على مناطق حساسة كالنخاع الشوكي أو الرأس أو المعدة.

خرجنا من السجن على دفعتين في منتصف حزيران 2014، وبعدها توقفت الإفراجات من صيدنايا إلا بشكل إفرادي.



  


لقراءة مدخل الكتاب والجزء الأول والثاني:

مدخل الكتاب

ج

ج2