في أحد الأيام مرض رنس مرضاً شديداً. جاء طبيب السجن ليعاينه. تخيل أن الطبيب صار يضربه! لكمه فوقع اثنان من أسنانه ثم أمر بتحويله إلى المشفى بسبب إصابته بالسل أو الربو، لم أعد أذكر.
07 / آب / أغسطس / 2020
*المصدر: رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا
الاعتقال
في أحد الأيام الأولى من تشرين الثاني 2011 كنت نازل “مبيت” إلى منزلي، وهو ما نسميه “مغادرة”. وعندما عدت إلى الدوام رأيت سيارة تقف أمام خيمتي، كانت سيارة قائد الكتيبة. لم يكن أمراً معتاداً أن يزور قائد الكتيبة ضابطاً صغيراً برتبة ملازم أول مثلي. أخذني بالأحضان والقبلات والسلام الحار مما عزز استغرابي، وبعد ذلك قال إن قائد الفوج يطلبني. كان مقر قيادة الفوج في معسكر للتدريب الجامعي بحمص. وهو فوج قوات خاصة. ركبت مع قائد الكتيبة بسيارته وغادرنا موقع كتيبتنا في القصير إلى قيادة الفوج.
عندما وصلنا إلى ساحة المعسكر رأيت رئيس أركان الفوج، وهو ضابط علوي من مصياف، من قرية تدعى بعرين، وهو شخص طائفي جداً. أخذني بالأحضان كذلك وكرر طلب قائد الفوج لي. تأبط يدي وذهبنا إلى مكتب قائد الفوج، وهناك دفع الباب الموارب وأدخلني أمامه ثم دفعني بيده بقوة. فوجئت بثلاثة أشخص، أحدهم يجلس فوق خزانة كانت على يمين الباب من الداخل واثنان وراء الباب مباشرة. كانوا عناصر أمن. رموا أنفسهم عليّ بمجرد دخولي فشعرت بالرعب. صاروا يفتشون جسمي بسرعة بحثاً عن مسدس أو قنابل. لم أكن أحمل شيئاً في الحقيقة ولم أفهم ما هو الموضوع!
كلبشوني…
نظرت إلى يميني فوجدت اثنين من قادة السرايا، أحدهما من القصير سيُقتل تحت التعذيب في السجن لاحقاً، والآخر من أريحا بإدلب. مكلبشين ووجهاهما إلى الحائط. سألت من هاجموني: “خير؟ شو في؟” فأجابوني: “لا تحكي ولا حرف! اقطع الصوت وصفّ جنب زملاءك!”. فعلت ذلك. بعدها أتوا بأكياس وضعوا واحداً حول رأس كل منا وأخذونا إلى باص صغير.
اقتادونا إلى الفرع 261، وهو فرع الأمن العسكري بحمص. هناك نزلنا من الباصات وأركبونا في سيارات فان بعد أن طمشوا أعيننا، إلى الفرع 293، وهو فرع شؤون الضباط، الموجود في العاصمة.
في دمشق
كنت أشعر بوجود عدد كبير من الأشخاص المحتجزين حولي، لكنني لم أعرف من هم حتى رفعت الأكياس من حول رؤوسنا وقبل وضع الطماشات. كانوا 59 ضابطاً سنّياً في الفوج، منهم 11 قائد سرية والباقي قادة فصائل.
في الفرع 293 أنزلونا فوراً أدراجاً طويلة تحت الأرض واقتادونا إلى زنزانات طول الواحدة منها ثلاث بلاطات وعرضها بلاطتين ونصف، بما فيها حفرة لقضاء الحاجة وحنفية. أي أنك ستقضي وقتك كله في وضعية القرفصاء.
مرت عشرة أيام دون أن يسألني أحد شيئاً! كنت متوتراً بشدة. كنت أريد أن أفهم ما هي تهمتي؟ لماذا أنا هنا؟ وأين أنا أصلاً؟
بعد عشرة أيام فُتح الباب. رموا لي طماشة لأضعها على عينيّ. كلبشوني وأخذوني إلى المصعد فركبناه عدداً من الطوابق. أدخلوني إلى مكتب للتحقيق، وهناك لمحت ساعة تشير إلى الحادية عشرة. لم أعرف إن كان الوقت نهاراً أم ليلاً حتى قال أحد الموجودين بملابس مدنية لآخر: “سيدي… بقيت ساعة واحدة على انتهاء الدوام” فعرفت أننا في الليل.
بدأ التحقيق. أنزلوني إلى “الشبْح”. هناك وجدت رجلاً متقدماً في السن يتولى تعذيبه عسكري شاب من حلب، يدوس عليه بقدميه ويشتمه ويسبّه. لاحظت أن العسكري تأتيه طلبات بين الوقت والآخر لتوصيل كاسات شاي إلى المكاتب. أي أنه مجرد حاجب أعطوه هذا الموقوف ليتسلى فيه!
سألت المسنّ عن وضعه فقال: “أنا العميد فلان، قائد مطار مرج السلطان”. وهو مطار حوامات قرب دمشق. صعقت وشعرت بالرعب وقلت في نفسي إذا كان العميد يُداس بالأقدام فما الذي سيحدث لي أنا؟!
نظرت حولي وإذ أجد عدداً من الحمامات الصغيرة المتجاورة وفي كل منها شخص معلق من الكلبشات التي بيديه إلى أنبوب يقطع الحمامات كلها، ويمسّ الشخص الأرض برؤوس أصابع قدميه. هذا هو “الشبح”. كان بعضهم ينزف من معصمه، وبعضهم يصرخ من شدة الألم. بمجرد أن يسند الشخص قدميه إلى الأرض قليلاً تشد الكلبشة على معصميه من الأعلى، وإن رفع نفسه ليريح يديه تتألم رجلاه. مشاهد مرعبة جداً. هناك بعض من أمضوا مدة على هذه الحال فكان أرجلهم متورمة وجلودها تتشقق ويسيل منها الدم.
شبحوني لمدة أربع وعشرين ساعة، ثم أصعدوني إلى التحقيق من جديد. وهناك قال أحدهم للآخر: “خذه إلى الصالون”. أنزلوني إلى “الصالون” الذي كان عبارة عن ممر تقف في منتصفه إذ يمنع الاستناد إلى الجدار، وأنت مكلبش اليدين إلى الوراء. كان فيه أربع ضباط معتقلين من فوجنا وشخص مدني من درعا. سألته “ما تهمتك؟” فقال “المشاركة في مظاهرة”. كان يصيح مستنجداً. سألته عن السبب فقال إن السجان يمنعه من التبول منذ الأمس، وهو يجبره على شرب الماء، ويهدده بالضرب إن تبول في مكانه!!
نصحته أن يتبول ففعل. ولما أتى السجان ورأى ذلك صفعه كفاً واحداً رماه في الأرض، وأتى بمطاطة ربط له بها عضوه الذكري وعاود إجباره على الشرب.
أمضينا في الفرع ستين يوماً على هذا الحال، ضرب وشبح. في إحدى المرات وصلت إلى حافة الإغماء من شدة ألم الشبح ويداي مشدودتان بالكلبشة خلف ظهري. وصرت أصرخ بالآية القرآنية: “أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء”، وإذ برائد اسمه سامر (على ما أذكر) قادماً نحوي. أدخل حذاءه في فمي فأسكت صوتي وقال: “من هذا الذي تدعوه؟ من يجيب المضطر إذا دعاه؟ الله؟ من الله؟ من ربك؟ نادِه مجدداً لنرى كيف سينفعك؟ إن جاء فسأعاقبه معك! سأشبح ربك معك إن أتى إلى هنا! عاوِد نداءه وأنا بانتظاره هنا!”. بعد أن تركني بدقيقة جاء رئيس الفرع رفيق شحادة وسأل عن وضعي ثم أمر بفك قيودي وأخذي إلى المهجع.
نقلونا إلى سجن صيدنايا بعد شهرين في الفرع كما قلت. كنا نظن أننا سنرتاح هناك لكننا اكتشفنا أن معاناتنا الحقيقية ستبدأ مع دخولنا.
في سجن صيدنايا
نقلونا إلى هناك، في 4 كانون الثاني 2012. خمسين شخصاً بسيارة بوكس، وهي حاوية قمامة. عندما وصلنا صعد إلى صندوق البوكس شخصان من طاقم السجن صارا يمسكان بكل واحد منا وهو مكلبش ويرميانه إلى الأرض كيفما اتفق، فربما سقط على ظهره أو يده، وكأنك ترمي كيس بصل من شاحنة. أدخلونا وأخذوا ذاتياتنا ونحن مطمشون وسط ضرب لم يتوقف. ثم أخذونا خمسة فخمسة إلى الدولاب. يخلع الواحد منا عارياً تماماً ويتناوله شخصان بالضرب، أحدهما إلى اليمين والآخر إلى اليسار. وبعد أن ينتهيا كان هناك ثلاثة أشخاص لنقل السجين؛ يمسكه أحدهما من رجله والثاني من الأخرى، فيما يسحبه الثالث من يديه، ويرمونه في الزنزانة تحت الأرض بعد نزول درج.
أمضينا في الزنازين عشرين يوماً. يأتي السجان فيرمي لنا الطعام وكأنه يرمينا بحجارة، فيرتطم البيض بالأرض وينفلش، وكذلك رغيف الخبز الذي يضعون عليه اللبن. يتناثر الأكل على الأرض وكنا نأكله طبعاً فالطعام قليل جداً. كنا خمسة ضباط في كل زنزانة، وكان السجان يرمي لنا رغيفين من الخبز وبيضتين، وقد يضعون بعض اللبن على الخبز وكأنه تقدمه لقط. وكلما يأتي السجان بالطعام كان يعاقب كلاً منا بدولاب. لم يكن التعذيب في الزنازين محتملاً. كنا عراة بالكامل، والبرد شديداً جداً في هذه البلدة التي تعدّ مصيفاً. أعطوا كلاً منا ثلاث بطانيات عسكرية تعجّ بالقمل، إحداهن مبللة بالماء فاضطررنا إلى عدم استخدامها والاكتفاء باثنتين، نفرش الأولى على الأرض ونتغطى بالثانية.
في المهجع
بعد عشرين يوماً قالوا: “قررنا أن ننقلكم إلى المهاجع فوق ونعاملكم كبشر. وفي حال المخالفة سيعاقب المخالف بالنزول إلى هنا”. صعدوا بنا. وأمام باب المهجع ضربونا بشكل شديد ثم أدخلونا. وأيضاً كانوا يوزعون الطعام رمياً إلى الداخل فكنا نلمه من الأرض ونأكله. ورغم ذلك يمكنك أن تقول إن السجن كان “جيداً” نوعاً ما بالقياس إلى ما سيحدث في السنة القادمة وما بعدها. كانوا يضربوننا مرتان في الأسبوع فقط، وكمية الطعام كانت تكفي.
منذ 2013 بدأت الكارثة. صار السجناء يموتون، في جناحنا كان لا يمر أسبوع دون حالة وفاة أو حالتين إن لم يكن أكثر. انتشر الجرب والقمل. زاد التعذيب بعد أن قتل الثوار مدير السجن طلعت محفوض. كان الذي تلاه مجرماً حقيقياً، وبدأت التصفيات.
عندما دخلنا إلى المهجع وجدنا فيه ستة أشخاص؛ أربعة من الرستن، وواحد من شرقي حماة، والأخير من الضمير وكان اسمه علي عيسى. كان قد أطلق النار على دورية إسرائيلية أثناء عدوان غزة. كان نطقه ضعيفاً جداً. وبعد أن تعارفنا بمدة سألته عن السبب فقال لي إنه أمضى ما يزيد على ثمانية أشهر في المنفردة دون أن يتكلم مع أحد فأخذ يفقد النطق. كان يتأتئ ويتكلم بشكل مكسّر، ورغم ذلك أخبرنا الرفاق الآخرون في المهجع أنه عندما أتى كان يتكلم بطريقة غير مفهومة فاضطروا إلى تعليمه نطق الأحرف حتى استعاد قدرته على الكلام المضطرب عندما رأيته. هذا الشخص بطل.
وبعد مدة أدخلوا علينا سجناء جدد كان من بينهم الأخ رنس المصلح.
رنس المصلح
كان من الأوائل على دورته واختصاصه إشارة. أوفد ببعثة إلى إيران. ولما أنهاها وعاد لم تمض مدة قصيرة حتى كُتبت فيه تقارير فاعتقل. كان رجلاً بكل ما تعنيه الكلمة. عندما أتى السجان وقال: “من يريد أن يصبح رئيساً للمهجع؟” تهرب الجميع. كنا نعرف أن مصير رئيس المهجع هو الموت لكثرة ما يتعرض له من ضرب. اختار السجان رجلاً مريضاً لرئاسة المهجع فتطوع رنس بدلاً عنه. يتعرض رئيس المهجع يومياً لضرب مبرح قد يفضي إلى الموت. كان السجان يدخل إلى الجناح ويصيح من باب الممر: “رؤساء المهاجع” أو “عرصات المهاجع” أو “خنازير المهاجع”… “الكل يشلح بالشورت”. ويضربهم بالأنبوب الأخضر المعروف الذي يستعمل للتمديدات الصحية، ثم يخرج.
كان السجانون يسألون رؤساء المهاجع عن أسماء المخالفين لديهم. وكان رنس يجيب دوماً “لا يوجد مخالفون” فيتعرض هو للضرب بسبب ذلك. بالفعل لم نكن نخالف، إذ لم نكن نجرؤ على التنفس! كنا نطلب منه ذكر بعض الأسماء للتخفيف عن نفسه فكان يجيب: “سنموت على جميع الأحوال، كلنا هنا سنموت، ولن أظلم أحداً. لا أريد أن يقاضيني أحد الإخوة عند رب العالمين فيقول رنس ظلمني. فليضربوني حتى أموت”. حاولنا معه فلم يقبل. وبعدها قررنا أن ننظم دوراً بأسماء مخالفين مفترضين، كل يوم اثنين ليتلقيا العقوبة ويرضى بذلك السجانون. غير أننا لم نستفد شيئاً، كانوا يضربونهما ويضربون رنس معهما.
كنا معزولين عن العالم الخارجي تماماً. نريد أن نعرف أي خبر لكن دون جدوى. كان مجرد الكلام ممنوعاً، ولو جاء السجان فسمع همسة واحدة في الجناح سيضرب جميع الموجودين فيه. ما تريده من زملائك تطلبه بالإشارة. لكن زوجة رنس كانت ترسل له رسائل صغيرة بقصاصات ورق طول الواحدة 5 سم وعرضها 2 سم تدخلها مع المطاط في سير البنطال الذي تجلبه له معها في الزيارة، وتكتب فيها بعض رؤوس الأقلام. كانت هذه الأخبار موثوقة لدينا لكن الزيارة لا تحصل إلا كل أربعة أشهر. وكنا ننتظرها لنعرف شيئاً عن العالم الخارجي.
نظام الزيارات
يذيع السجانون أسماء من وردتهم زيارة فيستعد السجين للخروج من المهجع. يضربونه على الباب حتى يسيل منه الدم، ثم يجرّونه إلى غرفة كبيرة بطول 15 م وعرض 10 م تقديراً، يُجمع فيها كل من وردت أسماؤهم للزيارة من كافة الأجنحة ويُرمون فوق بعضهم. في الغرفة حلاقان يمسك كل منهما بماكينة لإزالة شعور المعتقلين. ثم يخرج السجين إلى الزيارة يمسك به عسكري من اليمين وآخر من اليسار وثالث وراءه. يقف بمواجهة شبك ناعم (غربال) بينما يقف أهله وراء شبك آخر، وبين الشبكين يسير رقيب ليستمع إلى الأحاديث. قبل الزيارة يجري تنبيه السجناء إلى الكلام المسموح، وهو: “كيفكم؟ كيف صحتكم؟ أنا بخير وأموري تمام” وأشياء من هذا القبيل.
الأغراض التي يجلبها الأهل لا تُسلّم مباشرة إلى السجين بل لقسم خاص في السجن. توضع أغراض كل سجين في كيس يُكتب عليه اسمه، ثم يجري تفتيشها. في إحدى المرات اكتشفوا بعض الأخبار المكتوبة على الوجه الداخلي لإحدى قطع الملابس. وفضلاً عن ذلك يسرق السجانون معظم الأغراض، فلو أتى الأهل بعشر قطع من الملابس، مثلاً، تصل قطعة واحدة منها فقط للسجين. كان السجان يقول: “تكفيك قطعة واحدة”!
لم يكن السجانون يعرفون شيئاً اسمه غسيل الملابس. كانت الزيارات مرتين في الأسبوع، يومي الأحد والأربعاء، وفي كل مرة كانوا يأخذون من الملابس الجديدة المجلوبة للسجناء ويرمون تلك التي كانوا يرتدونها!
في أحد الأيام طُلب رنس للزيارة، وعاد “منتوفاً” يسيل الدم من فمه. رموه في المهجع وذهبوا. تهافتنا باتجاه البنطال لمعرفة الأخبار. سحب المطاطة فخرجت الرسالة. قرأها ثم ضمها إلى صدره. سألناه فأجاب أنه لا أخبار فيها، وأنها تحوي كلاماً خاصاً فقط.
أنا من الدورة التي تسبق دورة رنس بدورتين، وهذا يجعلني “جده” في العرف المتداول في الجيش السوري. وكانت علاقتي به طيبة جداً. سألته فقال: لا شيء. في العادة كنا نحفظ القرآن قبل المغرب. أذكر أننا يومها راجعنا لبعضنا سورة “الواقعة” شفوياً. ولما انتهينا أعدت سؤاله عن فحوى الرسالة.
في العادة كان من يخرج إلى الزيارة يعود ليقول للآخرين إن الأمور بخير وسنخرج من السجن، حتى لو لم يقل له أهله أي شيء من هذا الكلام، وذلك لرفع معنويات السجناء ولو بالكذب لمساعدتهم على مواجهة الإحباط الشديد الذي يعانونه. وكان رنس يفعل هذا دائماً. كان يقول إن السجناء يعانون من الضيق والضغط ولا تنقصهم الأخبار السيئة فوقها. ولذلك عندما يعود من الزيارة كان يزعم أنه أهله لمّحوا له أن النظام سيسقط والأسد سيرحل والمساجين سيخرجون جميعاً، والفرج قريب.
ألححت في سؤاله فأجاب: “يا جد… أنا لما اعتقلت كان عمر ابنتي فاطمة تسعة أشهر. وقد كتبت لي زوجتي اليوم أن فاطمة صارت تمشي، وأنها صارت تنادي والدي بكلمة بابا”. وصارت دموع رنس تسيل. كان والده عميداً في إدارة الدفاع الجوي، وقد ربيت الطفلة في كنفه بعد سجن أبيها.
كان الموقف مؤثراً جداً. أخذت أواسيه بالكلام وفي الوقت نفسه تذكرت ولديّ، عمر وعلي. صرت أتذكر كيف كنت أصحبهما إلى الأرض ويسبحان في الساقية قرب البئر. ما الذي حل بهما الآن؟
المرض والمشفى
في أحد الأيام مرض رنس مرضاً شديداً. جاء طبيب السجن ليعاينه. تخيل أن الطبيب صار يضربه! لكمه فوقع اثنان من أسنانه ثم أمر بتحويله إلى المشفى بسبب إصابته بالسل أو الربو، لم أعد أذكر. نُقل إلى مشفى تشرين العسكري وبقينا في انتظاره عسى أن يحمل معه بعض الأخبار من الخارج. عندما عاد روى لنا ما حصل معه: “نُقل المرضى بسيارة مخصصة في الأصل لنقل القمامة. وعندما وصلنا أنزلونا أمام المشفى حتى جاء أحد العساكر وأعطى كلاً منا حبة أسبرين، ثم أركبونا في السيارة من جديد وأعادونا! ولم يتوقف الضرب في مشواري الذهاب والإياب”.
في مرة ثانية ذهب أحد أبناء مهجعنا إلى المشفى وعندما عاد اكتشفنا كم نحن بخير! فقد أخبرنا أن الوضع في أجنحة أخرى أسوأ بكثير، إلى درجة أن أحد الذين نُقلوا معه إلى المشفى، بسيارة القمامة أيضاً، عثر في أرضها على قيء جاف خلّفه مريض سابق فأخذ يكشطه ويأكله لشدة ما يعاني من جوع!
كان الجرب قد أصاب عدداً من السجناء في أجنحة أخرى بسبب ظروف قلة النظافة. وكنا حتى ذلك الوقت في مأمن من هذا المرض الذي سيضرب السجن كله بعدها ويؤدي إلى موت الكثيرين. أثناء ذهاب رنس إلى المشفى أصيب بالعدوى من أحد المرضى الذين ذهبوا بصحبته، ونقل المرض إلينا. بعد يومين أو ثلاثة من عودته بدأ يحك، وخلال أيام قليلة أصبنا جميعاً بالجرب. صار واحدنا يحك جلده حتى ينزف، ثم ظهرت الخراجات المؤلمة. صار ألم الجرب يزيد. وعندما كنا نطلب من السجانين العلاج كانوا يضربوننا.
ورغم كل شيء حنق بعض زملائنا في المهجع على رنس وأخذوا يتناولونه باللوم والدعاء وكفّوا عن مجالسته وتناول الطعام معه! لكنه صبر وظل صامتاً أمام هذا الوضع الصعب. وبالتدريج أخذ جسده يضمحل حتى صار أشبه بهيكل عظمي.
في ظهر أحد الأيام وقع أرضاً. لم يبق فيه ما يتحرك سوى عيناه. عرفنا أنه في حالة احتضار. في صباح اليوم التالي أبلغنا السجان أنه توفي فقال “لفّوه ببطانية عسكرية”. لففناه ووضعناه قرب الباب فنظر إليه السجان وقال: “لم يمت بعد. اتركوه هنا”. وجاء عصراً مع زميله وسحبوه من أطراف البطانية.
لقراءة مدخل وأجزاء الكتاب