في البداية كانوا يضربوننا بكبل كهربائي يسمى "الكبل الرباعي" لأنه مجدول مرتين فيصير رباعياً، ثم تطورت الأمور إلى أنبوب التمديدات الأخضر الثخين. كان يمكن لهذه الأدوات أن تقتل أيضاً، لأن الضرب كان عشوائياً ولم يكونوا يأبهون على أي مكان من الجسم تقع ضرباتهم.
10 / آب / أغسطس / 2020
*المصدر: رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا
اعتقلونا من الكلية الحربية واقتادونا للتحقيق إلى الفرع 293 بدمشق، الذي بقينا فيه أكثر من مائة يوم، ثم حولونا إلى سجن صيدنايا.
عند وصولنا أدخلونا إلى بهو يشعرك بالرعب الشديد بمجرد دخوله، بسبب الأجساد الغارقة في دمها على الأرض، مختلطاً بدماء قديمة متجمدة، تماماً كأنك تدخل إلى مسلخ. سجلوا أسماءنا وأمرونا بخلع ملابسنا لنتعرض لحفلة طويلة من الضرب، ثم أدخلونا إلى الزنازين التي يسمونها منفردات ولكنهم يحشرون فيها العدد الذي يريدونه منا. في زنزانتنا كان السقف يدلف بغزارة وكأنك جالس تحت المطر في الهواء الطلق. أعتقد أن هذا مقصود. قضينا هنا خمسة عشر يوماً نتعرض للضرب بشكل متواتر مع كل وجبة. صرنا نتمنى ألا يصل إلينا الطعام لشدة العذاب الذي تلقيناه والإهانات المرافقة.
عندما صعدوا بنا إلى المهاجع شعرنا أننا انتقلنا من النار إلى الجنة. هكذا ظننا على الأقل، فقد صرنا قدماء هنا ولن يضربونا أو يهينوننا، لقد أصبحنا سجناء فقط. للأسف لم يكن هذا صحيحاً، فقد كانوا يضربوننا بشكل متكرر. بالنسبة للأكل كانوا أحياناً يتركون الطعام خارجاً حتى اليوم التالي، وأحياناً يرمونه على أرض المهجع، وأحياناً يسكبونه على المساجين. كانوا يحضرون الوجبات الثلاثة سوياً، وكانت حصة أحدنا من وجبات اليوم كله لا تشبع طفلاً صغيراً.
في أيام الزيارات فكان كل منا يأخذ زاوية ويدعو ألا تأتيه زيارة، وحتى أننا كنا نتبادل التوصيات، في حال الإفراج عن أي منا، أن يزور أهالي الآخرين لطمأنتهم عنا وأن يطلب منهم عدم زيارة ابنهم السجين إن أرادوا رؤيته حياً ذات يوم، فقد يُقتل نتيجة هذه الزيارة. لأن السجانين يأخذونه من المهجع ضرباً ويعيدونه ضرباً. أحد رفاقي، ابن دعوتي كما نقول، أخذوه يوماً لتلقي زيارة، ولما أعادوه سحلاً تلصصت فرأيتهم يضربونه ببوري معدني مربع طوله حوالي متر ونصف صاروا يستخدمونه في تعذيبنا وكنا نسميه “بوري الموت”، فقد كان قاتلاً بضربتين أو ثلاث فقط.
في البداية كانوا يضربوننا بكبل كهربائي يسمى “الكبل الرباعي” لأنه مجدول مرتين فيصير رباعياً، ثم تطورت الأمور إلى أنبوب التمديدات الأخضر الثخين. كان يمكن لهذه الأدوات أن تقتل أيضاً، لأن الضرب كان عشوائياً ولم يكونوا يأبهون على أي مكان من الجسم تقع ضرباتهم، الرأس أو البطن أو الرجلين او اليدين، وكأن أمامك كتلة صوف عليك أن تنفضها وأنت مغمض العينين. وكذلك الضرب بالبوط العسكري. الدعس بالبوط أصعب من البوري المعدني حتى، فهو يؤدي إلى الموت المحتم لو كان على البطن.
نتيجة قلة الطعام ونقص التعرض للشمس انتشرت الأمراض. وتقريباً كان أي مرض يؤدي إلى الموت، حتى الكريب أو ظهور حبة بسيطة في الجسم، بسبب انهيار مناعة أجسادنا وانعدام وجود الأدوية. كان الطبيب يزورنا كل يومين أو ثلاثة، وحينها كانوا يسألوننا: “مين مرضان”. لم يكن أحد يجرؤ على رفع يده بسبب الخوف من الطبيب الذي كنا نسميه “الجزار”، لأن كل من كان يرفع يده ليبلغ عن إصابته بمرض كان الطبيب يضربه حتى الموت!
في أحد أيام الزيارات جاؤوا ليأخذوا الأسماء المطلوبة. فتح السجان الشراقة علينا ونادى أحد الأسماء. كنا في الوضعية “جاثياً” ووجوهنا إلى الحائط، وكان المخوّل بالإجابة هو رئيس المهجع الذي لم يسمع الاسم جيداً فقال طالباً الإعادة: “نعم سيدي؟”. لم يفهم السجان أن رئيس المهجع يستفسر، بل ظن أن رد بالإيجاب أن السجين المطلوب موجود هنا، ففتح الباب لاصطحابه.
وهنا أعاد زميلنا رئيس المهجع السؤال وسمع الاسم بشكل جيد وقال إنه ليس في مهجعنا. استشاط السجان غضباً واتهم رئيس المهجع بالاستهزاء به، فبطحه على ظهره أرضاً ونادى أربعة منا أمرهم أن يمسك كل منهم بأحد أطراف رئيس المهجع، يديه ورجليه، ثم هددهم أن أي واحد منهم يفلته سيحل محله، وصار يضربه ويقفز ويهوي على صدره، حتى مات. ثم أمر بصب الماء عليه ليتأكد من وفاته. حين دلقوا الماء لم يتحرك الرجل، أو أن الجثة ظلت ساكنة بالأحرى، فأمر برميه في الحمام وخرج. بعد قليل تفقدنا زميلنا فوجدناه حياً لا يزال! غيّرنا ملابسه ومسحنا دمه واعتنينا به، لكن صدره انتفخ في الليلة نفسها ومات أخيراً.
أكثر الحوادث التي جرت معنا مأساوية تتعلق بالحلاقة. عندما كانوا يريدوننا أن نحلق كانوا يرمون إلينا عادة بثلاث أو أربع ماكينات حلاقة موصولة بشريط واحد، نستعملها ويأخذونها عندما ننتهي فيعطونها لسجناء المهجع التالي. في أحد الأيام صدر الأمر: “الكل يحلق” ولم تصل الماكينات. أبلغ رؤساء المهاجع السجانين بهذا فأتاهم الأمر مجدداً: “دبروا حالكن”! وكيف ندبّر حالنا؟!! اعتبر البعض أن هذا مجرد كلام لا يترتب عليه شيء لأن الطلب غير منطقي، فيما قلق آخرون لأن هذا الاحتمال غير مضمون.
كسرنا بعض السيراميك من الحمام وأخذنا نقص شعور بعضنا فخففناها قليلاً بقدر ما استطعنا. في اليوم التالي جاؤوا ورأوا أننا لم نحلق فأخرجوا رؤساء المهاجع في جناحنا وعاقبوهم بالضرب حتى قتل منهم اثنان أو ثلاثة. ثم كرروا الأمر: “بكرة بتكون كل العالم حالقة شعرها”، وخرجوا.
كان التهديد جاداً إذاً!! ولكن ما العمل الآن؟ أخذنا ننسل الخيوط من البطانيات ومن ليفة الجلي وننتف شعورنا ولحانا وشواربنا!!
لقراءة مدخل وأجزاء الكتاب