#########

الضحايا

كتاب “سجن صيدنايا خلال الثورة السورية”: شهادة محمد


كانت كنزتي تشف عن بعض الرؤية. وعند دخولي إلى الصالون لاحظت وجود شخص ملقى في وسط الغرفة، كان شديد النحافة، مجرد جلد وعظم. كان أخي الصغير أحمد المدلل في أسرتنا. كنت أعرف جسمه لكن هزالته شككتني، فدعوت الله ألا يكون هو.

21 / آب / أغسطس / 2020


كتاب “سجن صيدنايا خلال الثورة السورية”: شهادة محمد

*المصدر: رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا


في المذكرات التي أكتبها عن اعتقالي توقفت عندما وصلت إلى هذه القصة.

حدث هذا قبل أن أخرج من السجن بحوالي خمسة أشهر أو ربما أربعة، عندما نادوا اسمي للزيارة… “حط الكنزة براسك” فوضعتها. “امشي يا ابن الكذا… يا ابن الكذا… بدك تاخد الرضا من تبع أمك؟! جاية مرتك تزورك؟ بتكون امبارحة كانت نايمة مع أخوك اللي ضل برّة”.

يصاحب هذا الكلام المؤذي الضرب والركل حتى نصل إلى صالون الحلاقة حيث نتخذ الوضعية جاثياً باتجاه الجدار والكنزات لا زالت تغطي رؤوسنا. وهنا يدخل السجانون فيتسلوا فينا: “منبطحاً… جاثياً”، وأثناء ذلك يدوسون فوقنا ويرفسوننا ويضربوننا بالأنبوب الذي يسمونه “الأخضر الإبراهيمي”، فيما الحلاق يتسلى هو الآخر بضرب الوجوه بماكينة الحلاقة.

كانت كنزتي تشف عن بعض الرؤية. وعند دخولي إلى الصالون لاحظت وجود شخص ملقى في وسط الغرفة، كان شديد النحافة، مجرد جلد وعظم. كان أخي الصغير أحمد المدلل في أسرتنا. كنت أعرف جسمه لكن هزالته شككتني، فدعوت الله ألا يكون هو. يتعلق الإنسان بالأمل مهما كان. عندما أخذ يئن تأكدت أنه أخي.



كان وجهي إلى الحائط فناداني الحلاق/ السجان. حلق بعض شعري وترك قسماً آخر، وجانباً من شاربيّ وترك الطرف الثاني. كان يتسلى. كانت عيناي مغمضتين طبعاً. إن فتحت عينيك سيضربك بالماكينة عليهما.

بعد أن انتهى ركلني لأعود إلى مكاني. أثناء ذلك كان يسأل زملاءه: “هاد الحيوان اللي متسطح بالنص ليش جبتوه؟ خدوه ارموه بالزبالة!”.

وصل الزائرون إلى القاعة المخصصة فأخذ السجانون يذيعون أسماءنا للانتقال إليها. دخل أحدهم وذكر اسم أخي فلم يرد أحد. قال له آخر: “لا يكون هاد الحيوان ابن الشرموطة اللي بنص الغرفة؟”. أهملوا الأمر. وبعد قليل نادوا اسمي وانتبهوا إلى تشابه الكنية واسم الأب فسألني السجان: “أخو الشرموطة أخوك هادا؟! تعا ولا حيوان شيله”. هرعت إلى أخي بلهفة كي أحضنه، أضمه، أحميه بجسمي. لا أعرف. حملته على ظهري. ورغم أن جسمي كان هزيلاً جداً إلا أن وزنه كان خفيفاً. قال لي: “يا أخي أنا تعبان”. لم أدر ما أقول كي أشجعه في هذا الموقف فقلت: “معليش… بيعين الله”. تركوني أصل به إلى باب غرفة الزيارة وهم يستهزئون ويضربوني ويضربوه. عندما وصلت قال أحدهم: “زتّه هون”. أنزلته أرضاً وكانت المرة الأخيرة التي ألمسه فيها.


أدخلوه إلى القاعة، وهنا سأكمل الرواية نقلاً عن والدتي وشقيقتي اللتين كانتا في الزيارة. حمله اثنان من السجانين، أو جرّاه، وكي يستمر واقفاً ألصقا جسده بالشبك وأسنده أحدهم بيده من ظهره. في هذه اللحظة لمحته أختي فقالت لأمي: “ليكي ليكي هادا الشب… كيف أهله بدّن يزوروه؟!!”. فنظرت إليه أمي وقالت: “إي والله خطي… هادا كيف أمه رح تتحمل تشوفه!”. حتى أذاع السجانون الاسم ونادوا أمي قائلين: “هادا ابنك”!


في البداية قالت: مستحيل!”. صارت تحدثه لم يستطع الكلام. فأخرجوه ورموه وقالوا لي: “صار دورك بالزيارة”. دخلت محاولاً التماسك. ماذا أستطيع أن أقول أساساً؟ على يميني سجان وعلى يساري آخر، وورائي ثالث، وبين الشبكين رابع، واثنان مع أهلي. كان الحديث لا يمكن أن يتجاوز “كيفكن؟… شلونكن؟… جيبولي تياب”.

حين انتهت الزيارة وخرجت بادرني أحدهم قائلاً: “تعا لهون أنت يا ابن الكذا”. اقتربت فأمرني بالسجود. أتى أحدهم. كان مثل رجل عصابة، ومعه حوالي العشرة، فسأل الأول عن أخي الملقى أرضاً: “شو هاد؟” فأجاب: “هاد مثّل قدام أهله إنه مرضان!”، فقال: “إي… منعملله تنفس اصطناعي”.


مددوا أخي على ظهره وصار هذا الأخير يقفز ثم يهبط على رقبته. يستحيل أن يغيب عن خاطري صوت شهقته وهو يأخذ نفَساً بين الدعسة والأخرى، فيما السجان يواصل القفز وهو يسأله: “عم تتنفس؟!” فيجيب أخي: “لا”، فيقول: “إي… منكسّرله عضام صدره… بيجوز الرئتين فيها مشكلة”. وصاروا يتقافزون عليه ويركلونه. لم يستطع أن يتكلم، كان فقط يصدر الآهات وشهقات النفَس. وبعدما صار ينزف قال أحدهم: “ليك ابن الكذا عبّاني دم!”.


كنت لا أزال في وضعية السجود، أحدهم يضع قدمه على رأسي، وكلما تكلموا شيئاً يدعسني أكثر ببوطه ويقول: “جهّز حالك… هلق دورك”. في لحظة كهذه ماذا يستطيع المرء أن يفعل؟ قلت في سرّي: “يا رب… هذا حكمك فينا وأنا راض به”.

أخيراً أتى شخص بدا أن رتبته أعلى من الموجودين فسأل عن أخي: “شو هاد؟”. أجابه أحدهم: “هاد فطس”، فقال: “يلا خده”. تهامسوا قليلاً عني ثم قال: “وهاد كمان خده رجّعه”، فأعادوني إلى مهجعي.


  


لقراءة مدخل وأجزاء الكتاب 

⇐ مدخل الكتاب

ج ج2  ج 3 ج4 ج5 ج6 ج7 ج8 ج9