#########

الضحايا

كتاب “سجن صيدنايا خلال الثورة السورية”: شهادة أم علي


خرج في حالة مزرية؛ كان وزنه قد نقص حوالي 20 كيلوغراماً، ولم يغادره الخوف حتى اعتقلوه للمرة الثانية بعد حوالي شهرين. كان ابن عمه نفسه قد كتب تقريراً أشد ولجهة أشرس. جاءتنا قوة مداهمة كبيرة جداً. كنت أضع الغداء عندما وصلوا. طرقوا على الباب بشكل مرعب ثم اقتحموا المنزل وانتشروا فيه.

29 / آب / أغسطس / 2020


كتاب “سجن صيدنايا خلال الثورة السورية”: شهادة أم علي

*المصدر: رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا


بدأت قصتنا عندما قامت الثورة في سورية. كنا نقطن وقتها في الريف الشمالي لحلب، وبعدما بدأ قصف النظام على هذه المناطق اضطررنا للنزوح إلى مدينة حلب، زوجي وأولادي وأنا، واستأجرنا منزلاً.

لزوجي ابن عم مخبر، بينه وبين عائلة زوجي مشاكل قديمة، ولما رأى أننا نزحنا إلى مناطق النظام جاءته الفرصة فكتب في حق زوجي تقريراً أمنياً يتهمه بأنه “إرهابي” فاعتقلوه مرتين.

كان الوقت عصراً حين أتوا في الأولى. كنت وزوجي ووالدته السبعينية في المنزل. طرقوا الباب بقوة. سألنا: “من؟” فأجابوا: “الأمن… افتحوا”. فتحنا، إذ لم نكن نملك خياراً آخر. كانوا عشرين أو أكثر. بادرونا بالشتائم المقذعة والإهانات فوراً. فتشوا المنزل وكسروا ما شاءوا من أثاثه. أحسست أنهم ليسوا بشراً، ليست لديهم رحمة. صارت حماتي ترجوهم ألا يعتقلوه فيجيبونها: “يا أمي ما عرفتي تربّي”. كانوا قد احتجزوه في الغرفة الداخلية وكنا نسمع الشتائم التي يوجهونها إليه. وبعدها اقتادوه حافياً فهرعت وراءهم بحذائه الذي سمحوا لي أن أعطيه إياه.

سارعت إلى اللحاق بهم فعرفت أنهم أخذوه إلى الأمن الجنائي. كانت الأمور سهلة في المرة الأولى. وكّلت له محامياً و”اشتغلنا”. دفعت بين الثلاثمائة والأربعمائة ألف ليرة فتمكنا من إطلاق سراحه بعد شهرين وعشرة أيام. طمأننا المحامي إلى أن أموره سليمة وأن متاعبنا انتهت، غير أن زوجي كان قلقاً فاقترح عليّ تغيير المنزل، وهكذا فعلنا.



خرج في حالة مزرية؛ كان وزنه قد نقص حوالي 20 كيلوغراماً، ولم يغادره الخوف حتى اعتقلوه للمرة الثانية بعد حوالي شهرين. كان ابن عمه نفسه قد كتب تقريراً أشد ولجهة أشرس. جاءتنا قوة مداهمة كبيرة جداً. كنت أضع الغداء عندما وصلوا. طرقوا على الباب بشكل مرعب ثم اقتحموا المنزل وانتشروا فيه. يصعب أن أصف المشهد. الصغار يبكون، حماتي تبكي وتهوي على أقدامهم تتوسل، وأنا كذلك، دون فائدة.

اقتادوا زوجي إلى إحدى سياراتهم واستمروا في التفتيش. كانت في البيت خزانة مقفلة لصاحبة المنزل. التفت قائدهم وقال لي: “هي فيها سلاح”، فقلت: “افتحها سيدي”. كسروها ولم يجدوا شيئاً بالطبع. سرقوا كمية من الدخان كانت في المنزل، وكذلك موبايلي، أما موبايل زوجي فأخذوه معه. كان الموقف صعباً. أذكر أن الجيران عندما سمعوا الأصوات غادروا بيوتهم جميعاً. كانت بنايتنا من أربع طوابق، ولم يبق فيها إلا أنا وحماتي وأولادي، الأكبر في العاشرة، وابنتي في السابعة، والأصغر في الخامسة.

قلت لقائدهم: “سيدي بدي ألحقكن” فوافق. كان يكذب عليّ. إذ ريثما ارتديت ملابسي ووضعت الحجاب كانوا قد غادروا. ليست هذه المرة كالأولى. كانوا قد أخذوا موبايلي ولا أستطيع الاتصال بمن يساعدني، وطرقت أبواب الجيران فلم أجد أحداً، فجلست في الشارع وصرت أبكي.


لشهر بعدها ظللت أحاول أن أعرف شيئاً عنه. دفعت الكثير من النقود وتعرضت للاحتيال حتى عرفت أنه في المخابرات الجوية وأن التهم الموجّهة إليه في التقرير كبيرة، كالمشاركة في القتال إلى جانب الثوار للسيطرة على أحد المطارات، وأنه قتل بعض الضباط. لم أستطع أن أصل إليه هذه المرة على الإطلاق. علمت فقط أنه في فرع المخابرات الجوية بحلب، ولما صار الفرع يتعرض لهجوم الثوار وخافت السلطة من سقوطه نقلوا السجناء، ومنهم زوجي، إلى العاصمة بطائرات الهليكوبتر. هذا كل ما استطعت معرفته.


نتعرض، نحن أهالي المعتقلين، للكثير من عمليات النصب من طرف من يزعمون أنهم يستطيعون جلب أخبار عن رجالنا، وذلك لأن عاطفتنا تسبقنا دوماً. مرّت أيام نمنا فيها دون عشاء وأنا أوفّر النقود لأرسلها لمن زعموا أنهم سيعرفون أين زوجي.

بعدما صار في دمشق انقطعت أخباره غير أنني لم أفقد الأمل. كنت قد صرت الأم والأب معاً وكان هذا أمراً صعباً، لكنك تستطيع النجاح في ذلك إذا توكلت على الله وملكت الهدف. كان هدفي أن يدرس أطفالي جيداً وأن يخرج زوجي فيرى أنني اعتنيت بتعليمهم وأخلاقهم كما كنا نتحدث معاً. كنت أتخيل ذلك فأفرح وأشعر بالقوة، وكان من حولي يشجعونني، غير أني كنت وحيدة في كثير من الأوقات. كنت أبكي بعد أن ينام الأولاد، فما ذنبهم؟ كنت أحاول أن أغطّي على غياب الأب ولكن ذلك لم ينجح دائماً. عندما كنت أصحبهم إلى إحدى الحدائق وأرى أباً يلاعب طفله كنت أحزن كثيراً دون أن أبدي ذلك لهم. مرّت عليّ الكثير من لحظات الضعف، وخاصة مع نمو الأولاد. ابني الأكبر في السادسة عشرة الآن، ولم تكن مراهقته سهلة. لو كان الأب موجوداً لاختلف الأمر.

بعد غياب زوجي صار عناصر المخابرات يضايقونني، كانوا يأتون في بعض الصباحات ويطلبون النقود ويخاطبونني بوصف “زوجة الإرهابي”. قوّاني الله فلم أفتح الباب لهم، ولكنني اضطررت في النهاية إلى مغادرة هذا المنزل الذي يعرفونه منذ اعتقلوا زوجي منه. كنت امرأة وحيدة في السادسة والعشرين مع حماتي وأطفالي. هربنا ذات ليلة في الثالثة صباحاً وسكنّا مع عائلة كبيرة، نازحة هي الأخرى، من أقارب أمي. وأخيراً تنامت مخاوفي فقررت مغادرة حلب. شعرت يومها أنني “خائنة” وكأنني تخليت عن زوجي!


قصة المعتقلين صعبة. كثيراً ما أسأل نفسي: اعتقلوا زوجي نتيجة تقرير، طيب، أليس لديهم ما يسمّى “التحقيق” وعندها سيعرفون كذب هذا التقرير؟ ألا يوجد عندهم ما يسمّى “القضاء”؟ شيء اسمه “عدالة”؟ لكنهم وحوش! كيف يضعون الناس في الأقبية كل هذه السنوات؟ لو علمنا أنه استشهد لترحمنا عليه… دفنّاه، لكن حالة المختفين قسرياً مختلفة. كان الله في عون أمهاتهم وزوجاتهم. نحن دوماً في حيرة؛ هل هم أحياء أم لا. يومياً يراودنا هذا السؤال.


بعد انقطاع ثلاث سنوات وصلني خبر أنه في سجن صيدنايا. صرت أسأل نفسي: هل سيقاوم؟ هل سيتحمّل؟ هل سيصبر؟


  


لقراءة مدخل وأجزاء الكتاب 

⇐ مدخل الكتاب

ج ج2  ج 3 ج4 ج5 ج6 ج7 ج8 ج9 ج10 

ج11 ج12 ج13